الثلاثاء 22 يوليو 2025

مقالات

ثورة 23 يوليو وضمير العصر الأدبي

  • 22-7-2025 | 14:15
طباعة

ثلاثة وسبعون عامًا من عمر ثورة 23 يوليو، هي ثلاثة وسبعون عامًا من عمري (إلا سنة واحدة) فأنا من مواليد ثورة يوليو 1952 التي غيرت مجرى حياة أسرتي وأسر كثيرة من الشعب المصري، فبعد أن كان يخطط والدي الموظف المصري البسيط لأن يكتفي في تعليمه لأولاده بالمراحل الأولى، شجعته الثورة عندما أعلنت مجانية التعليم لأن يغير قراره - بعد أن لاحظ تفوقنا في الدراسة - فيلحق أبناءه الخمسة بمراحل التعليم الجامعي.

ومن أيام مجدي مع الثورة التي لا أنساها؛ زيارة الزعيم للإسكندرية يوم 26 يوليو من كل عام، ومرور موكبه على كورنيش الإسكندرية، فقد كنا نخرج في ساعة مبكرة في ذلك اليوم لنحتل أماكننا على سور الكورنيش في منطقة السلسلة لنرى الزعيم وهو يلوِّح لنا وسط موكبه المهيب، وكان والدي يرفعني عاليا لأرى الزعيم وهو يلوح لي، أو هكذا كنت أتخيل أنه يلوح لي.

بعد ذلك كنت أتساءل: هل أضافت ثورة يوليو 1952 شيئًا إلى ضمير العصر؟

والإجابة: بالتأكيد أضافت؛ لأنها لم تأت من الفراغ، ولم تذهب إلى الفراغ، ولكنها كانت ثورة شعب قبل أن تكون ثورة ضباط أحرار، والضباط الأحرار أنفسهم هم أبناء هذا الشعب، ومن نسيجه الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، لذا فإنها لم تمت، وإن كانت ضعفت بعض الشيء.

ومن ضمن الكتب التي قرأتها في محاولة الإجابة عن هذا السؤال الذي كان يشغلني دائما، كتاب "ماذا أضافوا إلى ضمير العصر؟" للناقد الراحل الدكتور غالي شكري (1935 – 1998)، الذي يؤكد أن الثورة فاجأت بعض الأدباء من ناحية الشكل، وإن لم تفاجئهم من ناحية المضمون، ولكنها بغير شك قد فاجأت البعض الآخر شكلا ومضمونًا؛ لذلك تختلف انعكاساتها على الأدب العربي الحديث من الزوايا الفكرية والفنية كافة.

يؤكد شكري أنه من الطبيعي أن يكون انعكاس الثورة على الأدب المصري أكثر وضوحًا وحدَّة عن انعكاساتها على الآداب العربية الأخرى، خاصة في سنوات عمرها الأولى حين صبت اهتمامها على البناء الداخلي للمجتمع المصري. فلم تعد مخادع القصور وأندية القمار والملاهي الليلية بالمادة الصالحة لأن تكون "حلما" للإنسان الجديد. وعلى الرغم من ذلك فقد كان للثورة انعكاسات على الآداب العربية الأخرى كما سنوضح فيما بعد.

* في مجال الرواية والقصة القصيرة

صدرت ثلاثية "بين القصرين" لنجيب محفوظ، في طبعتها الأولى عامي ١٩٥٦ و١٩٥٧ على التوالي. على الرغم من أن محفوظ قد بدأ كتابتها قبل ذلك التاريخ بسبع سنوات، ولم يتصور أن هذه البانوراما الهائلة لمجتمعنا الحديث يمكن أن ترى النور في ظل النظام القديم، حتى قامت الثورة وأطلقت لقلمه العنان في تكملة أعظم الوثائق الفنية في تاريخنا الأدبي.

