هناك علاقة وثيقة بين مفهومي الدولة والأمة، فالرابطة التي تجمع بينهما هي جوهر الفكرة القومية، وأساس الدولة الوطنية الحديثة، وهذه العلاقة تتطلب طرح سؤال مركزي، وهو متى ظهرت الدولة في مصر؟ ومتى وكيف تطورت إلى نموذج الدولة الوطنية؟
فتحت الحملة الفرنسية على مصر الباب واسعا لمشاريع أوروبية متعددة
إذا تم تعريف الدولة تعريفا نوعيا عاما يربط بينها وبين السيطرة المركزية على إقليم ما وتسيير جانب كبير من شؤونه؛ لأمكننا الحديث عن دولة مصرية يعود تاريخها إلى ستة آلاف سنة، فالدولة بمفهومها التاريخي العام الذي يربطها بفكرة المركزية قد وجدت في مصر منذ عهد الفراعنة، حيث ارتبطت ارتباطا وثيقا بتدبير نظام الري الصناعي في البلاد؛ وبهذا تكون "الدولة المصرية" هي أقدم دولة في التاريخ ونظامها الإداري هو أقدم بيروقراطية في التاريخ.
لكن بمفهوم "الدولة الحديثة" التي ترتبط بمجموعة من الأفكار القانونية الخاصة بالسيادة، وإخضاع "المؤسسات الوسيطة" واعتماد مبدأ "المواطنة" بدلا من الهويات الدينية أو العرقية...، وهي الدولة بمفهومها القانوني، القائم على مبدأ السيادة، وعلى فكرة المواطنة بما تفرضه من مساواة بين أفراد الوطن في مجالات من قبيل جمع الضرائب وفرض التجنيد وتوفير الفرص؛ فيمكن إرجاع تاريخ الدولة في مصر إلى عهد محمد علي في بدايات القرن التاسع عشر. وبناء الدولة المصرية الحديثة لم يبدأ فور تولى محمد علي الحكم، إنما تكون على مدى من السنين، من خلال إدراكه لحركة التاريخ وتجاوبه معها، ومن خلال سلسلة الأفعال وردود الفعل الواعية التي عرفتها مصر في تلك المرحلة.
ويمكن بذلك اعتبار تاريخ الدولة في مصر هو معكوس تاريخ نموذج الدولة في الغرب؛ فالمركزية في مصر تدعمت أولا لأسباب جيوسياسية (نهر النيل ومتطلبات الري الصناعي) وهو ما نتج عنه نشأة الدولة "الهيدروليكية" في مصر. ثم جاء محمد علي في القرن التاسع عشر فبنى رموز الدولة القانونية الحديثة ومؤسساتها (المجالس، الدواوين، البيروقراطية، ونظم التعليم الموحدة، ونظم التجنيد). ووفقا لهذا الرأي فإنه في النمط الأوربي ظهرت الرأسمالية أولا ثم طورت رموز الدولة القومية وأنشأت أجهزتها ثانيا، ثم تمكنت من تدعيم المركزية في النهاية. ويفسر هذا بشكل جزئي طبيعة الدولة في مصر، وتطور أجهزة الدولة وتقدمها مع ضعف الروح الفردية وأنشطة المشاركة فيها، واختلاف ذلك عن طبيعة الدولة في غرب أوروبا؛ ذلك أن التوصل إلى الدولة في أوروبا تم عن طريق إطلاق سراح الفرد من المنظمات الإقطاعية والوسيطة وإعادة ربطه كوحدة مستقلة "ذات سيادة" بالدولة الحديثة، وهي عملية لم تتم في مصر إلا بصورة جزئية.
ووفقا للرؤية الكلاسيكية للقومية؛ فإنه يتم أولا غرس مشاعر القومية وتنميتها بين أفراد الشعب إلى أن يقودهم إدراكهم لذاتهم إلى التفجر في حركات قومية تصل ذروتها بظهور الدولة إلى الوجود. لكن ما حدث في مصر كان على العكس من ذلك. إذ إن كل خطوات محمد علي، وتحركاته -مخططة كانت أو حدثت عرضا- كانت موجهة لتحقيق استقلال مصر عن الإمبراطورية العثمانية. وحتى يكون تحقيق هذا الاستقلال أمرا ممكنا، فقد أنشأ جهازا يسمح للدولة أن تستمر في البقاء كدولة وليس كذيل لإمبراطورية. وكان عليه أن يسيطر على ثروات البلاد، التي كانت وافرة وذات قابلية عالية للمزيد من التطوير، وكافية لأن تسمح له بأن يصبح ملكا مستقلا. وعمل على تنمية موارده إلى أقصى حد ممكن، ليجعل الدولة مكتفية ذاتيا وقادرة على التوسع بإمكاناتها الخاصة وحدها، وليست كجزء من كيان خارجي أوسع. لقد أنشئت الدولة في مصرفي بادئ الأمر، ثم تولى وجودها تحفيز وتغذية مشاعر الإحساس بالذات لدى المصريين، التي ظلت تنمو إلى أن تفتحت بعد عدة عقود عن حركة قومية عام 1882.
عمل «محمد علي» على الاستفادة من النموذج السياسي الغربي؛ فسعى لإعادة بناء مصر وإنشاء دولة قوية حديثة على نمط الدولة الأوروبية، وأرسل البعثات التعليمية إلى باريس ولندن لكي تدرس النماذج الغربية. وشهدت مصر في القرن التاسع عشر اتجاها قويا لتدعيم سلطة الدولة المركزية، حيث سعت الدولة إلى التواجد بشكل قوي في كافة مجالات الحياة اليومية. وقد تمثل ذلك في عدة صور منها: تعداد النفوس، وقيد المواليد والمتوفين، ومنها إيجاد نظم أمنية تحل محل العصبيات القديمة، وكذلك القضاء على العناصر التي كانت تلعب دور الوسيط بين الحكومة والفلاحين، وأصبحت الدولة تتصل اتصالا مباشرا بالفلاحين، والحرفيين، وتدخلت في كل كبيرة وصغيرة في حياتهم، وعملت على تشكيل وعي السكان، وتحويلهم إلى مواطنين في دولة حديثة، وسيطرت على عقولهم ومخيلتهم وأجسادهم، وأنشأت طبقتها البيروقراطية التي كانت أهم حوامل الفكرة القومية.
بدايات الدولة الحديثة في مصر:
لفهم وتقييم الدور الذي قام به محمد علي وتأثيره على وضعية مصر ومركزها الدولي، وكيف انتقل بها من "ولاية" إلى "دولة" يجب فهم ما كانت عليه مصر قبل 1805 وما أصبحت عليه بعد 1840، وذلك مع الوضع في الاعتبار التصورات والمشاريع المضادة التي وضعتها القوى الكبرى لما يجب أن تكون عليه مصر.
