تحولت الدراما التليفزيونية من كونها مجرد لون من ألوان الترفيه إلى وسيلة تستخدمها الدول لإيصال رسائل بعينها مثلما تم استغلال الأفلام السينمائية من قبل لهذا الغرض.
وهو الأمر الذي تنبهت إليه دول عديدة وبدأت في استغلال المسلسلات للترويج السياحي لها مثل المكسيك والبرازيل وتركيا وغيرها.
نجحت المسلسلات في مهمتها وحققت الغرض السياحي منها لهذه الدول بعد انتشارها على الشاشات وعبر المنصات الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي وبسببها زاد الإقبال السياحي على تلك الدول بل وتصدر بعضها قائمة الأكثر جذبا سياحيا في العالم.
على الصعيد العربي تتسيد الدراما التليفزيونية المصرية المشهد الدرامي برمته من محيطه إلى خليجه منذ ستينيات القرن الماضي وتحديدا مع بداية الإرسال التليفزيوني في يوليو 1960 وانطلاق الأعمال الدرامية الأولى مثل هارب من الأيام والقاهرة والناس والضحية وغيرها ومازالت تحظى بنسب مشاهدة عالية جدا وتحتل نصيبا من مساحات البث اليومي على الشاشات المصرية والعربية على حدا سواء.
ساهم انتشار المسلسلات إلى جانب الأفلام والأغنيات في تقريب اللهجة المصرية من الأذان العربية وتحولت إلى لهجة تجمع قلوب العرب قبل آذانهم.
لعبت الدراما المصرية أدوارا وطنية عديدة من خلال الأعمال التي رسخت مفهوم الانتماء لدى المصريين، وتنبه المسئولون عن خريطة الإنتاج الدرامي لهذا الدور فكان الحرص على إنتاج أعمال توثق البطولات المصرية وفي نفس الوقت توسع من قاعدة الانتماء فوجدنا مسلسلات مثل رأفت الهجان ودموع في عيون وقحة وما زالت تتصدر قوائم كلاسيكيات الأعمال التليفزيونية رغم مرور مايزيد على الـ30 عاما علي إنتاجها.
حظيت خرائط الإنتاج الدرامي لسنوات طويلة بتنوع فريد في الأعمال المنتجة إلى جانب الأعمال الوطنية وجدنا أعمالا ترسخ لجذور الشخصية المصرية وهويتها فوجدنا مسلسلات تحمل بصمة كاتب بحجم أسامة أنور عكاشة مثل على أبواب المدينة والمشربية وليالي الحلمية والشهد والدموع وأخرى لوحيد حامد مثل العائلة والبشاير وسفر الأحلام وبدون ذكر أسماء وثالثة لمحسن زايد كرائعة نجيب محفوظ حديث الصباح والمساء ورابعة للكاتب يسري الجندي مثل علي الزئبق والتوأم وخامسة لمحفوظ عبد الرحمن مثل بوابة الحلواني وغيرها من الروائع الدرامية التي تجاوزت نجاحاتها الحدود وأبرزت الجذور والهوية المصرية الخالدة.
لذلك ليس بغريب حرص القنوات والفضائيات الدرامية المتخصصة على إعادة عرض هذه الأعمال أكثر من مرة في العام نتيجة الإقبال الكبير على مشاهدتها خاصة أنها دائما ماتتفوق على الإنتاجات الدرامية الحديثة في نسب المشاهدة وجلب الإعلانات أيضا.
مع بدايات العام 2011 عانت صناعة الدراما كصناعات أخرى نتيجة الظروف والأحداث التي عايشتها دول الربيع العربي لدرجة توقف جهات إنتاج كانت تتولى بمفردها إنتاج مايزيد على ثلاثة أرباع حجم الإنتاج الدرامي المصري سنويا مثل قطاع الإنتاج وصوت القاهرة ومدينة الإنتاج الإعلامي لذلك كانت الفرصة سانحة لجهات إنتاج غير مصرية علي نزول الملعب وتقديم أعمال لاتبحث فيها عن رسائل أو مضامين قدر ماتبحث فيها عن تيمات تجذب بها المشاهد وتغازل بها جوارحه.
لذلك ارتكبت جرائم درامية شنيعة تحت مسمى دراما شعبية وتحولت فيها الحارة المصرية رمز الأصالة والجدعنة إلى ساحات اقتتال بكل الأسلحة وأصبح الحوار فيها يحتوي على ألفاظ وشتائم كانت من المحرمات الرقابية في وقت سابق.
تنبهت القيادة السياسية مبكرا وحذرت من حالة الانحراف الدرامي عن المسار الإبداعي والاتجاه إلى تقديم أعمال تهدد المجتمع بدلا من أن تسهم في بنائه فوجدنا حالة فوران بين جهات عديدة خرجت وأعلنت عن أطروحات عديدة مابين مؤتمرات وندوات واجتماعات لمناقشة أزمات صناعة الدراما وتقديم توصيات وأليات لعلاج أوجه القصور بها وتقديم روشتة علاج لها.
