الإثنين 28 يوليو 2025

مقالات

حكايات مزمنة.. في حضرة النهاية

  • 24-7-2025 | 12:57
طباعة

حين تتجول في طرقات مستشفى الأورام، تشعر كأنك تسير في متحف للوجع الإنساني، جدران صامتة تحفظ أسرار المئات وربما الآلاف، ممن مروا من هنا بأجساد منهكة وقلوب تقاوم الانهيار.

كل قسم يحمل اسمه كوشم ثقيل في ذاكرة المرضى، كل لافتة تهمس بشيء من الرهبة، وكأنها تقول مرحبا بك هنا تختبر قدرتك على التحمل.

لكنني ذات يوم، وجدت نفسي أمام قسم مختلف تمامًا، لم يكن يشبه باقي الأقسام، كان المكان هادئًا بشكل مريب، تفوح منه رائحة الورود، وتنساب منه موسيقى ناعمة كأنها تهدهد وجعًا عميقًا لا يقال
كان اسمه "الرعاية التلطيفية".

للوهلة الأولى ظننته قسما للتأمل أو العلاج النفسي، وربما مكانا مخصصًا للشفاء الروحي، لكنني اكتشفت أن الاسم لا يحمل في طياته طمأنينة بقدر ما يخفي وجعا أعمق من أن يقال.

سألت إحدى الممرضات عن القسم، فانكمشت ملامحها فجأة، وغرقت عيناها في شرود بعيد، ثم تمتمت

كنت أعمل هنا في بداية رحلتي، وكنت أظن أني أتعافى، لكني انتقلت منه"

ثم سكتت!

لم أكن بحاجة لتفسير فهمت، الرعاية التلطيفية هو الاسم اللطيف لما يمكن أن نسميه وداعاً ناعماً للحياة.

هنا لا يعالجون المرض، بل يخففون أوجاعه، هنا لا يقال ستُشفى بل لن تتألم أكثر.

المرضى الذين يصلون إلى هذا القسم، هم أولئك الذين استنفدوا كل فرص النجاة، ولم يعد أمامهم إلا أقوى المسكنات، ليبقوا قليلًا دون أن تصرخ أجسادهم من الألم.

كنت أريد الدخول أرى، أسمع، أكتب، لكن شيئا ما في قلبي ارتعش، ربما خفت أن أجد نسخة مني هناك،  وربما خفت أن أتعلق بنظرة عيون لا تعرف هل ستودعك أم تستغيث بك، أو ربما كان الخوف أن أخرج منه وأنا شخص آخر.

الرعاية التلطيفية ليست قسما طبيا فقط، بل مرآة ترى فيها هشاشة الحياة، وسكينة الموت، وحنو من يحاولون أن يجعلوا النهاية أقل قسوة.

هنا لا يعلن الانتصار، بل ترفع الراية البيضاء، ولكن بابتسامة وموسيقى، ولمسة يد حانية.

وجوه لا تنسى قلوب تمشي على الأرض، في هذا القسم، لا تنسى الوجوه بسهولة، ممرضات لا يحملن مجرد سماعة طبية، بل يحملن قلوبا تتسع لكل هذا الحزن ولا تسقط.

يتنقلن بين الأسرة بصمت يشبه صلاة، يبتسمن رغم إدراكهن أن النهاية تقترب، ويمسكن بأيدي المرضى في لحظات الوحدة القصوى، حين لا يتبقى من العالم سوى أنفاس متقطعة ودمعة لا تجد كتفاً.

قال لي أحد أقارب مريضة كانت هناك "أنا مكنتش متخيل إن بنتي ممكن تضحك في الأيام الأخيرة، بس الممرضة دي كانت بتقعد تحكيلها عن البحر، وتغني معاها، وتحط لها ورد على السرير كل يوم الصبح، كأنها بتقولها إن الحياة لسه حلوة حتى في آخر لحظة.

كان الأب يحكي وعيناه دامعتان، لكنه يبتسم، وكأن تلك اللحظات القليلة التي قضتها ابنته في هذا المكان كانت كافية لتخفيف وجع الرحيل.

هنا لا تقاس البطولة بالنجاة، بل باللطف في مواجهة النهاية، ففي حضرة النهاية يبقى الإنسان، ربما لا نملك أن نهزم المرض، ولا نملك أن نمنع الوداع، لكننا نملك أن نُهديه لحظة راحة، ولمسة أمان، وابتسامة في وجه الرحيل.

الرعاية التلطيفية ليست مكانا للموت، بل ملاذًا أخيرًا للكرامة، مكانا يقول للإنسان أنت لست وحدك، حتى وإن كانت النهاية قريبة.

ففي زمن تقسو فيه الحياة بلا مقدمات، يظل هناك من يؤمن أن الوداع يمكن أن يكون حانيًا و أن تكون النهاية دافئة إنسانية.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة