الأربعاء 23 يوليو 2025

مقالات

ذكرياتي عن ثورة 23 يوليو 1952 التي قامت عندما كنت في الثامنة من عمري

  • 22-7-2025 | 13:26
طباعة

تهل علينا في هذه الأيام الذكرى الثالثة والسبعون لقيام ثورة 23 يوليو 1952 المجيدة، وبحساب الأرقام الصماء أقول إنني مولود في الثاني من أبريل سنة 1944، أي قبل الثورة بثماني سنوات. يومها كنت طفلًا في قرية صغيرة بعيدة عن الدنيا كلها، اسمها قرية الضهرية، مركز إيتاي البارود، محافظة البحيرة، وكان في قريتنا راديو واحد عرفنا منه الأخبار التي سرت كالنار في الورق الجديد أو القديم في كل أنحاء القرية.

وتوجهت مع من هم في سني إلى أقرب مكان فيه جهاز راديو، وما زلت أذكر أنه كان دوار العمدة، وعرفنا الخبر بقدر ما سمح لنا أصحاب الراديو. وانتشر الخبر في القرية بسرعة غير عادية. ولأنها قرية من الفقراء، فقد وقفوا مع الثورة الوليدة، ولم يقف ضدها إلا الأغنياء وأصحاب الأطيان وأبناء الزمن الماضي. وبعد ذلك، ومع مرور الأيام التي أصبحت شهورًا، والشهور التي تحولت إلى سنوات، أدركت الحدث العظيم الذي مر ببلادي، ألا وهو ثورة الثالث والعشرين من يوليو سنة 1952، وأصبحنا نؤرخ به، وأصبح يظهر في كتابات على جدران البيوت، خاصة بيوت داير الناحية، الذي يعتبر الشارع الرئيسي في القرية كلها.

لم تكن الصحف تصلنا، لكنها بعد ذلك جاءت إلينا، ومعها جريدة جديدة هي جريدة الجمهورية التي أصدرها رجال يوليو. لكن الأهرام والأخبار كانت لهما مكانتهما الثابتة والمؤكدة وسط الناس.

في ذلك الزمان البعيد سألت نفسي ولاحقني السؤال سنوات بعدها: ماذا تعني ثورة يوليو بالنسبة لي إنسانيًا؟ والسؤال عن إنسانية العلاقة سببه المعاصرة. رحت أستعيد تجربتي الإنسانية معها. أقصد تجربة الطفل الذي كنته. ودونتها بعد ذلك بسنوات بكل الصدق الممكن. فما أصعب الصدق وما أسهل الكذب عند التعامل مع التاريخ، خاصة بعد أن ينقضي ويمضي. وما أسهل طريق الكذب للنفوس المريضة، وما أصعب طريق الصدق للقلوب النقية.

محاولة للكتابة

حاولت، فكانت هذه الكتابة. ليست عن ثورة يوليو التي يؤرخون لها بصدق أو كذب حسب الأحوال والظروف، ولكن ثورة يوليو التي مست جلدي، وشممت رائحتها بأنفي، وأحسست بها كيانًا يلامس حياتي، ويصبح جزءًا من مكوناتها. هذه الثورة التي دخلت مشهد حياتي ولم تخرج منه حتى الآن، ولن تخرج منه إلى الأبد.

كنت في الثامنة من عمري عندما قامت ثورة يوليو. تحدد الأمر في قريتي "الضهرية"، مركز إيتاي البارود، محافظة البحيرة، بخروج الأطفال – وأنا بينهم – نلف وندور على دكاكين البقالة نشتري صور اللواء محمد نجيب، الذي ادعى أهالي قرية قريبة منا على الشط الغربي لفرع رشيد، اسمها "النحارية"، أن محمد نجيب، قائد الحركة المباركة، من أبنائها.

وكان الحدث الأول الذي صبغ طفولتي بالدماء عندما مر القطار السريع الذي كان يقل محمد نجيب بمحطة التوفيقية. وهو البلد الوحيد في الناحية التي تتوقف بها القطارات. وتم حشد آلاف الناس من الغلابة والمساكين لتحية أول رئيس لمصر عند مروره. ولأن قطارات الكبار لا تتوقف في المحطات الصغيرة المنسية مهما تم حشد الناس فيها، حتى لو زرعوها بمخاليق الله، فقد تعمد اللقاء بالدماء. رغم أن محمد نجيب كان يركب القطار الملكي بعد أن آل إلى الحكم الجمهوري، وإن كان لم يُسمَّ بالقطار الجمهوري. ولكنه لم يكن يقف في شرفته المصنوعة من الخشب والأبنوس الجميل لكي يحيي مستقبليه.

قطارات الديزل

وكان الحادث ملونًا بالدم والدموع، رغم أن مصر لم تكن قد عرفت بعد قطارات الديزل التي تشفط الهواء عند مرورها بالمحطات الريفية، وتخلخله، وتسحب بعض الواقفين على الرصيف، ويكونون عادة في انتظار القطار الوحيد الذي يتوقف على المحطة في اليوم كله.

