إذا كان رمضان قد أصبح مع انتشار التليفزيون شهر الدراما بامتياز، فإنه أيضا يمكننا القول بأن هذا الشهر على قدر ما يحمله من زخم روحاني أصبح موسما سنويا لكتابة التاريخ الاجتماعي والثقافي والفني بشكل واضح، ومن ثم أصبحت الدراما من ضرورات الأمن القومي في ظل تناميها.
ولكن ذلك مشروط بجودة التوظيف الأمثل من حيث الشكل والمضمون لأن تأثير الدراما بفعل التقنيات الحديثة أصبح كبيرا للغاية في الأجيال الحالية، والذي ينبع من أهميتها كمنتج إعلامي يعنى برصد الأحداث وتطوراتها وانعكاساتها على مجمل الحياة العربية العصرية، الأمر الذي أصبحت معه الدراما كمعادل بصري وثيقة تاريخية ومستندا بصريا للتاريخ بتقلباته.
ومع تجسد الأحداث اليومية أصبحت الدراما تشكل النواة الأساسية للتاريخ الإنساني الحديث، حتى أصبح السرد التليفزيونى هو البديل المثالي لتسجيل حركة التاريخ القادمة من رحم تلك الأحداث، لذا نادى الرئيس عبد الفتاح السيسي في رمضان 2025، بضرورة أن تكون الدراما المصرية إيجابية في رسائلها.
جراء تطور صناعة الفعل الدرامي وانعاكساته الواضحة على الحياة العربية في ظل الثورات المشوبة بالتمرد والعصيان بفعل توفر حرية التعبير على مواقع التواصل الاجتماعي التي حولت حياة الإنسان من حياة افتراضية إلى حياة فعلية بفضل التكنولوجيا الحديثة. وتأكيدا لنبوءة أرسطو في (كتاب الشعر) التي تقول: (إن التاريخ يكتب الأحداث كما وقعت، ولكن الدراما تكتب الأحداث كما كان ينبغي أن تقع)، علينا أن ندق ناقوس الخطر لإيقاظ الضمير ومواجهة أشكال الدراما الهابطة المدمرة والاحتفاء بكل أنواع وأشكال الفن الراقى الذى يعلى من شأن القيمة والمعنى.
ويخاطب صناع الفن بوجه عام ، بعد أن عشنا قبل عدة سنوات مضت مواسم درامية في رمضان فوضوية هى الأسوأ من ناحية الموضوعات التي غرقت في براثن العنف والغضب، وسفك الدماء وقتل الآباء وسب الأمهات، وسرقة المليارات، والذهاب بالخيال التجاري الواهي إلى داخل قصور فخمة، أومقاعد وثيرة ومخادع مخملية لاتدنو من قضايا البسطاء والمعذبين في الأرض إلا على جناح العشوائيات.
وأوكار المخدرات في تكرار ممل يخاصم جماليات الفن في جوهره الأصيل، وضياع الهوية والوطنية المفقودة في حربنا الحالية ضد الإرهاب، ويصيب الناس في نهاية المطاف بالأذى.
ظني أن المشاعر الدينية التي يستثيرها شهر الصيام تدفع الناس صوب المسلسل التاريخي الذي تسكنه الجذور، ويردد صدى الأجداد ويحفظ ملامح الهوية التي تعرضت للكثير من المؤثرات الخارجية، وفي ظل فقداننا لهذه النوعية من المسلسلات يبقى للأحداث المعاصرة صدى أكبر ومذاق مختلف من خلال الأعمال الاجتماعية والبطولات العسكرية والكوميديا والإثارة والفانتازيا وغيرها، والتي نلحظ تطور صناعتها المذهلة يوميا على مستوى الشكل والمضمون.
ومن هنا يطرح السؤال نفسه على الفور: هل الدراما الحالية فعلا قادرة رسم المستقبل المنشود بحسب تعريف أرسطو؟، وهنالك شق ثان للسؤال وهو: هل بمقدورها أن تحدث نوعا من التأكيد على التمسك بالهوية الوطنية.
