الأربعاء 23 يوليو 2025

كنوزنا

الإسلام عند جمال عبد الناصر

  • 22-7-2025 | 14:14

جمال عبد الناصر

طباعة
  • د. عبدالعزيز كامل

قادنى الصديق الأستاذ محمد أحمد، السكرتير الخاص للسيد الرئيس جمال عبد الناصر، إلى قاعة الاستقبال بمنزل الرئيس بمنشية البكري، وبقيت فيها فترة قصيرة استعدادًا للقاء القائد المعلم.

استرعت نظري لوحة زيتية تتصدر القاعة، ويعلو مكانها على جميع ما في القاعة من صور تذكارية: طفلان صغيران تبدو عليهما مظاهر الفقر، أقدام عارية، وثياب رثة، الطفلة جالسة، والطفل إلى جوارها يقدم إليها في براءة ووداعة بعض الثمار. يداه في التقديم كأنهما تدعوان الله أو تقدمان قربانًا. هو في حاجة إلى ما يقدمه، ولكنه يؤثر الطفلة على نفسه، عطية من فقير إلى فقير تحمل أنبل ما في النفس، وتقرأ فيها قول الله: ﴿ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة﴾، وقوله: ﴿ويطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا﴾.

وتحت اللوحة مجموعة من صور الزعماء الذين زاروا الرئيس في بيته. وتنتقل عيني بين صور الرؤساء وصورة الطفل والطفلة، صورة البراءة والحب والإيثار، في مكانها من صدر قاعة الاستقبال في بيت الرئيس.

وأنظر إلى الأثاث، فلا تستوقفني إلا بساطته، والإحساس بأنه في حجرة عمل، كساكن هذا البيت يعمل دون توقف.

وأستمع إلى خطوات الرئيس وهي تقترب، فأقف استعدادًا للقائه، وتتلاقى الأعين والأيدي بعد أن تلاقت القلوب.

هذا الإيثار والحب كان المحور الرئيسي في حياة الرئيس؛ آثر وطنه الكبير، آثر العطاء على الأخذ، والتعب على الراحة، والنضال على المهادنة، وحل قضايا الحياة اليومية للملايين. سعادته في أن تشيع السعادة، وراحته في أن يستريح الناس، وإن واصل هو ليله بنهاره في عمل دائب.

الدين: بين الفكر والتطبيق

كان اللقاء يوم 19 مارس 1968، وسألني الرئيس عن صحتي وأسرتي الصغيرة بصوته الهادئ الدافئ، ثم بادرني بقوله:

لقد قرأت كتابك الأخير “دروس من غزوة أحد”.

وفوجئت بذلك؛ فصدور الكتاب كان قبل اللقاء بأيام، والمهام التي عليه ثقيلة مضنية، ووقته عزيز، ويتابع الرئيس قوله:

- «قرأت الكتاب كله، ولكن أود أن أقول لك شيئًا ليس فيه: من اليسير أن تكتب، ومن العسير أن تطبق ذلك على الناس. معاناة الناس شيء غير الكتابة، وأنت عشت في الجامعة بين زملائك وتلاميذك تحبهم ويحبونك، ولكن قضايا الجماهير تحتاج إلى صبر طويل، وتلقى فيها مشكلات لا تتوقعها من أفراد لا تنتظر منهم المشكلات، والفارق كبير بين ما يعلمه الإنسان وما يعمل به مما يعلم»!
وتابع قوله:

- «وهذه تجربة أود أن تقوم بها في الحياة التنفيذية، ولكني أود أن أقول لك أمرين: الأول: أنك قد تجد السوء ممن تنتظر منه التعاون والخير، فلا تجعل ذلك يصرفك عن هدفك. والثاني: أدعو الله فأقول: أعانك الله.

نحن بحاجة إلى عمل طويل في جميع الميادين. شعبنا شعب طيب مؤمن، شعب وفي مخلص، فاربط نفسك دائمًا بالقاعدة، ولا تجعل حياة المكتب عازلًا بينك وبين الناس».

هكذا كان فهمه العميق الواضح للمسائل في شمولها، وفي العناية بتفاصيل الحياة اليومية. والحديث عنه ينبغي أن يشمل كلا الجانبين.

شمول الدين

في الشمول، كانت نظرته إلى الإسلام – كدين – مرتبطة بنظرته إلى الدين كله، إلى القيم الفاضلة التي هي ميراث الأديان جميعًا، وإلى تطبيقات ذلك في الحياة اليومية.

 في حديث له في 8 نوفمبر 1960، في حفل استقبال الرئيس الباكستاني أيوب خان:

“نحن شعب مسلم، ونحن أمة مسلمة، ولكننا في الوقت نفسه نعيش مع أشقائنا في العروبة في بلادنا من جميع الأديان، نعيش في محبة وإخاء. إننا حينما جابهتنا هذه الحملات في الماضي، لم يستطع الاستعمار أبدًا أن يفرق بيننا، وأننا اليوم كشعب مسلم نرفع راية الإسلام في بلادنا، ونحن نرفع أيضًا راية القومية العربية التي تجمع المسلم والمسيحي تحت راية الوطن الواحد”.

وفي ترحيبه بالأسقف مكاريوس في 3 يونيو 1961، قال له:

“إن الله الذي أودع الإنسان إنسانيته، منحه الإرادة التي يتحتم عليه بها أن يحمي وديعة الله، وأن يصونها، وأن يعز كرامتها.. إن الارتباط بين الدين والوطنية وثيق، فكل منهما دعوة دين، وكل منهما انتفاضة وطنية، وهما في الحقيقة نداء إلى الحرية، أحدهما من نور الله، والثاني من انعكاس هذا النور على ضمائر البشر”.

الإسلام عند جمال عبد الناصر مرتبط بالفكر الديني كله في جوهره وآفاقه، مرتبط بالعمل من أجل التحرير وبناء الأوطان، مرتبط بحياة أفضل تستهدف منع استغلال الإنسان للإنسان.

من أجل ذلك، يقول “الميثاق الوطني”:

“إن القيم الروحية الخالدة، النابعة من الأديان، قادرة على هداية الإنسان، وعلى إضاءة حياته بنور الإيمان، وعلى منحه طاقات لا حدود لها من أجل الخير والحق والمحبة. إن رسالات السماء كلها، في جوهرها، كانت ثورات إنسانية استهدفت شرف الإنسان وسعادته، وأن واجب المفكرين الدينيين الأكبر هو الاحتفاظ للدين بجوهر رسالته. إن جوهر الرسالات الدينية لا يتصادم مع حقائق الحياة، وإنما ينشأ التصادم - في بعض الظروف - من محاولات الرجعية أن تستغل الدين ضد طبيعته وروحه لعرقلة التقدم، وذلك بافتعال تفسيرات له تتصادم مع حكمته الإلهية السامية. لقد كانت جميع الأديان ذات رسالة تقدمية، ولكن الرجعية التي أرادت احتكار خيرات الأرض لصالحها وحدها، أقدمت على جريمة ستر مطامعها بالدين، وراحت تلتمس فيه ما يتعارض مع روحه ذاتها لكي توقف تيار التقدم”.

“إن جوهر الأديان يؤكد حق الإنسان في الحياة، وفي الحرية، بل إن أساس الثواب والعقاب في الدين هو فرصة متكافئة لكل إنسان. إن كل بشر يبدأ حياته أمام خالقه الأعظم بصفحة بيضاء يخط فيها أعماله. الفقر والجهل والمرض لغالبية الناس، وتُحتكر ثواب الخير لقلة منهم”.

“إن الله، جلّت حكمته، وضع الفرصة المتكافئة أمام البشر أساسًا للعمل في الدنيا، وللحساب في الآخرة”.

“وينبغي لنا أن نذكر دائمًا أن حرية الإنسان الفرد هي أكبر حوافزه على النضال”.

على المستوى التطبيقي العالمي

أما على المستوى التطبيقي، فقد كانت الدوائر المحيطة بمصر، والتي تتفاعل معها بلادنا تفاعلاً عضويًا، محددة في ذهن الرئيس منذ قيام الثورة.

ففي “فلسفة الثورة” حدد ثلاث دوائر: العربية، والأفريقية، والإسلامية، التي تمتد عبر قارات ومحيطات، والتي قال عنها: “إنها دائرة إخوان العقيدة الذين يتجهون معنا – أينما كان مكانهم تحت الشمس – إلى قبلة واحدة، وتهمس شفاههم الخاشعة بنفس الصلوات”.

وكان دور الأزهر الطليعي في هذه الدائرة واضحًا: إنه الجامعة الكبرى: المصرية موقعًا، العربية لسانًا، الإسلامية دينًا، الإنسانية هدفًا؛ الجامعة التي سمت فوق اللون والجنس والموطن، ووسعت جوًا من الإخاء الإنساني، وفتحت أبوابها لكل طالب علم من أي قطر، وكفلت حياة أبنائها وأساتذتها، فحققت كل شروط الحرية والالتزام الجامعي.

وعن دور الأزهر الحضاري، يقول “الميثاق الوطني” عن شعبنا:

“ثم إنه قد تحمّل المسئولية الأدبية في حفظ التراث الحضاري العربي وذخائره الحافلة، وجعل من أزهره الشريف حصنًا للمقاومة ضد عوامل الضعف والتفتت التي فرضتها الخلافة العثمانية استعمارًا أو رجعية باسم الدين، والدين منها براء”.

واتخذ العمل الإسلامي العالمي في مصر طريقين:

الاستجابة لرغبات الحكومات والشعوب والجاليات الإسلامية في مدّها بالأزهر، بقراء القرآن وعلماء الدين على المستوى الجامعي والمستويات الممهدة له. وأصبح مبعوثو الأزهر والأوقاف في الوقت الحاضر يمتدون على جبهة تبدأ من جزر الفلبين في أقصى الشرق إلى أمريكا اللاتينية غربًا، ويتكامل مع هذا مؤتمرات دورية سنوية يعقدها مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف. وهذا المجمع في تكوينه وعضويته ونشاطه وأهدافه إسلامي إنساني، يعني بقضايا العروبة والإسلام على المستوى العالمي.

وقد قدّر الرأي العام العالمي هذا الدور العلمي الروحي الإنساني الذي يقوم به الأزهر، فوجهت كثير من الدول الدعوات إلى كبار المسئولين فيه، وفي مقدمتهم فضيلة الإمام الأكبر. وكانت آخر رحلاته في شهر سبتمبر الماضي لزيارة مسلمي الاتحاد السوفييتي بدعوة مشكورة منهم.

وحرص الرئيس، في الوقت نفسه، على ألا يُتخذ الإسلام ذريعة وأداة لأي نوع من السيطرة أو الاستعمار، في أية صورة من صورهما. ومن هذا المنطلق، كان موقفه الواضح المحدد من “الحلف الإسلامي”، ومن محاولات التسلل باسم الإسلام إلى تفكيك أية وحدة وطنية، أو جرّ بلادنا إلى دوائر الأحلاف السياسية.

رفض استغلال الدين سياسيًا

وفي الوقت نفسه الذي رفض فيه فكرة “الحلف الإسلامي”، لما شابها وقتئذ من شوائب، ظل محافظًا بكل قوة وإخلاص على التعاون الفكري والثقافي بين مصر والعالم الإسلامي، وظلت مؤسسات الأزهر ومعاهد الجمهورية تتلقى أبناء العالم الإسلامي بصرف النظر عن المواقف السياسية لدولهم.

وذكر الرئيس، عند مناقشة الميثاق في الجلسة الخامسة، يوم 28 مايو 1962:

“بالنسبة إلى الروابط الإسلامية، أشرنا في الميثاق إلى الإسلام، وأشرت إلى هذا من أول يوم من أيام الثورة في كتاب فلسفة الثورة.. ولكن بعد ذلك بعض الدول الإسلامية دخلت في مواثيق وانحازت إلى الغرب، وبدأنا نسمع الكلام عن الحلف، حلف إسلامي.. وعن محاولات لاستغلال الدين الإسلامي من أجل الانحياز الذي يتنافى مع سياستنا.. وهذا الانحياز يتنافى مع الإسلام الذي ينادي بالحرية وبأن نكون أحرارًا وأسياد أنفسنا”.