بنظرة متأنية للدراما المصرية في رمضان 2025 نجد أن الموسم كان من أجود المواسم الدرامية خلال الأعوام الخمسة الأخيرة. تنوعت فيه الأعمال واتسمت بالجرأة في التناول والطرح ودخلت في مناطق شائكة لتلقي الضوء على قضايا مسكوت عنها قدمتها بصورة تحترم عقلية المشاهد وإنسانيته.
بـ 39 مسلسلا تقريبا خرجت علينا الفضائيات والمنصات المختلفة في الموسم السنوي الأهم والأقوى دراميا بمائدة دسمة تنوعت أطباقها الرئيسية مابين أعمال الـ30 حلقة والـ15 حلقة مسلسلات قليلة منها غردت في السماء بينما البعض الآخر مر مرور الكرام.
بمسلسلات لام شمسية وولاد الشمس وقهوة المحطة وظلم المصطبة والنص والشرنقة وتقابل حبيب وإخواتي وقلبي ومفتاحه وحسبة عمري وأشغال شقة جدا و80 باكو اقتحمت الدراما مناطق جديدة اكتسبت بها أرضا خصبة لطرح موضوعات لم يسبق أن تناولتها من قبل.
في قراءة سريعة لعدد من مسلسلات الموسم نجد أن مسلسل لام شمسية قد أصاب أكثر من هدف أولها القضية الحساسة التي طرحها وهي التحرش بالأطفال.
رغم الأشواك التي سار عليها صناع العمل في مراحله المختلفة من الكتابة والتحضير لتصويره إلا أن المحصلة النهائية جاءت بمسلسل يضاف إلى الأعمال الدرامية المميزة ليستحق معها أيضا لقب الأجرأ في تاريخ الدراما المصرية.
تعامل المسلسل مع قضيته الرئيسية بحساسية شديدة حرص فيها فريق عمله على الاستعانة بخبير نفسي رافق الطفل علي البيلي خلال فترات التصوير حتى لايتعرض للإيذاء النفسي بسبب قسوة الأحداث.
إذا كانت الانتقادات قد طالت ظاهرة ورش الكتابة التي انتشرت في الأونة الأخيرة واعتبرها البعض أحد أهم أسباب انهيار مستوى الدراما التليفزيونية فإن مسلسل لام شمسية ساهم في تعديل الصورة وتصحيحها.
شكل فريق عمل المسلسل سيمفونية من التناغم الشديد بدءا من قائدة فريق الكتابة السيناريست مريم نعوم مرورا بنجوم المسلسل أمينة خليل وأحمد السعدني ومحمد شاهين ويسرا اللوزي وصفاء الطوخي وصولا إلى مخرجه كريم الشناوي دون أن نتجاهل الدور الذي لعبه المنتج محمد السعدي في تبني العمل وإخراجه للنور.
وفي مسلسل ولاد الشمس كانت ظاهرة استغلال نزلاء دور الأيتام في أعمال مشبوهة هي التيمة الرئيسية للعمل لكن المسلسل قدم هو الآخر رسائل متعددة في مقدمتها أهمية التواصل بين الأجيال الفنية بتواجد الفنان الكبير محمود حميدة على رأس فريق التمثيل ومعه ممثلون شباب مثل أحمد مالك وطه الدسوقي ومريم الجندي وفرح يوسف ومؤلف شاب هو مهاب طارق ومخرج شاب أيضا هو شادي عبد السلام ليشكل العمل في النهاية لوحة فنية شديدة العذوبة والإنسانية.
أيضا تحفيز العمل لجهات إنتاج تليفزيونية وسينمائية على المغامرة بأعمال جديدة تنتج خصيصا لمواهب شابة وواعدة دون خوف من حسابات السوق.
الرومانسية كانت حاضرة وبقوة هذا العام من خلال مسلسل وتقابل حبيب من تأليف عمرو محمود ياسين وبطولة ياسمين عبدالعزيز وكريم فهمي وخالد سليم ونيكول سابا ومن إخراج محمد الخبيري عمل يضيف الكثير لصناعه ويحقق لهم خطوات على الشاشة.
الكوميديا كان لها نصيب أيضا في الموسم بعمل مميز هو أشغال شقة جدا الذي واصل فريقه هشام ماجد وأسماء جلال ومصطفي غريب ومؤلفوه شيرين وخالد دياب العزف علي كوميديا الموقف دون استظراف فاستحق العمل أن يحجز له مكانة في قائمة المميز والأكثر مشاهدة خلال الموسم.
الشباب هم كلمة السر في دراما رمضان هذا العام سواء على مستوى الكتابة أو التمثيل أو التصوير أو الإخراج لذلك حملت الأعمال روحا جديدة في نوعية الدراما المقدمة شعر بها الجمهور وتحمس لها وساندها بإقباله علي متابعتها وتحليلها في فيديوهات انتشرت خلال الشهر الكريم على منصات التواصل الاجتماعي.
لايمكن إنكار النجاحات التي حققتها الدراما هذا العام على مستوى الطرح وفي كل الأفرع الفنية لكن في نفس الوقت لا يجب أن نتغافل شديد احتياجنا إلى دراما تخاطب الوعي والعقل وتسهم في الحفاظ على الجذور والهوية المصرية وما أحوجنا إليها في هذه الأيام التي يعيش فيها العالم حالة من الغليان السياسي والاقتصادي والاجتماعي.