الواقع العملي يؤكد ذلك قياسا بما عشناه من خلال مسلسلات (رمضان 2025) ، وما بعده من مواسم طوال السنة، يلزم في كل تلك الأعمال أو في غالبيتها إلى التأكيد على الهوية.
ولعل ظاهرة استحواذ النجوم الشبان على سباق المسلسلات بالكامل في رمضان2025، وهو الأمر الذي يشكل انعكاسات إيجابية على منصات العرض، وكذلك في عادات المشاهدة، ونوعيات الجمهور، وذلك على الرغم من براعة بعض وليس كل منهم.
ومن هنا يتضح لنا بأن الدراما أصبحت من ضرورات الحفاظ على الهوية الوطنية ومن ثم ترقى إلى مستوى الأمن القومي المصري للأسباب التالية:
أولا: لأن الأمن القومي يتمتع بعدد من العناصر المكونة له، والتي عند الوفاء بها على حدة، فإنها توفر الأمن للدولة فيما يتعلق بقيمها ومصالحها وحرية اختيار السياسات بها، وتسرد السلطات على اختلافها هذه العناصر بصورة متباينة، ويتم بشكل شائع أيضا إدراج الجوانب المتعلقة بالسياسة والمجتمع والبيئة والطاقة والموارد الطبيعية والاقتصاد.
وترتبط عناصر الأمن القومي ارتباطا وثيقا بمفهوم عناصر القوة الوطنية والتي تلعب القوى الناعمة ومن بينها الدراما التليفزيونية فيها دورا كبيرا، لأنها تخاطب المشاعر وتركز على القيم وتقدم نماذج مثالية في الفداء من أجل الوطن.
ثانيا: كما في حالة القوة الوطنية، يكون الجانب الأمنى هو المهم، ولكنه في الوقت نفسه ليس المكون الوحيد للأمن القومي، وحتى يتحقق الأمن الحقيقي، تحتاج الأمة إلى أشكال أخرى من الأمن الذي تصنعه الدراما على جناح سحر الصورة ومن هنا تختلف السلطات وفقا لخيارات كل منها في تحديد عناصر الأمن القومي للدولة.
فعلى مدار سنوات، كان هناك نقد متكرر لاذع لأشكال من الدراما المقدمة، وكانت فى المشهد أيضا أعمال جيدة الصنع، يعول عليها فى حفظ صورة الدراما المصرية وضمان قوة تأثيرها، محققة جانبا من جوانب الارتقاء بالذوق العام، وتسليط الضوء على المجتمع بالعلاج والإصلاح. وتقديم قدوة جيدة، لنفهم أن المسلسلات تحديدا (باعتبارها الأطول مشاهدة) من أدوات الحفاظ على الأمن الثقافى والاجتماعى والفكرى.
ثالثا: تلعب الدراما دورا مهما في تحصين المجتمع، ليصبح بها العمل الناجح (بمعايير تعزيز الهوية المصرية) تنقية للفكر العام من شوائب الفساد والإفساد، ومواجهة للأفكار المدمرة والموجهة للدولة بكل مكوناتها، كرصاص مغموس (بالسيانيد) إن لم يقتل بالخرق يقتل بالسم، وصولا للحفاظ على الأمن والسلم العام الداخلى.
لذا فإنني يقينا أعتبرها واحدة من أدوات (الأمن القومى المصرى) حاليا، ومما سبق، ستجد هذه المقومات قد تطابقت مع بعض الأعمال الدرامية فى تاريخنا، مثل الأشهر والأبرز مسلسل (رأفت الهجان)، الذى استلهم منه العالم العربي، وليس المصريين فقط روح البطولات الحقيقية، وأثار الغيظ والغل فى نفوس العدو وقتها.
وعلى مستوى الصناعة فقد أصبحت تفاصيل (رأفت الهجان) بما فيها موسيقاه، كلاسيكية وأيقونة للمصرية والوطنية، فكان ولا يزال له تأثيره على المواطن وانتمائه، ثم غاب عن المشهد بصورة كبيرة مثل هذه الأعمال ذات الطابع الوطنى الحديث شديد التأثير منذ حلقاته الأولى والتى يلتف حولها المصريون والعرب، بحثا عن روح الانتصار للأرض أو للإنسانية، أو تمسكا بالعقيدة الأزلية (الشرف).
حتى ظهر علينا فى رمضان 2020 ملحمة إنسانية وطنية درامية رائعة تسمى (الاختيار) موثقا لبطولات المصريين جمعاء عبر الجيش المصرى، مجسدا قوة الشهداء والأحياء مثل المقدم الشهيد (أحمد منسى) ورفاقه، رحمهم الله.
معطيات الأمن القومي
رابعا: لقد شاهدت بعينى ذلك الشغف عربيا ومصريا بهذا المسلسل، وليتحقق من خلاله كل ما سبق الحديث عنه من معطيات الأمن القومي وكون الدراما أداة لها، لنشاهد حالة لحمة نفسية وفكرية جديدة داخل المجتمع المصرى، ونرى أيضا حريقا بلا هوادة فى نفوس الأعداء من جماعة الإخوان الإرهابية فيهيمون ويضربون بكراهيتهم على الأرض وفى الفضاء الإلكترونى.
لكن ربك بالمرصاد، والمصريون تحصنوا، ولذلك فإن دراما مسلسل (الاختيار) التى صنعت بحرفية عالية فى مجمل تفاصيلها قد تكون لها تكلفة مادية كبيرة تفوق عوائدها، لكنها تحقق مكاسب عظمى فى الحفاظ على الأمن القومى المصرى والعربى أيضا، فالمجد والسكينة لأبطال الوطن، أحياء وشهداء، والنجاح والفخر لكل من قرروا الانتصار لوطنهم بالقوة الصلبة والناعمة وتوثيق شرف البطولات بـ (الاختيار).
والدراما باعتبارها من أهم أدوات القوى الناعمة في وقتنا الحاضر يفترض إخلاصها في اختيار الموضوعات ذات الطابع الاجتماعي المفيد الذي من شأنه علو الشأن الوطني لصالح الوطن، ومن ثم يقع عليها عليها العبء الأكبر في اتساع (مغناطيس الجذب) للطاقات الخلاَّقة لقوى الشباب. عن طريق شن الحرب الثقافية العقلانية لتغيير المفاهيم الوطنية وتشذيبها من كل ما يخالف المنطق والعرف في التراث الديني بالذات ـ وبخاصة نظريات عدم قبول الآخر سياسيا وعقائديا ـ وهى اللعبة التاريخية التي ينتهجها الغرب منذ طرد الاحتلال العسكري من الشرق الأوسط ، فكان الالتفاف عن طريق إثارة النعرات القبلية والطائفية والمذهبية بين الدول العربية والعالم الثالث بوجه عام..
وتلك الأفكار نتمنى تجسيدها واقعيا لأجل غرس كل ما يحض على تقوية الوازع الوطني والارتقاء بالشعور بالذائقة الجمالية وتنمية الثقافة المعرفية بكل الشفافية بأوضاع الوطن وتحدياته الآنية والمستقبلية.
ومن هنا يلزمنا في الفترة القادمة، إذا كنا نحب هذا البلد ونتمنى لها مستقبلا مبشرا، فعلينا تقديم حلول لكثير من المشكلات التي تعوق حركة المستقبل من رحم الفن، ومنه (الدراما) التليفزيونية، ويكون فكرنا في الدراما خارج الصندوق، حتى نحفز الناس على التفكير خارجه.