ويوضح شكري أنه في كل من "الأرض" لعبدالرحمن الشرقاوي، و"الثلاثية" لمحفوظ، محاولة فنية لاكتشاف القوانين الضابطة لحركة المجتمع حتى يمكن الاستنارة بها في توجيه الإنسان الجديد. وهذا هو الفرق بين هذين العملين وغيرهما من أعمال آثرت العمل "التسجيلي" والنظرة "الأخلاقية" لمجتمع ونظام ما قبل الثورة.

ويُلاحظ صمت نجيب محفوظ بعد ذلك سنوات عدة، ويفسر غالي شكري هذا الصمت بأن الصورة الاجتماعية كانت من التعقيد بحيث تتطلب من الفنان الأمين أن يتريث طويلا أمام الظواهر الجديدة التي تقتحم وعيه بكل ما تزخر به من ثراء وعمق.

بعد هذا الصمت ظهرت "أولاد حارتنا" التي كانت في رأي شكري إعلانًاً صادقا يقول بأن النضال الوطني لم يعد هو الكفاح من أجل الاستقلال السياسي، وأن القضية الاجتماعية لا ينبغي أن تظل شفرة سرية يتبادلها الكتاب وقراؤهم في صمت؛ وإنما أمست الاشتراكية والعلم الطريق الحتمي الوحيد أمام تطورنا الاقتصادي والفكري والاجتماعي.

ويشير الناقد إلى أنه لم تكن العاصفة التي أثيرت في وجه نجيب محفوظ – بعد نشر "أولاد حارتنا بجريدة الأهرام عام 1959 - إلا صورة مصغرة للعواصف الكبرى المستمرة التي واجهتها الثورة بعد أن قررت المسير بحزم نحو الطريق الطويل إلى الاشتراكية. ويرى أن محفوظ استطاع بوعي نافذ إلى مكونات الثورة وإدراك جاد بمقوماتها أن يعكس "الحركة" الثورية سلبًا وإيجابًا بنظرة دينامية حية.

لقد لاحظ غالي شكري أن معظم أدباء الجيل الجديد في السنوات التالية للثورة اتجهوا نحو القصة القصيرة، وأضحت ساحة الرواية خالية إلا من التجارب القليلة التي كتبها محمود دياب "الظلال في الجانب الآخر"، وصالح مرسي، "زقاق السيد البلطي"، وشوقي عبد الحكيم "أحزان نوح"، غير أن موجة القصة القصيرة بدأت في الانحسار مع ازدهار المسرح الجديد، وقد كان من نقاط التحول الرئيسية في تاريخنا الأدبي الحديث، التي عكست بصورة مباشرة - بالسلب والإيجاب - منجزات الحركة الثورية المعاصرة.

وخارج مصر؛ ظهرت روايات "الحي اللاتيني" و"الخندق العميق" و"أصابعنا التي تحترق" للدكتور سهيل إدريس؛ وهي أقرب ما تكون إلى ثلاثية روائية تسجل بالتعبير الفني تطور جيل ما بين الحربين على النطاق العربي ويقظته الثورية في ٢٣ يوليو ١٩٥٢ إلى العدوان الثلاثي في ١٩٥٦، وكيف كان هذا التاريخ  انبثاقًا مجددًا لوحدة الثورة العربية.

إذن لم تكن الرواية العربية بمعزل عن تطورات الرواية المصرية في الاستجابة لأحداث الثورة؛ ذلك أن ثورة يوليو في إطارها القومي كانت قد طرحت مجموعة من القضايا على الصعيد العربي حين أخذت في اعتبارها أن توحد الشعب المصري في معركة مصيرية وحضارية مشتركة مع بقية أبناء الوطن العربي.

ومن الأعمال العربية الأخرى التي تلامست مع ثورة 23 يوليو، تعد أعمال غسان كنفاني وحليم بركات وأبو بكر خالد وعبد الله القويري في مقدمة الأعمال التي عبَّرت في أمانة وصدق عن الأبعاد العربية الجديدة للثورة المصرية.

وعلى الجانب الآخر، صدر في بيروت ودمشق سيل من الروايات والقصص القصيرة التي انعكست عليها أحداث الثورة سلبًا، فوقف كتَّابها إلى جانب القوى المعادية للثورة، سواء تم ذلك بطريقة تقريرية مباشرة في تلك القصص التي صورت الانفصال الرجعي في سوريا تصويرًا معاديًا للثورة العربية، أو ما تم منها بصورة فنية ركزت على جوانب السلب والتمزق عند بعض قطاعات المثقفين، وقد شاركهم بطرق ملتوية بعض الكتاب المصريين وإن لم يكتب لأعمالهم البقاء الطويل.

* في مجال المسرح

يرى غالي شكري أنه قبل الثورة - باستثناء المسرح الشعري لأحمد شوقي والمسرح النثري لتوفيق الحكيم - لن نعثر على إنتاج جاد في غمرة النشاط الواسع لحركة الاقتباس والترجمة والتمصير التي سادت على المسرح العربي عموما - لا المسرح المصري وحده - خلال النصف الأول من القرن العشرين، وبعد قيام الثورة ظهر الجيل الجديد الذي كان من علاماته: نعمان عاشور، ولطفي الخولي، ويوسف إدريس، وسعد الدين وهبة، ورشاد رشدي، وعبدالرحمن الشرقاوي، وألفريد فرج، وهو الجيل الذي يقول عنه غالي شكري إنه الجيل الذي جسَّد بصوابه وأخطائه جميعًا، معظم انعكاسات ثورة يوليو على إنساننا الجديد، ونهضتنا الحضارية الوليدة. لقد طرح هذا الجيل قضية "الثورة" في أبعادها المختلفة، والمد والجزر في مرحليتها أو استمراريتها، ويتبين لنا من هذا العرض أن المسرح المصري – في ذلك الوقت - كان انعكاسًا حادًّا ومباشرًا لمنجزات الثورة في مجال الحركة الاجتماعية والفكرية. ونستطيع أن نضيف الفنية أيضا؛ فقد تهاوت الأبنية الكلاسيكية مع التجارب الجديدة.

* في مجال الشعر

أما الشعر، فيوضح الناقد أنه رافقت نقطة تحوله الخطيرة بداية الثورة وإرهاصاتها، وأن هناك صراعًا حادا هائلا نشب بين المحافظين والمجددين، أسفر في بعض الأحيان عن نتائج مهمة، ومعركة ضارية بين الرجعية الأدبية وصفوف المجددين.

ويُخيل إلى شكري أن عام ١٩٥٢ الذي ظهرت فيه الأعمال المبكرة لعبدالوهاب البياتي وصلاح عبدالصبور وخليل حاوي ونازك الملائكة وبدر شاكر السياب هو العام الذي يمكن أن يتخذ دليلا على أن ثورة يوليو كانت نقطة انطلاق حضارية شاملة للمنطقة العربية كلها؛ ذلك أن الحضارة العربية - والشعر من معالمهما البارزة - كانت ترهص إبان هذه المرحلة الهادرة من تاريخها بثورة تتجاوز حدود الإطار السياسي إلى آفاق التكوين البشري العام. وكانت ثورة يوليو عاملا ً حاسمًا في حرث الأرض العربية لاستقبال بذور الشعر الحديث في شيء من الثقة والاطمئنان، بعد أن حالت القوى الرجعية طويلا بين ثورة الشعر الحديث ومنابر التعبير الجماهيرية، فامتنعت عليه الصحافة والإذاعة والندوات، وأصبح مقصورًا على الهمس بين جدران البيوت الصديقة للشعر الجديد. بل كثيرًا ما طاردت بعض السلطات هذا الهمس حين بالغت القوى المحافظة في اتهام الشعراء الجدد بالاتهامات السياسية المختلفة. وظلت هذه الاتهامات قائمة بعد قيام ثورة يوليو، ولكنها لم تعد قادرة على سد الطريق أمام الشعر الجديد؛ إذ خصصت له المنابر الرسمية وغير الرسمية فرص التعبير القوي الحر.

لقد هزَّ مضمون الشعر الحديث أو الجديد عروش الرجعية الأدبية، ولم يكن الشكل الجديد إلا انعكاسا حتميًّا لهذا المضمون الجديد.

ويوضح شكري أنه في موازاة تقدم الثورة وإنجازاتها المادية لم تعد هناك صراعات "شكلية" بل تعددت ألوان الحركة الجديدة نفسها، وأمسى الشعر الجديد ميدانًا لعديد من التيارات الوافدة مع التحولات الثورية في أجزاء كثيرة من الوطن العربي.

•النقد العربي والدراسات الأدبية

يشير غالي شكري إلى أن ثورة يوليو لم تنعكس على فن من الفنون، كما انعكست على النقد العربي والدراسات الأدبية. وربما كانت المعركة التي اشتعل أوارها حوالي عام ١٩٥٤ بين المحافظين والمجددين هي بداية الانعكاسات الثورية للتطور الاجتماعي على النقد الأدبي، والفن عموما. ويؤكد أن النقد كان - مثل الشعر - من أكثر الأشكال الأدبية اهتماما بالمستوى العربي في طرح المشكلات؛ وبالتالي من أكثرها تأكيدًا على أن الثورة التي نعايشها هي ثورة حضارية شاملة لا ثورة سياسية فحسب، أو ثورة اجتماعية في مرحلة تالية.

ويؤرخ الناقد للمعركة النقدية الأولى التي تبلورت عام ١٩٥٤ في أن فريق المحافظين لا يرى غاية اجتماعية للأدب، وأن هذه الغاية إن وجدت فهي تهدِّدُ الجمال الفني بالانحدار. أما فريق المجددين فقد رأى أن الفنان ليس كائنًا معزولا عن المجتمع الذي يعيش فيه، ولا بد له لكي يكون صادقا أن يعكس الحياة التي تضطرم من حوله فيما ينشئه من آثار فنية.

وقد ثارت مثل هذه القضية بين الدكتور محمد مندور من جانب، والدكتور رشاد رشدي من جانب آخر. فرشاد رشدي يرفض الوظيفة الاجتماعية للأدب، ويرى العمل الفني كيانًا جماليًّا مستقلا عن صاحبه والظروف المحيطة به. بل إن الفن العظيم في رأيه، هو ما ازداد استقلالا عن الكاتب ومجتمعه، وتصدَّى له الدكتور محمد مندور تصديًا علميًّا دقيقًا دافع فيه عن الأصول العامة للنظرية الواقعية في الأدب.

وليس هناك شك أن ثورة يوليو أبرزت جيلا ً كاملا من النقاد الشباب، وأتاحت فرصة التعبير الحر لمختلف المدارس النقدية. وكان من النتائج الأساسية لهذه الحرية أن ازدهرت حركة النقد العربي ازدهارًا لم يسبق له أن كان ظاهرة حضارية شاملة في تاريخنا الأدبي الحديث، بالرغم من كل ما يعلق به من شوائب الانفعالات الشخصية والأقلام السطحية المغامرة.

إن ثورة يوليو لم تكن إلا تجسيدًا سياسيًّا لظاهرة الثورة الحضارية الشاملة التي ولجنا أبوابها في ذلك التاريخ، وكان الأدب من معالمها البارزة، ولم يكن تأميم قناة السويس، ثم العدوان الثلاثي، ثم قرارات يوليو ١٩٦١ وبناء السد العالي إلا من المعالم البارزة في حياتنا التي أكدت استمرارية تلك الثورة.

وأختم بالإشارة  إلى إحدى الروايات الجديدة التي تنظر إلى ثورة 23 يوليو نظرة مغايرة وهي رواية "كل الشهور يوليو" للكاتب والإعلامي إبراهيم عيسى، التي وقعت في 660 صفحة، وصدرت عام 2020، وتبدأ أحداثها ليلة قيام الحركة أو الثورة في شوارع القاهرة الليلية، بمشهد البكباشي يوسف صديق وهو يطارد سيارة قائده اللواء عبدالرحمن مكي، فيبهت اللواء مكي وهو يرى أشباح ضباطه يوجهون إليه مدافعهم.

 

الاكثر قراءة