ثم ميّز الرئيس بين هذه المواقف التي كانت تقفها بعض الحكومات في العالم الإسلامي، وواجبنا الدائم نحو الشعوب الإسلامية، فعقّب على هذا بقوله في الجلسة نفسها:

“أما عن الروابط الروحية، فإننا ندعو إلى هذه الروابط بكل الوسائل، ومع كل الدول الإسلامية، سنسير في طريق إرسال البعثات والمدرسين من الأزهر، ونحن ننفق في هذا أموالًا طائلة، ونرجو أن تكون هذه الروابط الروحية من أجل الإسلام والمنفعة الإسلامية”.

على المستوى المحلي

وكان لا بد من دعم القاعدة الإسلامية في مصر، ممثلة في الأزهر والأوقاف، وبث الروح الدينية في الجيل الصاعد من شبابنا، فالدين في مجتمعنا أصيل، عميق الجذور، و”الميثاق الوطني” ينص على رفض الشعب المصري “الاستعمار العثماني المقنّع باسم الخلافة”، والذي “كان يفرض عليه، دونما مبرر حقيقي، تصادمًا بين الإيمان الديني الأصيل في هذا الشعب، وبين إرادة الحياة التي ترفض الاستبداد”.

واتخذ العمل الإسلامي خطين:

الخط التنفيذي في الأزهر والأوقاف والوزارات المعنية بالتعليم. ويكفي أن نذكر أن ميزانية الأزهر بجميع هيئاته ارتفعت من نحو مليون ونصف المليون جنيه في عام 1952 إلى سبعة ملايين وتسعمائة ألف جنيه في عام 1970.

وصحب هذا تطوير في الأزهر، بضم كليات حديثة إلى كلياته الأصلية: اللغة العربية وأصول الدين والشريعة. وأصبح الأزهر جامعة تمثل الثقافة الإنسانية في آفاقها الدينية والعلمية. وخريج الأزهر قد تراه إمامًا فوق المنبر، أو طبيبًا في مستشفى، أو مهندسًا في السد العالي، أو خبيرًا في علوم الذرة، أو واعظًا في القوات المسلحة، أو قانونيًا في وزارة العدل. وتفتحت آفاق جديدة أمام الأزهر في عهد عبد الناصر، ليستطيع أن يواكب الحياة. وانتشر المتفوقون من أبنائه في بعثات دراسية يحصلون فيها على أرقى مستويات المعرفة في مراكز ازدهارها العالمية.

وفتحت كلية البنات بالأزهر أبوابها للطالبات في كافة نواحي المعرفة الإنسانية، يقبلن عليها من أقطار العالم، حيث يجدن الجو الإسلامي الذي يتطلعن إليه، كما وفرت لهن سبل الإقامة الداخلية في مدينة خاصة للطالبات.

وفي الوقت نفسه، أُعيد النظر في برامج التعليم الأزهرية في جميع مستوياتها، حتى تكون أكثر ربطًا بين الدين والحياة، كما نص على هذا قانون تطوير الأزهر رقم 103 لعام 1961.

وفي مدينة ناصر للبعوث الإسلامية – التي تجمع نحو ألفين وخمسمائة طالب – يقيم أبناء نحو سبعين دولة، يطلبون العلم والدين، ويعيشون في المدينة إخوة متحابين، ويحملون في أنفسهم لها – بعد تخرجهم – كما شهدت بنفسي عند زياراتي لهم في الشرق الأقصى، أجمل وأطيب الذكريات. لقد قالوا لي عندما زرتهم في الفلبين في مايو 1969:

“لو كانت مصر عندنا عقيدة، فهي الإسلام، ولو كانت مؤسسة، فهي الأزهر، ولو كانت شخصًا، لكانت جمال عبد الناصر”.

وبعد نكسة يونيو 1967، عندما حاول أبا إيبان، وزير خارجية إسرائيل، أن يلقي محاضرة عن إسرائيل في جامعة مانيلا، أبى الشعور الإسلامي، ومن يؤازره من محبي السلام والمؤمنين بعدالة قضيتنا، هذا، فحالوا أولًا بين أبا إبيان وبين الخروج من الباب الرئيسي في مطار مانيلا، ثم جعلوا من أجسادهم جدارًا يحول بينه وبين دخول قاعة الاحتفالات الكبرى في الجامعة، مما اضطرت معه الجامعة إلى إلغاء المحاضرة، وإنقاذ أبا إيبان من هذه الغضبة المؤمنة.

