ينامون حتى شعاع النهار الساخن، لا شيء يُنسيهم عناء الفلاحة، غير مقامه الأخضر الذي تربع في الفسحة البحرية، ينتظرونه كل مساء، ينخرطون في الأمل، ويبحثون عن العون
والمدد.
المساء يسهر طوال الليل، يأكل الخراف في صمت، والصمت ساد حين بزغ نوره من بعيد.
قالت: العرّافة لا تُكثر الغناء على الضريح، قد يراك بقلبه.
قلت: ربما تلمس الحزن الذي امتزج بالضحك الهارب.
مدّت يدها في جيبها، وتمتمت بالدعاء. السماء لم تعد تحتمل السحب الداكنة، أهدتني بعض القطرات الخفيفة من المطر، عادت وكأنها ترسم لي لوحة بوهيمية، همست بصوت خفيض: اصعد الجبل الشرقي.
قلت: جائع، والعطش قد جفّف ريقي.
ردّت بصوت قاسٍ: انزل للشيخ "نقاق"، ستجده في ساحة المقام البحرية.
جاء يتمايل بعمّته الطويلة، هكذا حاول تعويض قِصر قامته، هزّة يمين.. هزّة شمال.. صاح: "مداد يا سيدنا"، كان الشيخ "نقاق"، ولم يسبقه أحد، جاء الشيخ "نقاق"، ولن يأتي بعده أحد.
دارت في رأسه همهمات مسموعة، كيف ارتدى الباطل ملابسه الملوّنة بالغنج الصاخب، كل تلك الهمهمات والأصوات الرقيعة جعلته يبحث عن الراحة.
ذهب إليهم، تمدّد بجلبابه الممزق، التراب لين، والهواء عَطِن، خرج وعاود الكَرّة مرة أخرى.. نفخ في فمه.. الصبر علاج، والموت علاج، جرى حتى تعبت قدماه، المقاومة علاج، والاستسلام علاج، قطع أنفاسه من الجري، الوَنس علاج، والعزلة علاج.
كنت أتمايل يمينًا ويسارًا بجوار "المدهنن"، كانت هناك أصوات ذات رائحة، كدت أتقيأ من الامتعاض والاشمئزاز، صوت طرقات الكفوف كان عاليًا، فطغى على تلك الأصوات.
قال: بأني مبروك.. قبّل يدي، ثم صاح: "مداد يا عارف".
شربة ماء للعود الناشف.. الوَنس مطلوب.. والمدد مرغوب.. ولكن الوحدة تركض بلا لجام.. نملت أطرافي.. رائحة البخور سجنت هواء الساحة.. تعبت من الدوران.. حاولت الاتكاء على سور الفسحة.. الليل طويل، والهواء عليل.. النفس طلبت البقاء، والجسد مهدود.
انتبهت على أصوات كركبة تتلوى من الجوع في بطني، جئت لا لشيء غير أن "المدهنن" وعدني بقطعة لحم وطبق مرق من الوليمة.
تمالكت نفسي من السقوط من كثرة الدوران، دوخة داهمتني فسقطت على الأرض، حملوني إلى غرفة الشيخ "نقاق".
قال: ما الذي حملك على الحضرة وأنت حديث العهد؟
قلت، وأنا أحاول إخفاء الكذب في فمي: حب وكرامة يا شيخنا.
قال: الثوب مرقّع، والجسد بالٍ.
مدّ يده، وقد امتلأت جميع أصابعه بالخواتم الخضراء، جاءت أصواتهم ناعمة تردد من خلفي: "أخضر، قلبه أخضر.. وعوده أخضر.. وحلمه أخضر"، ثم تحشرجت الحناجر وهي تحاول دفع الكلمات بوهن: "أرضه بور.. والنوم طعامه".
قاطعهم بصوت خفيض، ثم همس: خذ كتيب الأذكار النقاقية، وأراك غدًا باكرًا.
لم أتحرك، نظرت إلى الأرض؛ ففهم قصدي، أشار: "لحمة ومرق يا مدهنن".
سرت وراءه وبطني تقرقع من رائحة الطعام، أكلت كأني قادم من مجاعة، أو كأنها آخر أكلة في حياتي.