تبقى الدراما والمجتمع وجهين لعملة واحدة، مواطن يلعب دور البطل ووطن يتنفس على الشاشة يعكس واقعه وأحلامه وآماله وآلامه، وكأن الحالة الدرامية برمتها هدفها الأسمى والضرورى أن تلعب دور التوثيق وتسجيل واقع وتطور المجتمع من ناحية، واستشراف للمستقبل من ناحية أخرى، وهو ما يستلزم وجود كتاب متخصصين واعين ومفكرين وشخصيات فى صورة أبطال ملهمين ليتركوا بصمة واضحة بتاريخ الدراما التليفزيونية، بأعمال تمتد سنوات كأيقونة لا تغازل غرائز وإنما تغازل روح وعقل وقلب.
نعم مرت فترة الثمانينيات بمرحلة خصبة فى الدراما قادها كتاب ومخرجون ونجوم غزلوا من حالة الوطن سياسيا واقتصاديا واجتماعيا أعمالا كبيرة وخالدة مثل أسامة أنور عكاشة، بأعماله الأيقونية مثل سلسلة «ليالى الحلمية»، و«الشهد والدموع»، و«وزيزينيا»، و«رحلة السيد أبوالعلا البشرى»، و«أرابيسك»، كما شهدت هذه الفترة محفوظ عبدالرحمن بأم كلثوم وبوابة الحلوانى، وليلة سقوط غرناطة، ووحيد حامد بالعائلة والجماعة، ومجدى صابر بعائلة الحاج نعمان، والوجه الآخر وأفراح إبليس، وغيرهم ممن تفاعلوا مع قضايا إنسانية تهمس فى أذن الوطن، كانت لديهم تلك النظرة الاستشرافية.
وهنا يكمن الدور الأكبر الذى يمكن أن يلعبه المؤلف، بصحبة مخرجين وأبطال يسعون لصناعة تاريخ، وهى النقطة التى تاهت إلى حد ما مع مرور الوقت وتغير العصر والاستسلام لمفاهيم تسويقية فرضت نفسها أو فُرضت علينا، وفى مرحلة لاحقة وبالتحديد ما بعد ثورة 25 يناير 2011، وهى مرحلة تحول أكيد فى الدراما المصرية. وشهدت هذه الفترة زيادة الاعتماد على «ورش الكتابة». وخرج من هذه الورش جيل من الكتاب الشباب الذين اهتموا بنقل الجوانب العنيفة بالواقع ما بين خط «العشوائيات» و«جريمة الشارع». ويعاب على هذه المرحلة إغراقها فى معجم لفظى بالغ السلبية وتصوير سلبى للمرأة، فهى إما فقيرة ومتدنية، وإما ثرية ومتنمرة.
وحتى لا نظلم الموجة الحديثة ونجعلها فى حالة انفصام عن عصر الريادة، الواقع أن هناك فى الجيل الحالى من يملكون الإبداع والقدرة على إرضاء المشاهد بتقديم أعمال واعية ومتميزة بمفرداتها الإبداعية عندما اختاروا المنطقة السليمة التى تظهر مكانتهم وتلتحم مع وجدان المتلقى، وحققوا نجاحا كبيرا بجرأة الحلم وتحقيقه. والحقيقة هناك عدة عناصر ساهمت فى تتويج الناجحين بامتياز باحتلال منصة الإبداع ونيل كأس الرضا والإعجاب والتألق، منها أولا ذكاء الاختيار سواء للدور والشخصية أو العمل ككل، وثانيا الاجتهاد واستدعاء المهارات أمام الكاميرا وخلفها، وهنا أقصد نجوم التمثيل والإخراج والتأليف أيضا، وثالثا إرادة التغيير والقدرة على التنوع والاختلاف والإبهار كل العناصر الفنية التى تشكل البنية الأساسية، بدءًا من الحبكة والشخصيات، وكيف أن كل شخصية لها تأثيرها الفريد على تلك الحبكة، والأسلوب والفكر. من النماذج العصرية الناجحة من باب التذكير "الاختيار"، "مسار اجبارى"، "الحشاشين"، "ولاد الشمس"، "لام شمسية"، "قهوة المحطة"، "ظلم المصطبة"، "قلبى ومفتاحه".
الفن الراقى الهادف الأصيل له دور كبير وأثر فعّال فى الارتقاء بمستوى الوعي. ومنذ انطلاق أول بث تليفزيونى مصرى فى 21 يوليو 1960، اكتسبت الدراما التليفزيونية تأثيرا جارفا على المجتمعين المصرى والعربى، وعلى تكوين ثقافته ووعيه، فكانت دوما ولا تزال إحدى الأدوات الرئيسية الموجهة للرأى العام حول القضايا الشائكة.
وهنا علينا العودة إلى تنوع ركائز الإنتاج الدرامي كما كان يمارس من قبل من خلال قطاعات الإنتاج، ومدينة الإنتاج، بصوت القاهرة وعدم تغليب منطق الربح، ومنطق "النجم هو رقم واحد" فى العملية الإنتاجية. والذى أثر سلبا ولفترة على دوري المؤلف والمخرج وفكرة الرسالة المجتمعية.
يجب أن يكون النهج السائد في الإنتاج الدرامي يعتمد على مناقشة المشاكل الفعلية للطبقة المتوسطة" وعلى الرغم من تناول بعض الأعمال الرمضانية الواقع الاقتصادي على استحياء، مثل مسلسل "أعلى نسبة مشاهدة" عام 2024، ومسلسل "80 باكو" هذا العام، إلا أنه يمكن القول إنها تظل في المجمل بعيدة عن الاشتباك الحقيقي مع الواقع الاجتماعي ويتكرر في هذه الأعمال تصوير ممثلات وممثلين معروفين بمجيئهم من خلفيات "أعلى" في السلم الطبقي مقارنة بتلك التي تأتي منها الشخصيات التي يجسدونها، فنراهم في بعض الأحيان يحاكون طريقة كلام سكان المناطق الأكثر فقراً وطريقة لبسهم وحركاتهم، كما يتصورونها، ولكن ذلك لا يتعدى في الغالب المحاكاة الخارجية أو التنميطية التي تظل بعيدة عن عمق الصراع الطبقي.
وتدور أحداث هذه المسلسلات في بيئات فاخرة مثل الكومباوندات، حيث تُبنى القصص حول شخصيات تعيش أنماط حياة متحررة فى حالة من الانفصال عن الواقع، و"هي المسلسلات الشعبوية التي يقدمها مثلاً محمد سامي، مثل مسلسل جعفر العمدة، وقبله الأسطورة، وهما عملان من بطولة محمد رمضان، وبعدهما سيد الناس، وإش إش.. نجد في هذه الأعمال عرضاً شعبيا لطبقات عليا وأخرى دنيا، ولكنها في الغالب قائمة على صورة الذكر المنفرد الذي يصارع الأشرار
وخلال السنوات الأخيرة، أصبح هذا النوع من الدراما الشعبية يهيمن على جزء من المشهد، حيث تكررت الشخصيات والأحداث في أعمال ممثلين مثل عمرو سعد، ومصطفى شعبان، التي تدور قصصهما حول "الرجل القوي" الذي يحل الأزمات وينتصر في النهاية، بينما تتصارع النساء عليه.
أيضاً الجمهور يتابع هذه الأعمال وهو يعلم أن الشخصيات والأحداث التي تعرضها "لا تمتّ إلى الواقع بصلة".
هناك حالة من النشوة أثناء المشاهدة، لكن بعد أسبوع من انتهاء المسلسل، ينساه المشاهد تماماً، مما يعكس هشاشة هذه الأعمال وعدم ارتباطها الحقيقي بحياة الناس".
الحل يكمن فى ظهور بعض الأعمال التي تحاول استعادة الدور الحقيقى للدراما المصرية الرائدة، ونحن نملك ذلك.