حين تحرك الضباط الأحرار فجر 23 يوليو، كان د. طه حسين يقضي إجازة الصيف، كعادته، في الريف الإيطالي. وطبقًا لمذكرات زوجته السيدة سوزان، فإن السفير المصري في روما اتصل به مساء يوم 23 يوليو، وأحاطه علمًا بما يجري في القاهرة. بعد انتهاء المكالمة، علّق طه حسين لزوجته بأن ما يجري في مصر «ثورة.. ثورة على الملك فاروق».
كان عميد الأدب العربي الأسرع إلى إطلاق تلك التسمية «ثورة». حتى ذلك الوقت لم يكن ذلك المصطلح قد ظهر؛ اللواء محمد نجيب كان يراها «حركة»، ثم صارت «الحركة المباركة»، لكن طه حسين ظل يدافع عن أن ما يجري هو «ثورة»، وأعلن اختلافه مع اللواء نجيب في هذا الأمر.
وإذا كان طه حسين هو الأسرع في المساندة وتقديم مسمّى "الثورة"، فإن عباس العقاد كان الأشد مناصرة لخطوات الضباط الأحرار؛ كان يكتب بانتظام في مجلة "الهلال"، وكذلك مجلة "المصور" من مطبوعات دار الهلال، بالإضافة إلى يومياته في جريدة الأخبار، وكان يكتبها بانتظام أسبوعيا فضلًا عن غيرها من المجلات الأدبية والثقافية مثل مجلة "الكتاب"، التي كانت تصدر عن "دار المعارف" ويرأس تحريرها عادل الغضبان.
أما أحمد لطفي السيد، رئيس مجمع اللغة العربية، الوزير السابق في عدة وزارات، وأستاذ ذلك الجيل كله، فقد اكتفى بالقول بين تلاميذه إن الضباط الأحرار هم أول مصريين خُلَّص يحكمون مصر منذ الاحتلال الروماني. وعنه تناقل التلاميذ تلك المقولة ونشروها، فيما بعد نسبها البعض إلى ضباط يوليو، لكن الحقيقة أنها من صياغة لطفي السيد. كان هؤلاء وغيرهم رموز الفكر والأدب في زمانهم وإلى يومنا هذا، وقد سارعوا إلى تأييد الثورة ودعمها.
كتب طه حسين مساندًا الثورة، وكتب العقاد بغزارة مدافعًا بقوة عن إجراءاتها، خاصة إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية، وقبلهما خلع الملك فاروق، وقانون الإصلاح الزراعي الأول. وكتب توفيق الحكيم العديد من الأعمال الأدبية.
طه حسين عبّر، منذ منتصف الأربعينيات، عن مخاوفه من الثورات الشعبية على غرار ثورة الزنج وثورة القرامطة في التاريخ الإسلامي، والثورة الفرنسية في العصر الحديث. وكان رأيه أن هذا النوع من الثورات يأتي بالخراب والدمار، لذا فإن الناس تتحاشى نشوب الثورات. له مقال مهم بعنوان "ثورتان" نُشر في مجلة "الكاتب المصري"، قارن فيه بين ثورة الزنج في العصر العباسي وثورة سبارتاكوس في العهد الروماني، وشرح كيف أدت كل منهما إلى خراب مدن ومجتمعات بأكملها. لذا كان طبيعيًا أن يساند تحرك الضباط الأحرار؛ لأنهم حافظوا على الأمن، ولم تُسل الدمار في الشوارع.
العقاد كان عضوًا بمجلس الشيوخ، وكان هو رئيس اللجنة التي شكلها المجلس سنة 1950 لدراسة اقتراح تحديد الملكية الزراعية لكبار الملاك. كان مؤيدًا للاقتراح، وأعلن أن تحديد الملكية سوف يجنب مصر قيام ثورة حمراء، ثورة شيوعية، على غرار الثورة البلشفية في روسيا سنة 1917. لكن الاقتراح رُفض، وغضب الملك فاروق من الأمر بشدة، وظل العقاد على موقفه واقتناعه، لذا تنفّس الصعداء يوم 23 يوليو 1952، ثم يوم 9 سبتمبر 1952 حين صدر قانون الإصلاح الزراعي في مصر. يومها قال: لو أن هناك حياة نقابية في مصر، لاتُّخذت هذه الخطوة زمن الملك.
يمكن القول إن كبار الكُتاب كانوا بين مؤيد ومتحمس للثورة أو غير معارض لها، مثل د. محمد حسين هيكل باشا وآخرين. لذا كان غريبًا أن يثور، في بعض الصحف نهاية الخمسينيات، التساؤل حول "أدب الثورة"، لماذا تأخر ولماذا لم يعبر الأدباء عنها فى أعمالهم؟.. هل ارتباط الكتاب بالعصر السابق كان سببا فى عدم ظهور ذلك الأدب؟ بدا أن التساؤل فيه درجة من الخبث، إذ ينطوي على اتهام مضمر للكُتاب والمثقفين بأنهم لم يتجاوبوا مع الثورة، وأنهم ينتمون إلى العهد البائد. والحق أن السؤال كان مغلوطًا وملغوما، دعنا الآن من النوايا خلف إثارته وطرحه على هذا النحو؟
خرج السؤال بعد صدام يناير 1959 بين الدولة ومثقفي اليسار، خاصة اليسار الماركسي، حين تم اعتقالهم جميعًا إثر الخلاف الشهير بين الرئيس عبد الناصر ورئيس وزراء العراق عبد الكريم قاسم – كان ماركسيًا – وكذا الخلاف مع قيادة الاتحاد السوفييتي وقتها.
ظل ذلك السؤال مطروحًا لسنوات حول "أدب الثورة"، وربما كان ذلك السؤال سببًا في مقالات محمد حسنين هيكل الشهيرة في الأهرام مطلع الستينيات حول "أزمة المثقفين"، وقد جُمعت في كتاب صدر وقتها وأثار لغطًا وجَدلًا شديدًا بين المثقفين.
الأدب الذي يُكتب بعد الثورة، دفاعًا عنها وشرحا لها، أمامه عدة محاذير، أهمها المباشرة، أو أن يكون أدبًا موجَّهًا، مما يُنقِص من قيمته النقدية والأدبية، وقد يُتَّهَم صاحبه بالمجاملة أو بالنفاق. في تلك الفترة، اتُّهِم بعض الكُتاب بالمباشرة والتسطيح، وفيما بعد تندر الناقد الراحل فاروق عبد القادر على تلك الكتابات، وأطلق عليها "التنبؤ بالثورة بعد قيامها". أشار فاروق عبد القادر إلى أعمال أدبية شهيرة وجدت اهتمامًا كبيرًا في سنوات الستينيات، وسوف نلاحظ أن بعض هذه الأعمال خفتت ونسيت بعد فترة.
وظيفة الأدب، أو من بين وظائفه، أن يُبشر بالثورة، أي يُقدِّم أدبًا ثوريًا، يكشف نقاط الضعف في المجتمع، ويضع يد الجميع على الأزمات المستعصية التي تتطلب تدخلاً بالتشريع أو بخطوات تنفيذية قبل أن تنفجر الأوضاع. من ذلك مجموعة "المعذبون في الأرض" للدكتور طه حسين، وهى مجموعة قصصية صدرت سنة 1947 من بيروت بعد أن رُفِضَت الرقابة نُشرها، رغم أن المجموعة نشرت مجمعة في مجلة "الكاتب المصري" التي كان يترأس تحريرها د. طه حسين، وتتناول قصص المجموعة قضية الفقر وغياب العدل الاجتماعي، كان إهداء المجموعة يشي بما فيها "إلى آخرين يحرقهم الشوق إلى العدل وإلى الذين يؤرقهم الخوف من العدل" بعد ثورة 1952، استحوذت هذه القضية على اهتمام مجلس قيادة الثورة، واتُخذت فيها عدة خطوات تنفيذية سريعة وعاجلة، منذ الأسابيع الأولى لوجودهم في السلطة.
قبل هذه القضية، كانت القضية الوطنية المشتعلة، أي استقلال مصر، وكانت الشغل الشاغل للحركة الوطنية المصرية منذ الاحتلال البريطاني سنة 1882، وعلى دربها سار الزعماء مصطفى كامل، ومحمد فريد، وسعد زغلول، ومصطفى النحاس، والنقراشي، وأحمد ماهر، وغيرهم، عشرات ومئات من المناضلين والشهداء.
هذا هو دور الأدب: أن يلفت الانتباه إلى القضايا الكبرى، بحثًا عن حل لها، سواء جاء هذا الحل عبر الطرق والوسائل السلمية والإصلاحية، أو مع الثورة والثوار، لا يذهب الناس إلى الثورة إلا إذا سدت كل أبواب الإصلاح.
هذا هو الموقف الفارق، ولا يمكن أن نشكر فى الذين يكتبون عن الثورة، ويؤيدونها، ويدافعون عن خطواتها بعد انتصارها، وانجلاء المواقف والقوى الفاعلة على الجانبين، ولكن قد يكون بينهم بعض الانتهازيين، أو الباحثين عن مغنم هنا أو مكان هناك، وربما يكون لدى بعضهم رغبة في تصفية حسابات أو ثارات قديمة، شخصية وخاصة.
حدث هذا مع ثورة يوليو 1952، ومع كل الثورات في مصر وفي العالم، قديمًا وحديثًا. ربما تكون الثورة الفرنسية سنة 1789، والثورة الروسية سنة 1917، النموذج الأوضح في التاريخ. مع ملاحظة أن هناك أناسًا أو مواطنين كُتابًا ومثقفين عاديين، هؤلاء دائمًا يُفضّلون السلام والدعة، فيناصرون السلطة القائمة أياً كانت، ولا يصح – كما يفعل البعض – أن نتهم هؤلاء بالانتهازية أو الجبن. أناس مسالمون، يجتنبون أي أزمات أو مشاكل هنا وهناك ولا يريدون أن يكونوا مبادرين.
الذين يُوجَّه لهم اللوم، أولئك الذين ينتقلون من خانة التأييد المطلق، ثم مع تغير الأحوال ينقلبون إلى النقيض التام. لقد وجدنا كُتابًا وصفوا الملك فاروق، حتى يوم 26 يوليو، يوم أن تنازل عن العرش وغادر مصر نهائيا بأروع الصفات؛ هو العامل الأول، والفلاح الأول، و...، ولما غادر مصر، انقلبوا إلى النقيض تمامًا؛ لا يؤيدون الثورة فحسب، بل يلعنون الملك. لم يكن مطلوبًا تشويه سمعة الرجل والطعن في وطنيته وشرفه؛ لقد كان ملك مصر، وقد تنازل عن العرش وخرج معززًا مكرمًا، ضُربت له المدفعية 21 طلقة، وكان على رأس مودعيه قائد الثورة اللواء محمد نجيب وعدد من ضباط القيادة، ودار بينهما حوار وطني وإنساني مؤثر. فارق بين تأييد الثورة والدفاع عنها، ولعن الملك.
شيء من هذا حدث مع ثورة يوليو 1952، ذاتها ففي منتصف السبعينيات فُتح أوكازيون الهجوم على ثورة يوليو وعلى زعمائها، فانطلق بعض هؤلاء، لا إلى انتقاد الثورة أو إعلان أن بعض إجراءاتها لم تكن صحيحة، بل ذهبوا إلى حد القول إن الاحتلال البريطاني كان أفضل، وطالب بعضهم بهدم السد العالي.
وحتى لا نُسرف على أنفسنا، هذه الحالات موجودة ومعروفة في كل التجارب التاريخية والإنسانية.
في "أدب الثورة" أو ما يُسمى كذلك، سوف يتزاحم الكثيرون: الموهوب وغير الموهوب، المخلص والصادق، والباحث عن موقع أو الانتهازي. لكن المعيار هو أن يكون الأدب مُبشّرًا وداعيًا إلى الإصلاح وإلى الثورة، بلفت الانتباه إلى ما في المجتمع من أزمات، وما يتعرض له الوطن من مخاطر. وهذا هو الفارق بين طه حسين والعقاد في مواقفهما، وبين عشرات ومئات آخرين من الذين انضموا إلى "قافلة" أدب الثورة.