ومن تباشير العهد الجديد، وصول أحمد حسن الباقوري إلى قريتنا، ليس باعتباره القطب الإخواني الذي كان معروفًا من قبل، ولكن وزير الأوقاف في الحكومة التي تشكلت مباشرة بعد الثورة البيضاء. مرَّ الباقوري على أكثر من دوار ومضيفة يملكها أغنياء البلد. نُحِرت الذبائح، وشاهدنا دماءها أمام دوار العمدة، وأُلقيت خطب التأييد والمبايعة. وقيل يومها إنه عاد إلى مصر (هكذا كنا نسمي القاهرة) ومعه تبرعات مالية تدعم الثورة الوليدة. وهكذا أصبح أهل العهد البائد هم أيضًا رجال العهد المبارك، الذي كان عهدًا جديدًا بالنسبة لشباب الفقراء من أمثالنا. ووقفنا نحن أطفال يوليو – لأننا من أولاد الفقراء – في أبعد مكان عن رجل معمم. واحترت يومها في فهم العلاقة بين عمامة الباقوري وكابات الضباط الذين كانوا معه.

ومن الأحداث اليوليوية الهامة في قريتي، إلقاء القبض فجأة على الأستاذ "متولي"، ولم أعد أذكر باقي اسمه، الذي ربما كان اسمه الثاني: بحر. كان نوبيًا، وكان يعمل سكرتيرًا لمدرسة أنصاري سمك الابتدائية. جاءت تجريدة من المركز وعادت به والحديد في يديه. وكانت المرة الأولى التي تدخل فيها كلمة "شيوعي" قاموس قريتنا. وقيل يومها إنهم ضبطوا في منزله المؤجر جهازاً لاسلكياً يتصل به يوميًا بموسكو، وأن يقظة رجال يوليو هي التي مكنتهم من اكتشافه. وتداخلت قضية الأستاذ متولي مع الحكايات التي رواها أبناء القرية الذين يعملون في مصنع كفر الدوار عن إعدام "خميس والبقري"، ووصفهما بنفس الكلمات: «شيوعيان ملحدان».

بعد 24 شهرًا

في العاشرة من عمري، وبعد عامين على الجولة الأولى، كان عليّ وزملائي أن نعيد الجولة على دكاكين البقالة لشراء صورة البكباشي جمال عبد الناصر. وقال الكبار لنا إن اللواء محمد نجيب قد انحاز لكبار الملاك، ولكن البكباشي كان مع فقراء الفلاحين. وكان مربط الفرس هو قانون الإصلاح الزراعي الأول، الذي حاول إنهاء ملكية الإقطاع للأراضي الزراعية في الريف دون أن يقترب من النفوذ النفسي والاجتماعي والإنساني للإقطاع في القرية المصرية، وهو الذي فشلت كل المحاولات في إيجاد نفوذ بديل له حتى الآن.

لحظة إنزال صورة اللواء وتعليق صورة البكباشي مكانها، قرَّ في يقيني يومها أن رتبة البكباشي أهم وأخطر من رتبة اللواء، رغم حقائق الواقع. وصورهما أكدت هذا؛ فاللواء كان يطل علينا من الصورة أقرب إلى الرجل الطيب المغلوب على أمره، سبهللي وبسيط، تحب أن تباسطه في الكلام، وربما تحكي له همومك، ولكن هل يمكن أن يكون الفرعون؟! لا وألف لا.

نظرة البكباشي جمال

أما البكباشي، فقد كانت نظرته التي تطل علينا من الصورة قادرة على أن تُجرِّدك من ملابسك، مهمومًا ومشغولًا بالوطن حتى في الصورة. أنف صقر وشارب قائد، وفي عمق عينيه يختلط العزم بالتصميم. يطلب منك أن تنصرف إلى شؤونك الخاصة وتترك له وحده مسألة الاهتمام بالوطن والاطمئنان على ما يمكن أن يحدث في يومه ويجري في غده.

انزلقت قرية النحارية من وجدان الناس بالتدريج، وحلّت مكانها قرية "بني مر" التي أنجبت الرئيس الجديد، وبدأت الألسنة تلوك في سيرة اللواء. قالوا إنه مخلّط، ليس مصريًا خالصًا، أب مصري أي نعم، ولكن الأم سودانية، وأن زمن قدرته على القيادة كان قد مضى، وأن جمال عبد الناصر كان القائد الحقيقي والمخطط الفعلي للثورة منذ يومها الأول.

هذا الكلام كنا نسمعه من آبائنا وأجدادنا، وكل من يكبروننا في العمر. ولأنه كلام الكبار كنا نصدقه تمامًا.

وإن كنت قد اكتشفت أن معظم ما قيل في ذلك الوقت عن بني مر لم يكن حقيقيًا. فبني مر التي أصبحت قرية مصر الأولى لم تكن مسقط رأس عبد الناصر. عرفت بعد ذلك أن ميلاده كان في قرية صغيرة اسمها الضهرية، في أقرب مكان من مدينة الإسكندرية، وهي الآن أحد الأحياء الفقيرة جدًا التي تشكل حزام البؤس الذي يحيط بعروس البحر الأبيض المتوسط.

كانت أيامًا صنعت لنا حاضرنا، وأبدعت مستقبلنا، وأصبحت ثورة الثالث والعشرين من يوليو 1952 المصرية نموذجًا يُحتذى فيما سُمّي فيما بعد بالعالم الثالث. قامت ثورات مثلها في الوطن العربي والعالم الإسلامي، وفي آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. بل إن الظاهر بيبرس، وهو القائد المملوكي المهم، أصبح ينافس جمال عبد الناصر في اسم الضهرية، التي اكتشفنا أن هناك أكثر من ضهرية في بر مصر.

كانت أيامًا لها أبطالها ونجومها، علينا أن نُذكِّر الأجيال الطالعة بها، هنا والآن. لأن الحدث المهم والخطير الذي غيَّر كل شيء، وهو قيام ثورة 23 يوليو 1952، أتى لنا معه بهذه الحكايات.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة