ما أشبه الليلة بالبارحة، والليلة المقصودة هي ثورة الشعب المصري في الثلاثين من يونيو عام 2013 والبارحة هي ثورة نفس الشعب والتي اندلعت في التاسع من مارس عام 1919 وللمصادفة فإن كلتا الثورتين اندلعتا يوم الأحد، بالطبع فإن ثورة 1919 كانت ضد الاحتلال الإنجليزي واحتجاجا على القبض على الزعيم سعد زغلول ورفاقه وشارك فيها كافة طوائف الشعب وأديانه من مسلمين ومسيحيين وخرجت فيه المرأة لأول مرة للمشاركة وإظهار دورها الجديد وكان من نتائج هذه الثورة إعلان الاستقلال في عام 1922 وإصدار دستور عام 1923.
أما ثورة الثلاثين من يونيو فالأمر مختلف، فهي لم تكن ضد استعمار خارجي ولكنها جاءت نتيجة فشل جماعة ادعت الوطنية وأن أفرادها من المصريين حين حاولت فرض استعمار جديد مرتبط بتنظيم دولي لا يعرف قيمة أو معنى للوطن بقدر ما يدين بالولاء للجماعة ولأهدافها ولسنا هنا بحاجة إلى تكرار الحديث عن هذا العام الأسود ولا عن أهداف تلك الجماعة وأساليبها الملتوية في محاولة الوصول إلى تلك الأهداف واستخدامها لسطوة الدين وقدسيته كوسيلة لا تفشل أبدا مع أي إنسان مؤمن ولديه عقيده شريطة أن يكون مغيب الفكر أو محدود المعرفة والفقه في الدين، لا داعى أيضا إلى الحديث عن الممارسات الساذجة واستعداء كافة مؤسسات الدولة وأفراد الشعب العاديين-ماعدا افراد الجماعة- في محاولة للبقاء على سدة الحكم في مصر لخمسة قرون بحسب ما صرح أحد القيادات بالجماعة وخلال تلك الثورة والتي وقع فيها 22 مليون مصري على استمارات رفض الجماعة "تمرد" و خروج 33 مليون مصري إلى الشوارع والميادين في أكبر عملية رفض واحتجاج في التاريخ شاهدها العالم كله، خلال تلك الثورة حاولت الجماعة العودة إلى الأسلوب القديم في محاولة تفكيك النسيج الوطني وإحداث الوقيعة بين المسلمين والمسيحيين بإحراق عدد كبير من الكنائس في كافة ربوع الوطن وهى المحاولة التي تصدى لها المسيحي والمسلم في تماسك أخزى الجماعة وأفرادها ولا ننسى في هذا التوقيت تصريح البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكنيسة المرقسية للأقباط الأرثوذكس أن "وطن بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن"، وهو قول وطني شديد القرب من مقولة مكرم عبيد أحد الخطباء المفوهين لثورة 1919 والذى ظلت شخصيته وسيرته أبرز النماذج الدالة على وحدة مصر الوطنية حيث تظل مقولته الشهيرة "مصر ليس وطنا نعيش فيه إنما هي وطن يعيش فينا" من أشهر وأهم المقولات الوطنية التي تكشف عن المعدن الأصيل لهذا الشعب الذى يقاوم وبضراوة كل محاولات إيقاع الفتنة والتفتيت فهو لا يرى إلا الوطن ولا يلتف إلا حوله ويؤمن إيمانا راسخا بالتوحيد والتكاتف حتى وإن بدا للرائي غير الخبير بهذا الشعب أن تلك الأواصر وهذه المفاهيم قد قلت أو أصابها الوهن والضعف.
فالتوحيد المقصود للمصريين هنا لا يقصد به توحيد عنصري الأمة لصالح الوطن واستقراره فتعبير عنصري الأمة رغم كثرة استخدامه للتدليل على المسلم والمسيحي إلا أن البعض يراه تعبيرا غير مناسب وأن الأمة مكونة من عنصر واحد فقط هو "المصري" بغض النظر عن دينه ومعتقده وهو الرأي الأكثر مناسبة ومنطقية ببساطة لأننا لو اعتمدنا هذا المعنى فسنفتح الباب إلى المزيد من التقسيمات والمزيد من العناصر الفرعية كالسلفي والصوفي والأرثوذكسي والإنجيلي... إلخ ثم تنقسم تلك التصنيفات الفرعية إلى تصنيفات أصغر وأدق وهكذا بلا انتهاء، فلأول مرة وبصورة عملية يشعر المصريون ويعرفون ويختبرون الحكم الديني أو للدقة الحكم باستغلال الدين، شعور ونتائج لمسها المسلم قبل المسيحي وعرف أن مدنية الدولة مع إطلاق حرية المعتقد والممارسات الدينية هو الحل وهو السبيل الوحيد لاستقرار الأوطان ولذلك فإن تلك الفترة وتلك الثورة أعادت ترتيب وتنقية المفاهيم لدى قطاع عريض من المسلمين في قضايا الحكم الديني والخلافة الإسلامية وغيرها من القضايا وأتاحت لهم العودة المتأنية للتاريخ بالدراسة الموضوعية والعودة إلى صحيح الدين وإلى العلاقة مع أصحاب الأديان الأخرى أيضا، فخلال ثورة الثلاثين من يونيو وما بعدها تحسنت العلاقة وزاد التفاهم والاحترام بين أصحاب الأديان المختلفة وتمتع المسيحيون بدرجة أكبر من الحرية في ممارسة الشعائر وبناء الكنائس وإقامة الاحتفالات الدينية والتي يدعمها رئيس الجمهورية ويحضرها بنفسه مع كبار رجال الدولة.
لم تقتصر مكتسبات تلك الثورة على توحيد الشعب حول الوطن وحسب بل أعطت الفرصة أيضا لإعادة مراجعة المفاهيم السابقة عن الدين وعن الوطن وحدوده وآمنة وكذا أيضا علاقاته الخارجية بالدوائر المختلفة بعيدا عن المشاعر والقناعات القديمة والتي لا ترتكز على الكثير من القواعد في العصر الحاضر مثلما ترتكز على مشاعر وأحاسيس في الماضي سواء لمن عاصروها أو لمن سمعوا عنها وفى عالم متغير شديد الاضطراب والتبدل فإن مراجعة تلك المفاهيم وتعديلها وتحديثها تعتبر هي الخطوة الثانية الواجبة بعد خطوة التوحيد، واعتقد أن تلك المفاهيم قد أصبحت أكثر وضوحا عن ذي قبل، بعيدا عن الشعارات الفارغة وبعيدا عن أي نبرة استعلاء أو استهزاء بل أصبحت في إطار أكثر احتراما للآخر ما ساهم في وجود بيئة أكثر تقبلا للاختلافات، بيئة لا تسمح للاختلافات بأن تتحول إلى خلافات وصراعات بل يتم إدارة الاختلافات في إطار من التعاون والعيش المشترك والمصالح المتبادلة والتي تصب جميعها في الهدف الأسمى، هدف الوطن ومصلحته.
والحقيقة أنه وإن كانت ثورة الثلاثين من يونيو هي نتيجة حتمية لممارسات عامة سبقها لمس فيه المصريون جميعا محاولات تغيير الهوية الوطنية المصرية وتغيير منظور التعامل الخارجي وتغيير هيكل مؤسسات الدولة وتغيير نمط الحياة وهوية المصريين والتي هي نتاج قرون كثيرة من التاريخ وأحداثه ومن المواقف والصراعات والنجاحات والإخفاقات والاحتلال بكل أنواعه وهى أحداث شكلت التركيبة المتميزة للسبيكة المصرية المتفردة التي اصطدمت بمحاولات طمسها وتغييرها لتصبح نموذجا ممسوخا لصالح تحقيق مصالح الجماعة، وهو أمر لمسه المتابع للشأن العام وللسياسات الداخلية والخارجية ولمسه رجل الشارع أيضا في محاولات تغيير أنماط وأساليب الحياة اليومية العادية فثار عليها بعدما شعر بالقلق وبمحاولات القضاء على الإرث الكبير والهوية المتراكمة، إلا أن تلك الثورة لم تكتف بإزاحة جماعة الإخوان الإرهابية عن الحكم وحسب بل انتقلت سريعا إلى مرحلة العمل والبناء لمصر الحديثة وخلال تلك السنوات الأثنتى عشرة واجهت البلاد العديد من التحديات على رأسها إعادة الأمن والأمان ومحاربة الإرهاب وتغيير العلاقات الخارجية واستعادتها مع الاشقاء في الإقليم وعلى المستوى الدولي أيضا، كما بدأت الدولة المصرية في انتهاج نهج التخطيط والعمل على نطاق واسع حيث بدأت بوضع رؤية استراتيجية "رؤية مصر 2030" وأطلقت برنامج الإصلاح الاقتصادي والعديد من المشروعات القومية لتحسين البنية التحتية في مجالات الطرق والمحاور وتطوير السكك الحديدية ومترو الانفاق و قناة السويس الجديدة وقرار رئيس الجمهورية رقم 330 لسنة 2015 بإنشاء الهيئة العامة الاقتصادية لقناة السويس وقطاع التشييد والبناء وما حققه من إنشاء لمدن جديدة وذكية يأتي على رأسها العاصمة الإدارية الجديدة ومدينة العلمين الجديدة وغيرها والكثير من مشروعات الإسكان وأيضا شبكة نقل وتوزيع الكهرباء ومحطات التوليد وكذا الاكتشافات البترولية والغاز الطبيعي ومشروعات تحسين الخدمات والتحول الرقمي ومنها بوابة مصر الرقمية لميكنة وتقديم الخدمات الحكومية للمواطنين وكذا أيضا إنشاء مجالس عليا للمجتمع الرقمي وللأمن السيبرانى والذكاء الاصطناعي وتطوير التعليم قبل الجامعي من حيث المناهج و أساليب التدريس والامتحانات والتقييم وتطوير التعليم الجامعي وإنشاء العديد من الجامعات الأهلية وأيضا ما تم في القطاع الصحي والتشريعي وإتاحة المجال أمام القطاع الخاص للدخول بقوة في كل تلك المجالات، هذا بالإضافة الى العديد من المبادرات الرئاسية الهامة والاهتمام بصورة كبيرة بالعديد من القضايا والمجالات الهامة كحقوق الانسان والملكية الفكرية وريادة الاعمال والتدريب و بناء الكوادر، فكل ما سبق هو جزء من كل فالمجال لا يتسع لسرد كافة إنجازات ومكتسبات الثورة في هذه المساحة الضيقة.
وختاما فإن محاولة تقييم الثورات تكون دائما باستعراض أهدافها والتعرف على ما تم منها، وعودة إلى ثورة 1919 وحتى وإن كانت لم تتمكن من إجلاء المستعمر فإنها قد حققت لمصر استقلالا ودستورا وحقبة ليبرالية مهدت بمميزاتها ومساوئها لثورة 1952 وتحقق الجلاء تماما في 1954، أما ثورة الثلاثين من يونيو فبعد اندلاعها بأيام تم التخلص من حكم الجماعة-السبب الأساسي لاندلاع الثورة- وترسخ في الأذهان والعقول انكشاف خدعة الحكم الديني التي استمرت أسطورته حية لعقود سابقة وانهار هذا المشروع تماما، ليس في مصر وحسب ولكن في أي بلد آخر في الإقليم ولا يعنى ذلك أن الصراع قد انتهى فالجماعة لا تيأس ولذلك فإن ملاحقتها وفضح أساليبها واستمرار التذكير بتلك الأساليب وبما حدث في تلك الحقبة الهامة من تاريخ مصر الحديث سيظل مرجعا هاما يتسلح به الإنسان المصري في مواجهة الخديعة والإرهاب والتطرف ومحاولات خلط الدين بالسياسة واستغلال الدين لتحقيق أغراض سياسية لا تضع الوطن كأولوية بل لا تنظر إلى مفهوم الوطن بأي نوع من التقدير والاعتبار بل تراه كما جاء على لسان أحد قادتها على أنه مجرد "حفنة من تراب عفن" وهو قول ينبئ الكثير عن النوايا المبيتة للعودة بالوطن إلى الوراء، فالشكر كل الشكر للشعب المصري العظيم الذى رفض وتمرد على هذا الحكم والشكر كل الشكر للقوات المسلحة الباسلة التي ساندت هذا الشعور وهذا الطلب و أعادت لمصر و للمصريين الأمل في مستقبل أفضل.
جاءت ثورة 30 يونيو نتيجة
فشل جماعة ادعت الوطنية وأن أفرادها من المصريين حين حاولت فرض استعمار جديد مرتبط بتنظيم دولي لا يعرف قيمة أو معنى للوطن
لم تقتصر مكتسبات ثورة
30 يونيو على توحيد الشعب حول الوطن وحسب بل أعطت الفرصة أيضا لإعادة مراجعة المفاهيم السابقة عن الدين وعن الوطن وحدوده وأمنه
لم تكتف ثورة 30 يونيو
بإزاحة جماعة الإخوان عن الحكم وحسب بل انتقلت سريعا
إلى مرحلة العمل والبناء
لمصر الحديثة
مكرم عبيد
البابا تواضروس الثانى