أما غير ذلك فإنه يعني عدم قدرتنا على صنع مستقبل هذا الوطن أو أننا لسنا على قدر اللحظة الراهنة، وبالتالي نجلس على كرسي بعيدا عن المشهد، لأننا في معركة مع الذات، ولايلزمنا أن نعيش عصرا مخمليا ينتمى لأزمنة سابقة، بل لدينا تهديد ووعيد وإرهاب واضح يخاصم تأكيد الهوية والحث على التنمية.
(الدراما) تحكمها الفهلوة
للأسف الشديد فإن غالبية أعمال (الدراما) الحالية تحكمها عناصر الفهلوة والأحكام المطلقة على مستوى المعالجة المباشرة لكثير من القضايا التي تضرب عرض الحائط بالعادات والتقاليد العريقة، تلك التي ترسخت في باطن التربة المصرية من آلاف السنين، وصنع الأجداد على صخرتها المتينة أعظم حضارة في التاريخ أفسدها الأحفاد دراميا.
المحطات الفضائية أصبحت عبارة عن معدة جائعة تبحث عن طعام جيد وطازج ومفيد للصحة العامة ومنها العقل، لماذا إذن نصر على أن نقدم لها وجبات الـ (جانكفوود) بتوابله الحارقة للقيمة والمعنى، خاصة أننا نعيش مرحلة تعد من أخطر مراحل تاريخ مصر الحديث بين مطرقة وسندان الإرهاب والعنف.
وهو ما يجبرنا رغما عنا بأن نقدم له الدعم المادي الكافي، تماما كما ندعم الجندي الرابض على خط النار لحماية الحدود، وليس هذا الدعم للدراما نوعا من الترف، بل لأنها تحمي الجبهة الداخلية بالمثل النبيلة التي تجنبا الانزلاق نحو حافة الهاوية.
أقولها بصرخة مدوية: هل تريدون فنا جيدا حقا؟، وهل ترغبون في بناء مجتمع سليم؟
عليكم جميعا إذن ودون استثناء طرف من اللعبة ألا تكتفوا بدعم معنوي، بل ارصدوا ميزانية، كي نغدوا مقاتلين عن كسب في قلب معركة الدفاع عن الإنسان المصري، والحفاظ على روحه الشرقية وهويته العربية والدينية.
فالفن الجيد صار أمضى سلاح لتحقيق الحلم القومي الكبير، ومصر لديها كتاب جيدون إلى جانب فنانين كبار ومخرجين مبدعين ينقصهم فقط دعم مادي معقول كي يجنبهم الوقوع في بحيرة آسنة من اليأس والإحباط والعشوئية.
ولننظر إلى أمريكا التي صنعت أسطورتها العظمى من قلب إبداع هوليود، وكذا الهند ذلك البلد النامي الذي خرج من بوتقة التخلف الاقتصادي على بساط السينما، وقدمها للعالم كدولة متحضرة على فقرها حتى وصلت إلى مصاف الدول الكبرى.
ومن هنا نطالب كل القائمين على البث التليفزيوني أن يقفوا وقفة رجل واحد في مثل هذه الأوقات العصيبة بشفافية وتجرد ويضعوا خطابا إعلاميا جديدا وبناء جادا، قوميا عربيا يهتم بفحوى ما يقدمونه للشباب على شاشاتهم من مواد درامية أو برامجية، وبعودة الأغنية الوطنية والعاطفية الراقية على لشاشاتهم التي تمس القلوب وتعبر عن الوجدان الحقيقي للمواطن في مصر والعالم العربي.
ومن هنا أؤكد: لا توجد أزمة في صناعة (الدراما) المصرية، في إمكانات القطاع الخاص أو العام، بل الأزمة الحقيقية موجودة في القطاعات الإنتاجية الثلاثة التي بها (أزمة إدارة - أزمة توزيع - أزمة علاقات عامة - أزمة عدم فهم بما يقدمونه للسوق العربي ومتطلباته الحقيقية) فضلا عن أزمة علاقتهم مع العالم العربي وهو السوق الحقيقي للدراما المصرية.