الأحد 29 يونيو 2025

مقالات

ضرورة حتمية

  • 28-6-2025 | 13:03
طباعة

في التحرك الجماهيري لا يمكن بأي حال من الأحوال رصدُ المشهدِ كاملاً. تلك حقيقة لا يمكن لأي متابع – أو متخصص – أن يغفلها، فالانفعال يغلب على المتابعة اللحظية للحدث الكبير بأبعاده، لكن القراءة بعد سنوات تختلف!

هذا ما ينطبق شكلًا ومضمونًا على ثورة "30 يونيو" المجيدة، فحجم المشهد وعمقه الجغرافي وأبطاله يقف عائقًا أمام أي رصد سريع له.

ثورة 30 يونيو 2013 ليست مجرد حدثٍ عابرٍ في تاريخ مصر، بل لحظةٌ فارقةٌ أعادت تعريف الهوية الوطنية المصرية، وحمت مؤسسات الدولة الوطنية من مخططات التفكيك والتدمير، وكشفت الوجه القبيح لجماعة الإخوان الإرهابية التي حاولت تسييس الدين لتحقيق أهدافها المشبوهة.

هذه الثورة الشعبية العظمى، التي قادها الشعب المصري بوعيٍ جمعيٍّ عام، ودعمها الجيش بإرادة وطنية خالصة، كانت ردًّا طبيعيًّا على عامٍ من الحكم الفاشي، الذي كاد يُفقد مصر كيانها وهويتها الوطنية.

وهنا فقط تحولت هذه الثورة إلى ضرورةٍ حتمية.. وكان لكل الأدوار التي لعبتها الأطراف المختلفة أثرٌ في صنع هذا التحول التاريخي.

بدأت فصول الفوضى مع تولي محمد مرسي الرئاسة في منتصف عام 2012، تحت شعار "أول رئيس مدني منتخب بعد ثورة 25 يناير"، ولم تمضِ شهور قليلة، إلا ودخلت مصر في دوامة من الاستقطاب الحاد، فقط سقط الشعار سريعًا، وارتكز حكمه على مشروع جماعة الإخوان، لا على مفهوم الدولة الوطنية التي لا تفرّق بين المصريين ولا تُقصي أحدًا عن المشاركة.

تميزت تلك الفترة بتدهورٍ اقتصاديٍّ كبير، تجلّى في أزماتٍ خانقةٍ كأزمة الوقود، وانقطاع الكهرباء، وتراجع الاحتياطي النقدي، في وقتٍ كان المواطن ينتظر إنجازاتٍ ملموسة على أرض الواقع.

وبدلاً من التفكير الموضوعي لإدارة الملفات الحيوية، انشغل "مرسي" بتعزيز سلطة جماعته وتمكينها في أبشع صور "الانتهازية السياسية"، من خلال تمرير دستور 2012، الذي أثار انتقاداتٍ واسعةً لتوجهه الإقصائي، مما دفع ممثلي الكنائس والأقباط وممثلين عن القوى المدنية إلى الانسحاب من لجنة الصياغة!

تصاعدت مخاوف المصريين مع تزايد الحديث عن "أخونة الدولة"، ومحاولات وضع مفاصل الحكم في يد المنتمين للجماعة، مما مثّل تهديدًا مباشرًا للتعددية والمواطنة، وجعل مصر تتجه إلى منحنى غاية في الخطورة.

وعلى صعيد السياسة الخارجية، تقزّمت مصر إقليميًّا ودوليًّا، وسط تحالفاتٍ غير مفهومة مع دولٍ وتياراتٍ تدعم الفكر الإخواني الفاشي. وكشفت وثائق رسمية مهمة عن تحالفاتٍ مشبوهة، منها رسائل هيلاري كلينتون، عن تنسيقٍ خلف الكواليس بين الجماعة وأطرافٍ خارجية لإعادة هيكلة الحكم بما يخدم مشروعًا أوسع يُراد فرضه على المنطقة تحت عنوان "الخلافة الإسلامية".

ولم تقتصر الأزمة على سوء الإدارة فقط، بل تبيّن لاحقًا وجود مشروعٍ تخريبيٍّ متكاملٍ يهدف إلى تفكيك الدولة المصرية من الداخل، فيما يوصف بأنه "المشروع الانفصالي"، تجلى ذلك بشكلٍ واضحٍ في سيناء، حيث تم إطلاق سراح عناصر إرهابية خطيرة بعد وصول مرسي إلى الحكم، وبدأت هذه العناصر في تنفيذ هجماتٍ على قوات الأمن ومحاولة فرض واقعٍ جديدٍ في شمال سيناء، وسط صمتٍ مريبٍ من مؤسسة الرئاسة، التي من المفترض أن تتدخل لحماية شعبها والدفاع عن أمنه القومي.

وعلى جانبٍ آخر، تحركت الجماعة لتفريغ مؤسسات الدولة من مضمونها الوطني، وشنت حملاتٍ على القضاء المصري، ووصفت الإعلام الحر بأنه "إعلام فاسد"، وهاجمت الجيش والشرطة بشكلٍ مباشر، في محاولاتٍ ممنهجةٍ لإسقاط رموز الدولة، ووصلت الأمور إلى ذروتها حين استُخدمت منصتا رابعة والنهضة في بثّ خطاباتٍ تحريضيةٍ تهدد بإراقة الدماء، مع اتهاماتٍ صريحةٍ لكل من يعارض الجماعة بأنه "عدو للشرعية".

تصاعدت وتيرة الأحداث سريعًا وبلغ الانقسام درجةً خطيرة، وتحولت الشعارات مثل "يسقط حكم المرشد" في الشارع المصري، من مجرد هتافاتٍ إلى تعبيراتٍ صادقةٍ عن رفضٍ شعبيٍّ واسعٍ لمحاولة فرض وصايةٍ دينيةٍ على المجتمع، تحت ستار الشرعية الانتخابية، التي جاءت بالجماعة الفاشية إلى سدة الحكم.

لم يكن خروج ملايين المصريين في 30 يونيو مجرد ردّ فعلٍ عاطفي، بل كان تعبيرًا عن وعيٍ سياسيٍّ متقدّمٍ تشكل لدى قطاعاتٍ واسعةٍ من الشعب، بعد أن أدركوا الخطر المحدق بالدولة.

ظهرت الحركات الشعبية والمبادرات، ومنها حركة "تمرد"، كأداةٍ شعبيةٍ لجمع التوقيعات لسحب الثقة من مرسي، وتمكنت من جمع أكثر من 22 مليون توقيع، في مشهدٍ فريدٍ يجسد الإرادة الجمعية للناس.

تميزت الثورة بشمولها المجتمعي، حيث شاركت فيها جميع الفئات: شباب، نساء، عمال، ومثقفون، في وحدةٍ نادرةٍ أظهرت حجم الرفض للمسار الإخواني. وكشف المشهد عن أن المرأة المصرية كانت في طليعة الصفوف التي تدافع عن مدنيّة الدولة وتاريخها وعمقها الحضاري.

رفعت الجماهير شعاراتٍ تُعبّر عن التمسك بالهوية الوطنية، ورفض التبعية لجماعةٍ أو فصيلٍ سياسي. وأصبحت الميادين، من التحرير إلى الاتحادية، ساحاتٍ تُعلن من فوقها صرخةً مدويةً: "الشعب يريد إسقاط النظام"، بروحٍ تصحيحية هذه المرة.

في هذا المشهد، أثبت الجيش المصري في 30 يونيو وما تلاها أنه "جيش الشعب" بحق، وليس كيانًا منفصلًا عنه. بعد أن أمهل المشير عبد الفتاح السيسي القوى السياسية مدة 48 ساعة للتوافق، ولم تستجب الرئاسة لأي مبادرةٍ حقيقية.

وفي "3 يوليو" أعلن عن خريطة طريق جديدة لمصر، تضمنت عزل مرسي، وتكليف رئيس المحكمة الدستورية بإدارة المرحلة الانتقالية، والدعوة إلى انتخاباتٍ رئاسيةٍ وبرلمانيةٍ جديدة.

كان تدخل الجيش محوريًّا وانحيازًا واضحًا لإرادة الملايين التي عبّرت عن رفضها لحكم الإخوان. وخلافًا لما حدث في دولٍ أخرى، حرص الفريق أول عبد الفتاح السيسي على أن يكون الجيش صمام أمان، لا طرفًا سياسيًّا في المعادلة، وهو ما أكدته إجراءات الفترة الانتقالية التي شهدت تعديل الدستور، والتحضير لانتخاباتٍ ديمقراطية.

المؤسسة العسكرية كانت –ولا تزال– ضامنةً لهوية مصر، ومدافعةً عن مدنيتها. حرص الجيش منذ اللحظة الأولى على إنقاذ الدولة من الانهيار.

كشفت ثورة 30 يونيو عن "المخطط الخارجي" في دعم مشروع الإخوان. فسرعان ما ظهرت تحركاتٌ غربيةٌ تحاول تصوير ما حدث على أنه "انقلابٌ عسكري"، وتجاهلت بشكلٍ متعمّدٍ إرادة ملايين المصريين الذين خرجوا رفضًا للحكم الديني.

الأمر المثير حقًّا، هو أن بعض القوى الخارجية كانت تراهن على تحويل مصر إلى دولةٍ فاشلة، أو على الأقل دولةٍ تابعةٍ تدور في فلك مشروعٍ إقليميٍّ أوسع. وقد ظهرت أدلةٌ على ذلك في وثائق دبلوماسية وتقارير استخباراتية لاحقة.

كان الموقف الأمريكي في الأيام الأولى للثورة مضطربًا، حيث تأرجح بين الدعوة لضبط النفس، والضغط لإعادة مرسي. إلا أن الثبات المصري الشعبي والرسمي، والتفاف الشعب حول الجيش، أفشل هذه المخططات، وأعاد صياغة علاقات مصر الخارجية بما يحفظ استقلالية قرارها الوطني.

بعد ثورة 30 يونيو، وجدت الدولة المصرية نفسها في مواجهةٍ مباشرةٍ مع التنظيمات الإرهابية التي تمكّنت من التغلغل في سيناء خلال فترة حكم الإخوان، مستغلةً حالة التراخي الأمني وإطلاق سراح عناصر متطرفة. وقد تحولت سيناء إلى بؤرةٍ للعمليات الإرهابية، استهدفت فيها الجماعات المسلحة مواقع الجيش والشرطة، سعيًا لإقامة ما أسموه "إمارة إسلامية".

كان رد الدولة المصرية قويًّا وحاسمًا عبر إطلاق عدة عملياتٍ عسكريةٍ موسعة، أبرزها "حق الشهيد" و"سيناء 2018"، التي شاركت فيها القوات المسلحة والشرطة، وتمكنت من القضاء على مئات البؤر الإرهابية وتدمير أنفاق التهريب على الحدود.

ولم تكن هذه المعركة أمنيةً فقط، بل تنمويةً أيضًا، بعدما بدأت الدولة في تنفيذ مشروعات بنية تحتية كبرى في شمال ووسط سيناء، لتعزيز الاستقرار وقطع الطريق أمام عودة التطرف.

كانت الحرب على الإرهاب بعد 30 يونيو امتدادًا لثورةٍ شعبيةٍ ضد الفكر المتطرف، وتجسيدًا لإرادة الدولة المصرية في حماية حدودها، واستعادة الأمن والاستقرار، وبقاء سيناء كجزء لا يتجزأ من الوطن.

لم يكن الاتجاه الشرقي هو التحدي الوحيد، فعقب ثورة 30 يونيو، وجدت مصر نفسها في مواجهة سلسلةٍ من التهديدات المتزامنة من مختلف الاتجاهات الاستراتيجية الأربعة، وهو ما كشف عن حجم المؤامرة التي كانت تُحاك لإسقاط الدولة المصرية.

فمن الاتجاه الشرقي، مثلت سيناء ساحةً مفتوحةً للجماعات الإرهابية التي استغلت الدعم الخارجي والتسهيلات التي وفرتها فترة حكم الإخوان للتمدد والقيام بعملياتٍ نوعية ضد الجيش والشرطة. ومن الجنوب، ظهرت أزمة سد النهضة التي اتخذت أبعادًا سياسية تهدد الأمن المائي المصري، في ظل تعنتٍ إثيوبيٍّ مدعومٍ من أطرافٍ دولية.

أما من الاتجاه الغربي، فقد مثّلت الحدود الليبية تحديًا أمنيًّا كبيرًا، مع تمدد الميليشيات الإرهابية والفوضى المسلحة، وهو ما دفع مصر – في شخص السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي – إلى إعلان خطوطٍ حمراء لحماية أمنها القومي، كما حدث في إعلان "سرت – الجفرة" كخطٍّ لا يمكن تجاوزه.

وعلى الاتجاه الشمالي، كان هناك تحدٍّ متجدد يتمثل في محاولات بعض القوى الخارجية التدخل في الشأن المصري، عبر أدواتٍ ومنصاتٍ إعلاميةٍ أو ضغطٍ سياسي، وكان الهدف الحقيقي تقويض الدولة.

ورغم هذه التهديدات المعقدة، جاء الرد المصري حاسمًا على كافة المستويات في ردودٍ تليغرافيةٍ سريعة، منها: تأمين الحدود، وتعزيز القدرات العسكرية، والدخول في شراكاتٍ استراتيجيةٍ متوازنة، إلى جانب التحرك الدبلوماسي الفاعل في المحافل الدولية.

هنا فقط أثبتت الدولة المصرية أنها استعادت سيادتها كاملةً بعد "30 يونيو"، وأنها قادرةٌ على حماية أمنها القومي في الداخل والخارج بحكمةٍ وقوةٍ وعزمٍ أكيد.

لم تكن "30 يونيو" – ولن تكون – نهاية المطاف، بل بداية لمسارٍ جديدٍ في بناء الدولة المصرية. فبعد إسقاط حكم الإخوان، بدأت مصر في استعادة مكانتها الإقليمية والدولية، وشهدت تحولاتٍ اقتصاديةٍ كبيرة، رغم التحديات التي يشهدها العالم والمنطقة، وأعادت الدولة تعريف علاقتها بالمواطن على أساس المواطنة، لا الولاء لجماعةٍ دينيةٍ أو تيارٍ سياسي.

ثورة 30 يونيو ستظل علامةً فارقةً في تاريخ مصر الحديث، لأنها لم تكن فقط ثورةً على حكمٍ فاشل، بل كانت ثورةً على مشروعٍ ظلاميٍّ يهدد هوية مصر ومستقبلها.

هذه الثورة أعادت الاعتبار لفكرة الدولة الوطنية كضامنٍ للوحدة، والعدالة، والمستقبل المشترك لكل المصريين بلا تفرقةٍ أو تمييز.

بعد إسقاط حكم الإخوان، استعادت مصر مكانتها الإقليمية والدولية، وشهدت تحولات اقتصادية كبيرة، رغم التحديات التي يشهدها العالم والمنطقة

كانت ثورة 30 يونيو استقلالا من احتلال العقول

حرص الجيش منذ اللحظة الأولى، على إنقاذ الدولة من الانهيار، فالمؤسسة العسكرية كانت -ولا تزال- ضامنة لهوية مصر، ومدافعة عن مدنيتها

كانت الحرب على الإرهاب بعد 30 يونيو امتدادًا لثورة شعبية ضد الفكر المتطرف، وتجسيدًا لإرادة الدولة المصرية في حماية حدودها

أخبار الساعة

الاكثر قراءة