فقد حاول محمد علي أن يصل بمصر إلى وضعية "الدولة" المعترف بها دوليا، وكان لابد له أن يخوض معارك كثيرة من أجل الوصول لهذا الهدف، على أكثر من جبهة، وضد أكثر من طرف، وكان لابد لتصوره أن يجابه تصورات أخرى كثيرة. فقد فتحت الحملة الفرنسية 1798 على مصر الباب واسعا لمشاريع أوروبية متعددة، وكان لدى بريطانيا وفرنسا وروسيا والنمسا وبروسيا تصورات وخطط مختلفة ومتضاربة لمستقبل مصر بعد خروج الفرنسيين منها في 1801، وكان لدى الدولة العثمانية تصورها الخاص؛ إلا أن مصلحة الجميع كانت هي أن تظل مصر ولاية، مجرد ولاية، تابعة للدولة العثمانية اسميا وللقوى الأوربية فعليا حتى تحين لحظة موت الرجل المريض وتقسم تركته. إلا أن محمد علي كان لديه تصور مختلف، ورغم الاختلاف في تحديد طبيعة هذا التصور وهل هو" مصر المستقلة"، أم "مصر قاعدة الإمبراطورية العربية"، أم "مصر منقذة ومجددة الدولة العثمانية"، وأيا كانت طبيعة هذا التصور؛ فإن المتفق عليه في الحد الأدنى أن مصر كانت مركزه وأساسه، وكان "أولاد العرب" أو "الأهالي"، والمقصود بهم في النهاية عند محمد علي سكان مصر، أي "المصريون"، كانوا هم عدته وعداده. ولا شك أنه في سعيه هذا كان يحاول تأسيس "مملكة محمد علي" أو في الحد الأدنى الحصول على حق الحكم الوراثي لمصر وحصره في أسرته. وبناء على ذلك يحاجج كثير من الباحثين في دور محمد علي ومشروعه في "خلق أمة مصرية"، وبروز "قومية مصرية"؛ فالرجل وفقا لهذه الرؤية لم يكن يسعى إلا لمجد شخصي وملك عضوض له ولأسرته من بعده.
الدولة الوطنية والهوية المصرية:
إذا فقد كان هناك تلازم بين تكوين الجامعة الوطنية المصرية في العصر الحديث كرابطة سياسية، وبين بناء الدولة الحديثة على عهد محمد علي.. فالدولة المصرية هي المؤسسة القومية التي قام على أكتافها بناء الجامعة السياسية المصرية، وكانت حتى الثورة العرابية عام 1882 التنظيم الأوحد الذي رعى هذه الجامعة ونما بها. وكان بناء الجيش المصري هو حجر الزاوية في هذا البناء. فقد كانت الدولة والجيش هما المبدأ والمنطلق، وفي أحشائهما ولدت " المصرية " و" الحداثة" متمثلة في الجيش ودور التعليم ومؤسسات الحكم المتطورة. والتنظيم المصري كان سابقا على الوعي بالمصرية، كما أن هذا التنظيم دفع إليه مشروع سياسي كبير جرى على يدي محمد علي، ولم تدفع به موجبات تطور " السوق الرأسمالية" حسبما استقر الفكر الماركسي من تجارب القوميات الأوروبية. وجهاز الحكم والإدارة والجيش والصناعة والزراعة الدائمة والتعليم الحديث، وعلى رأسها كلها أسس الجامعة السياسية الوطنية، كلها ترجع في مجملها إلى الأبنية التي شادها محمد علي في الثلث الأول من القرن التاسع عشر. وبإنشاء محمد علي لجهاز الدولة، كان من المحتم عليه أن تدخل البلاد في عملية تمصير للجيش وللإدارة.
كان تجنيد المصريين وحروب مصر في عهد محمد علي دافعا نحو الإحساس بأن هناك دولة وطنية مستقلة تتشكل على مستوى المؤسسات ومستوى النخبة؛ ففي ميدان الحروب تكونت الدولة المصرية الحديثة وحققت استقلالها. فقد أدت العودة إلى العسكرية المصرية واستخدام المصريين في الجيش إلى إحساس المصريين بذاتيتهم ووطنيتهم وتمايزهم وخصوصا بعد انتصاراتهم المتتالية في محيطهم الإقليمي. وفي الجيش ومدارسه تحول الفلاحون إلى مواطنين؛ فقد تعلم الفلاح المصري الذي درس في المدرسة، وخدم في الجيش؛ الولاء لوحدة جغرافية، وكيان سياسي محدد.
وكانت الحروب التي خاضها الجيش المصري هي التي أدت في النهاية إلى الوضع المتميز لمصر داخل الدولة العثمانية، والتسوية السياسية التي أعقبت تلك الحروب كانت الأرضية الأولى الممهدة لفكرة استقلال مصر وبناء الاستقلال الذي جدّ الولاة من أبناء أسرة محمد علي، وعلى رأسهم الخديو إسماعيل في تشييده، وكان الصرح الذي نشأت في أحضانه الفكرة الوطنية. وكان التفكير محكوما بمفاهيم القبيلة والعشيرة والطائفة والفكرة الدينية فاستطاعت المؤسسات التعليمية والعسكرية أن تجمع في إطارها كافة عناصر الأمة من الفلاحين والبدو والمسلمين والأقباط واليهود وأبناء الريف والمدن، الأمر الذي خلق البوتقة التي انصهر فيها المصريون.
وقد كان هذا الارتباط من عدة نواحي، لا شك أن أهمها البعثات العلمية؛ فرغم أن المبعوثين كانوا في الأساس يدرسون النواحي التقنية والعسكرية إلا أنهم بلا شك قد تأثروا بالثقافة الأوروبية، ونهلوا منها وعرفوا حرية الرأي، وعادوا متشبعين بالفكر الأوروبي ليضعوا نهضة فكرية ولينشروا تعاليم أوروبا وأنماطها ونظمها وأيديولوجيتها، وأوروبا في ذلك الوقت هي أوروبا القرن التاسع عشر، قرن القوميات، ولسنا ندرى ما هو شعور المبعوثين إلى فرنسا عندما كانوا يسمعون الأناشيد الوطنية لكننا نعلم أن هذه الأناشيد قد اهتز له وجدان رائد الوطنية المصرية رفاعة الطهطاوي وقام بترجمة نشيد الثورة الفرنسية (La Marseillaise) وأخذ ينظم على شاكلته وكتب مجموعة من الأناشيد الوطنية تحت عنوان "منظومات وطنية مصرية"، وهو ما يعكس تأثرا واضحا به.
ومن جهة أخرى نجد أن نشر التعليم وإنشاء المدارس والمطبعة وازدهار الترجمة كل هذه العوامل أدت إلى بروز الشخصية المصرية، ودعمت الإحساس بالذاتية المصرية، وكانت الأداة الرئيسية التي استخدمها الحكام في بناء إطار الدولة القومية، والقوة الدافعة الحقيقية ورائهم في كثير من الأحيان، هي طبقة حديثة من الموظفين المدربين قانونيا الذين يعدون النواة الأولى للبيروقراطية الحديثة.
كذلك كان لمحمد علي دور "مستقبلي" آخر ألقى بذوره ومضى، وكان له أثره الكبير، في تنوع التيارات الفكرية وموقفها من نموذج الدولة الوطنية؛ فمحمد علي كان له دور في وجود ثنائية التفكير في المجتمع المصري، حيث إنه بسياسته التعليمية التي أقامت التعليم المدني - ممثلا في المدارس المدنية والبعثات العلمية إلى أوروبا - بجانب التعليم الديني ممثلا في الأزهر الذي لم تمتد إليه يد الإصلاح، أو امتدت وفشلت، مما ترتب عليه ثنائية التعليم التي أدت إلى ما يمكن أن يسمى بـ" دوائر الانقسام " بين أبناء الأمة الواحدة. كذلك فقد أدخل نظم القضاء الغربية إلى جانب القضاء الشرعي، والمؤسسات العلمانية الجديدة بجانب المؤسسات الدينية التقليدية.
وقد قدم محمد علي عبر نموذجه التحديثي إجابات هامة حسمت عمليا تساؤلات عديدة فرضتها تحديات المرحلة، وتم التعامل المباشر مع النموذج الغربي بصورة براجماتية تهدف إلى احتذاء هذا النموذج على المستوى التقني دون المستوى الأيديولوجي، ولهذا كان جميع المبعوثين في البعثات العلمية إلى أوروبا تقريبا لدراسة العلوم التطبيقية والعسكرية مع عدم الاهتمام الملحوظ بالعلوم الإنسانية. وأدت هذه السياسات في مجملها إلى وجود تيار يحمل أفكار ليبرالية قومية بجانب تيار أخر ديني الرؤية والتوجهات، وكان هذا نتيجة طبيعية للتغير الفوقي الذي لم يواكبه يقظة ذهنية شاملة مع بقاء الأيديولوجية السائدة دون أدنى تغيير.
لم يهدف محمد علي في أي وقت من الأوقات إلى خلق أو تأكيد الشعور بهوية وطنية مصرية، وذلك لأنه في النهاية عثماني، إلا انه من خلال مشروعه أقام الدولة المصرية الحديثة والتي ارتبط بها ظهور فكرة القومية المصرية. ورغم الدور الذي لعبه محمد علي في بروز الشخصية المصرية، إلا أننا لا نستطيع القول إن هذه الشخصية قد أصبح لها ملامحها الخاصة والمتميزة في عهده، فمحمد علي نفسه لم يكن يعرف لغة المصريين وكان يطلق على المصريين " أبناء العرب "، " الأهالي"، " والناس" وليس "المصريين" فقد كان " عثمانيا " يتحرك داخل إطار عثمانيته، وحتى صراعه مع السلطان العثماني لم يكن سوى صراع "والى" مع " السلطان " داخل إطار الدولة العثمانية وكان يأمل في الإبقاء على صفوة عثمانية في مصر، لأنه هو نفسه لم يكن قادرا من الناحية النفسية على أن يمر بعملية التحول ليكون مصريا، كان الوقت متأخرا جدا بالنسبة له. وكان يعتبر نفسه دائما عثمانيا، ويخشى من أن تتمصر الصفوة حوله، وكان يريد أن يبقيهم على تماسكهم كصفوة عثمانية، وهو ما يفسر اهتمامه بأدب القرن السادس عشر العثماني. فقد كان يريد لرجاله أن يحتفظوا بهويتهم كعثمانيين، ولتحقيق هذه الغاية، كان يشجع الاهتمام بالأدب العثماني في عصره الذهبي. وكان يشجع الصفوة العثمانية في مصر على التمسك بهويتها العثمانية كهوية ثقافية، حتى في الوقت الذي كانوا يحاربون فيه العثمانيين كهوية سياسية. وسعى النظام الجديد إلى إبقاء مسافة بينه وبين جموع الفلاحين ليحتفظ بذلك بهويته الثقافية الخاصة. وكان القائمون على الحكم "التركي- الجركسي - الألباني" في مصر، يشعرون بالتملك نحو البلاد كمصدر للحياة الرغدة التي يحيونها والسلطة الجديدة التي عثروا عليها، لكن لم يكن لديهم حاسة الانتماء إليها، ويعتبرون أنفسهم مجرد مهاجرين إلى بلد سعوا إلى استغلاله، لكن لم يقرنوا أنفسهم به وبهذا السلوك من جانبهم، دفعوا بالمصريين إلى إدراك ذاتي خاص بهم، وهوية قومية، متميزة عن تلك التي ينتمي إليها حكامهم
وأدت العديد من سياسات محمد علي إلى تنمية الهوية قومية مصرية، كنتائج وليس كأهداف مقصودة في ذاتها؛ فقد كان محمد علي يخشى المصريين ويرتاب فيهم ولهذا كان يمانع في وصولهم إلى المراكز القيادية في الجيش والحياة المدنية، فكان يجعل الجنود من المصريين والضباط من الأتراك، ويجعل المآمير من المصريين والمديرين "المحافظون " من الأتراك، وهذه السياسة التي يدعوها لويس عوض بـ "البذور المسمومة " هي التي ألقاها محمد علي وخرج عرابي ورفاقه لاقتلاعها بثورة 1882؛ فقد كان في مقدمة مطالب العُرابيين تمصير المناصب القيادية في الجيش المصري والحياة المدنية، وكان هذا يعكس وجود وعى قومي " مصري" في مواجهة " الآخر" حتى لو كان ذلك " الآخر" مسلما.
وساعد استخدام محمد علي للفنيين الغربيين -الذين ساعدوه على إنشاء جهاز للدولة- بصورة غير مباشرة في رد الفعل المحلى تجاه تنمية الهوية المصرية. وباستخدام الوالي للأجانب لإدخال تغييرات في البلاد، سواء كانت إدارية أو تكنولوجية، وتشجيعه لأبناء البلاد على التعلم من الخبراء الفنيين، فقد هيأ لهم إدراكا بالذات وإحساسا بالقدرة على الإنجاز أدى بهم إلى أن ينظروا لأنفسهم نظرة إيجابية، وتلك كانت خطوة نحو تطوير هوية قومية مصرية. وهكذا، فقد كان أمرا حتميا أن يضع محمد علي وحكومته الجديدة مصر على طريق الإحساس بالوطنية المستقلة والمعرفة الذاتية بأن لها هوية منفصلة متميزة عن سائر المسلمين والعثمانيين.
وإجمالا، فإن مشروع محمد علي النهضوي كان من أهم أسباب بروز القومية المصرية؛ إلا أن ذلك لم يكن في عهد محمد علي نفسه، ولم يكن بمعزل عن أسباب أخرى كثيرة تفاعلت داخل سياق تاريخي وتطورت وظهرت واضحة في عهد إسماعيل فيما بعد لتكون الثمرة هي شعار "مصر للمصريين".
وإذا كان بناء الدولة الحديثة في مصر ومؤسساتها قد تم على يد محمد علي؛ فإن البناء النظري للوطنية المصرية قد تم على يد مُنظر المرحلة ورائدها الفكري، رفاعة الطهطاوي، الذي أرسى قواعد هذا البناء بوعي وإدراك كاملين، ورغم إنه كان نبي الوطنية المصرية والمبشر بها، إلا إنه قام بذلك دون أن يجد أي تعارض بين انتمائه الإسلامي وانتمائه الوطني، وتم الأمر عنده بسلاسة ودون أدنى تعقيد، وكان هذا استمرارا لرؤيته التي لم تجد أي تعارض بين الإسلام الصحيح وبين روح العصر والحضارة الحديثة. ورغم إنه قد عمل على تأصيل مفهوم " الوطن" القطري، ومفهوم " الأمة " المدنية، وحقوق " المواطنة " إلا أن هذا التأصيل قد جاء بناء على فهم واع بالإسلام، ولهذا جاءت هذه المفاهيم عنده تقدمية وعصرية رغم أن المرجعية عنده كانت دينية. وإن كان مما ساعد الطهطاوي على إيجاد هذه الصيغة أن عصره كان عصر بناء ونهضة سياسية وفكرية، ولم يكن التهديد الاستعماري قد ظهر بوجهه السافر؛ مما أتاح له أن ينتج مشروعه الفكري كمشروع نهضة ذاتية وليس كرد فعل لضغوط خارجية، ولذلك اتسم بوضوح الرؤية واستمرارية التأثير. وقد شهدت الحقب اللاحقة من تاريخ مصر على مدى أكثر من قرنين استكمال البناء القانوني والمؤسساتي للدولة المصرية الحديثة.
شهدت مصر في القرن التاسع عشر اتجاها قويا لتدعيم سلطة الدولة المركزية، حيث سعت الدولة إلى التواجد بشكل قوي في كافة مجالات الحياة اليومية
محمد علي
حاول محمد علي أن يصل بمصر إلى وضعية "الدولة" المعترف بها دوليا، وكان لابد له أن يخوض معارك كثيرة من أجل الوصول لهذا الهدف
شهدت مصر في القرن التاسع عشر اتجاها قويا لتدعيم سلطة الدولة المركزية
ثنائية التعليم -التعليم المدني بجانب التعليم الديني- فى عصر محمد على أدت إلى ما يمكن أن يسمى بـ" دوائر الانقسام " بين أبناء الأمة الواحدة
رفاعة الطهطاوى
إذا كان بناء الدولة الحديثة في مصر قد تم على يد محمد علي؛ فإن البناء النظري للوطنية المصرية قد تم على يد مُنظر المرحلة ورائدها الفكري، رفاعة الطهطاوي