وهذه الصلة الروحية بين الطلبة بمدينة ناصر والأزهر استطاعت أن توجد ركيزة قوية من الوفاء الصادق، وهو رافد طيب من روافد الرأي العام العالمي الذي أخذ يتحول بوعيٍ ويعلم نحونا ويؤمن بعدالة قضيتنا.

وكما حال الرئيس دون استغلال الدين سياسيًا على المستوى العالمي، حال دون ذلك على المستوى المحلي، فقاوم كل محاولات استغلال الدين أو الاستتار وراءه، كما قاوم، في الوقت نفسه، كل محاولات الهجوم على الدين وإضعافه في نفوس الشباب.

وأراد الدين لنا إخاءً ومحبة، وأن يد الرئيس التي تزيح الستار سعيدة بإنشاء مسجد، هي نفس اليد التي تسعد بإزاحة الستار عن إنشاء كاتدرائية، وأن نفس الإرادة التي توفر سبل إنشاء المساجد، هي نفس الإرادة التي تُعين على بناء الكنائس. فالكل إخوته وأبناؤه، ولكل منهم حق واجب الرعاية مكفول الوفاء.

على المستوى الشعبي

وانعكست هذه الروح على الشعب كله، وأقول: إن جهود الأزهر والأوقاف تقصر عن الوفاء بحاجات شعبنا المؤمن، المتطلع إلى ربه ودينه، الشعب الذي لم ينقطع عن الإيمان بربه من أقدم عصور حياته، وإن تتابعت عنده صور الإيمان. بل إن وزارة الأوقاف نفسها لا تعدو أن تكون حلاً ذاتيًا أراده الصالحون من أبناء هذه الأمة عبر القرون، ليقفوا أرضهم وأموالهم لأبواب الخير. لقد كانت صورة بسيطة من صور التأميم التي تُرصد فيها الأموال للصالح العام، يفعلها الفرد اختيارًا، ولها نظائر كثيرة في عالمنا الإسلامي.

وتوضح الأرقام الآتية صورة مقارنة عن الجهود الحكومية والشعبية في بناء المساجد ما بين عامي 1952 و1970:

ارتفع عدد مساجد الوزارة من 2000 إلى 2516، منها 125 مسجدًا أنشأتها الوزارة بناءً على طلب أصحابها.

ارتفع عدد مساجد الشعب من تسعة آلاف إلى سبعة عشر ألفًا؛ أي أن عدد المساجد الشعبية في عهد الثورة زاد ثمانية آلاف مسجد، والذي عاق الضم مؤقتًا ظروف العدوان وقصور الميزانية. ورغم هذا، فإن شعبنا المؤمن – مقدرًا للظروف المصيرية التي نعيشها – قام برعاية هذه المساجد، كما رعى بيوت الله عبر القرون.

الجيش والمسجد

والذي يستوقف النظر أنه بعد النكسة، أقبل شعبنا إقبالًا كبيرًا على بناء المساجد. وجاء هذا تعبيرًا صادقًا من إيمانه، ومتواكبًا، في الوقت نفسه، مع إقباله على بناء جيشه، ودعم الجيش بجميع قواه المادية والروحية. وسلاحنا في معركتنا: إعداد الجيش العلمي المتفوق، والجندي العقائدي المؤمن. وسلاحنا في القاعدة الشعبية: عقيدة عميقة في الله ونصره وحقنا في الحياة، وترجمة هذه العقيدة إلى إنتاج في كل مرافق حياتنا: اقتصاديًا، واجتماعيًا، وسياسيًا، وثقافيًا.

وهذه طبيعة الروح الضخمة في صعيد مصر: استعدادًا لحرب الهكسوس، ثم شكرًا بعد النصر.

بناء الكنائس في عقود الاضطهاد الروماني.

بناء المساجد عندما قام شعبنا بصد غارات الصليبيين والتتار.

الاندفاع الكبير إلى دعم القاعدة الدينية والقوات المسلحة بعد النكسة عام 1967.

الكتاب الإسلامي

وإذا نظرتَ إلى مساجدنا في عهد جمال عبد الناصر وجدتها عامرة بالشباب، حتى ضاقت المساجد – على كثرتها – بروادها، وأصبحت تُبنى في أسفل العمارات وإلى جوارها، وأصبحت صلاة الجمعة تُقام في الأسواق بالحلول الذاتية. ساعد على ذلك تطوير دراسة الدين في مدارسنا، والربط بينه وبين الحياة، وتقريبه إلى جيلنا الجديد، وظهور موجة عالية من التأليف والنشر العلمي الديني، نرى فيها إنتاج وزارات الثقافة، والأزهر، ومجمع البحوث الإسلامية، وإنتاج المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، إلى ما تقوم به دور النشر، وقد أثبت الكتاب الإسلامي قدرته الفائقة على دخول قلوب الناس، بحيث أصبح – كما تثبت الإحصاءات – أوسع الكتب انتشارًا.

جمال في حياته اليومية

وأعود إلى الرئيس الذي حرّك هذا المد الإسلامي في طهارته ونقائه، وفي سماحته وفيض محبته:

لقد كان يعيش الإسلام في نفسه: في زهده وتواضعه، في إعادة الدين إلى بساطته، وإلى تطبيقه في حياته اليومية على نفسه وعلى الناس.

كان متخففًا في طعامه، طاهرًا في شرابه، وببيته وأهله، محافظًا على عبادته، ولقد ذكر لي – رحمه الله – أنه في زيارة له للاتحاد السوفييتي، اقترب موعد صلاة الجمعة، وكان في مباحثات مع القادة السوفييت، والمسلمون مجتمعون في المسجد ينتظرون قدومه، فطلب إيقاف المباحثات، واستعد لصلاته، وذهب ليؤدي صلاة الجمعة مع إخوانه.

كان الإسلام عنده إسعاد الناس، ولهذا ترجم الاشتراكية إلى منع استغلال الإنسان للإنسان. كان أمله أن يتعلم كل شاب، وأن تتزوج كل فتاة، وأن تتكون الأسرة الصغيرة الهانئة.

وحبّب الله إليه في العام الأخير زيارة بيوت الله.

كنتُ أجلس في المكتب يوم الخميس، فإذا بالصديق الأستاذ سامي شرف – وزير الدولة وسكرتير الرئيس للمعلومات – يخبرني أن السيد سيصلي الجمعة غدًا في السيدة زينب.

وفي الأسبوع التالي.. أدى صلاة الجمعة في نفس المسجد، وزار الأزهر مرات، والإمام الحسين مرات، وكان يوصي بتوسعة هذه المساجد، والعناية بفرشها وتهويتها وإضاءتها ورعاية العاملين فيها.

وما زلت أذكر وقوفه يومًا أمام ضريح السيدة زينب، وقد جاء الرئيس على غير موعد، إلا الشوق الذي دعاه إلى زيارة بيت الله، وقد وقف أمام الضريح في خشوع وهدوء، ونظرة عميقة من عينيه إلى المقام.
أكان يذكر كربلاء؟

أكان يذكر الدماء المسلمة التي سالت بأيدي المسلمين؟

أكان يخشى كربلاء جديدة تُراق فيها دماء بريئة، ويُضطر إلى الوقوف فيها، ليحول دون إراقة الدم الطاهر؟

وسألتُ الصديق اللواء سعد الدين الشريف، ياور السيد الرئيس:

ما كانت مناسبة زيارة السيد الرئيس للسيدة زينب؟

فأجاب أخي سعد:

إنها رغبته الخاصة. هو الذي اختار المسجد وموعد الزيارة.

كان – رحمه الله – في لقائه يذكر الموت والحياة متجاورين، عميق الإيمان بأن الموت والحياة بإذن الله: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾.

ويذكر في هذا قصصًا عن حياته في فلسطين، وموت بعض الذين كانوا يتجنبون الموت، وبقاء الذين تعرضوا له، ثم يبتسم في وداعة قائلاً: “الأعمار بيد الله”.
وداع

نعم، بيد الله يا قائدنا:

عِشتَ مؤمنًا بالعدل والسلام، ومُتَّ في سبيل السلام، طاهر القلب واليد واللسان.

فجزاك الله عنا خير ما يجزي الله قائدًا مخلصًا مؤمنًا عن أمته، وكتب لك في رضوانه صحبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

سلام عليك في محياك، وسلام عليك يوم وداعك، وسلام عليك يوم يقوم الناس لرب العالمين.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة