يعيش خبراء وممارسو السياسة الخارجية الذين كرسوا حياتهم للقضايا الليبرالية، مرحلة قاسية منذ عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض؛ حيث قوض ما بنوه على مدار عقود.
وذكرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية أنه خلال الأشهر الستة الأولى من ولايته الثانية، أطلق ترامب شعارات حول إصلاح الحكومة الفيدرالية، شن في إطارها حملة غير مسبوقة ضد مؤسسات ليبرالية، أدت إلى تفكيك الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، وإلغاء مكاتب وزارة الخارجية المعنية بقضايا حقوق الإنسان واللاجئين.
لكن الهزات التي تسبب فيها ترامب -وفقا للمجلة- لم تتوقف عند المؤسسات الحكومية؛ بل امتدت إلى العشرات من مراكز الفكر ومنظمات المجتمع المدني التي كانت تتلقى تمويلا حكوميا، مثل: "مؤسسة دعم الديمقراطية"، و"المعهد الجمهوري الدولي"، و"فريدوم هاوس"، ومؤسسات إعادة توطين اللاجئين، والتي تعرضت للإغلاق أو فقدت تمويلها، أو دخلت في معارك قانونية تهدد وجودها.
ويواجه العاملون في هذه المؤسسات خيارا قاسيا: إما التخلي عن مشروعاتهم وشراكاتهم الدولية والتوقف عن مساعدة الفئات الهشة، أو البدء في التفكير بواقعية من أجل إنقاذ القيم التي طالما آمنوا بها.
نهاية وهم "زعيم العالم الحر"
وأشارت المجلة إلى أن الغرب لطالموا نظروا لأنفسهم عبر صورة مثالية، مفادها أن الرئيس الأمريكي هو "زعيم العالم الحر"، لكن هذا التصور بدأ في التآكل حتى قبل عودة ترامب للسلطة. فالنظام الليبرالي العالمي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية دخل مرحلة من الوهن، وسط تصاعد التنافس بين القوى الكبرى، ورفض عالمي متزايد للهيمنة الغربية، وتراجع الالتزام بالمبادئ لصالح المصالح الذاتية.
فالولايات المتحدة، على سبيل المثال، لم تصادق على أي معاهدة لحقوق الإنسان منذ عام 2002، بينما كانت الصين وروسيا تنخرطان بذكاء في الهيئات الأممية، محاولتين تشكيلها وفق مصالحهما. أما مجلس الأمن الدولي بتركيبته الحالية، ليس لديه أي قدرة على حل أزمات خطيرة، كأوكرانيا وغزة.
كما أن التحديات العالمية كالتغير المناخي وجائحة كوفيد-19، باتت مستعصية على المعالجة، فيما خرج مؤتمر الأمم المتحدة عام 2024، الذي وصف بأنه "فرصة تاريخية لإعادة وضع تصور للنظام متعدد الأطراف"، باتفاق هزيل، وسط تجاهل عالمي ملحوظ. وعليه، ومع تصاعد الشعبوية في أوروبا بسبب أزمات اللاجئين، وتراجع الثقة داخل أمريكا في العولمة بفعل الحروب الطويلة وتفاقم التفاوت الاقتصادي، انهارت ثقة الشعوب في مشروع الليبرالية الدولية.
ولفتت المجلة الأمريكية إلى أنه رغم الأزمات سالفة الذكر، ظلت النخب السياسية في واشنطن، من الحزبين (الجمهوري والديمقراطي)، تؤمن بمشروع الليبرالية الدولية. لكن عودة ترامب إلى البيت الأبيض أثبتت هشاشة هذا الأمر، حيث لم يعد هناك رادع لقراراته. فبعد ستة أشهر فقط من عودته، لم يكتف ترامب بتقويض المؤسسات، بل تبنى -وفقا للمجلة الأمريكية- نهج الأنظمة الاستبدادية؛ مهاجما الإعلام، والجامعات، والبيروقراطية، وحتى القضاء، وهو ما وضع صورة أمريكا الليبرالية كفكرة مؤقتة تخضع لتقلبات السياسة، لا كقيمة ثابتة.
وترى المجلة أنه من غير المرجح أن يتمكن أي رئيس أمريكي قادم من إعادة بناء البنية التحتية الليبرالية التي فككها ترامب، حيث تدهورت صورة أمريكا عالميا، ليس فقط بسبب قراراته، بل نتيجة الأثر المدمر لانسحاباته المتكررة من المنظمات الدولية، وقراراته الاقتصادية أحادية الجانب، مثل فرض التعريفات الجمركية، وتعليق تمويل منظمة الصحة العالمية، والمجلس الأممي لحقوق الإنسان.
وحول أبرز أسباب ضعف النظام الليبرالي الدولي، أوضحت المجلة أنها تتمثل في فشل المشاريع الدولية (مثل إعادة إعمار أفغانستان والعراق)، وتراجع الديمقراطية عالميا، وصعود الصين وروسيا في المؤسسات الدولية، وفقدان الثقة في العولمة بين الأمريكيين بسبب الحروب وعدم المساواة.
عواقب تفكيك النظام الليبرالي
ونبهت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية إلى أن تفكك النظام الليبرالي الدولي من شأنه تقليص النفوذ الأمريكي خارجيا، وتحول أوروبا واليابان نحو شركاء جدد (الصين، الهند)، وانهيار المعايير الدولية لاسيما حقوق الإنسان وحماية اللاجئين، وتقليص التمويل العالمي للديمقراطية (حتى من قبل دول أوروبية)، إضافة إلى تأثيرات اقتصادية تتمثل في اضطرابات في الأسواق بسبب التعريفات الجمركية الأمريكية، وإضعاف منظمة التجارة العالمية والأمم المتحدة.
ودللت المجلة على ما ساقته بالإشارة إلى أنه مع تراجع أمريكا، بدأت دول العالم بالفعل في إعادة التموضع، حيث تتجه أوروبا نحو توسيع تجارتها مع الصين، واليابان نحو تعزيز شراكتها الدفاعية مع الهند، واتجاه كندا نحو تقوية علاقتها الاقتصادية مع أوروبا. أما ترامب، فقد أعاد بقراراته تشكيل سلاسل التوريد العالمية بعيدا عن واشنطن.
كما أن انسحاب أمريكا من قضايا حقوق الإنسان والإغاثة الإنسانية أعطى غطاء لأنظمة أخرى لتتخلى عن هذه القيم، في وقت لا تقف فيه أوروبا في موقع يؤهلها لقيادة هذا الملف، بل تسعى العديد من دولها، على العكس، للتحلل من مسؤولياتها تجاه طالبي اللجوء.
الليبراليون الأمريكيون أمام مفترق طرق
وتؤكد المجلة أنه أمام الليبراليين الأمريكيين فرصة لا بد من اغتنامها، حيث يجب عليهم حاليا أن يقيموا أداءهم خلال العقود الماضية، ويحفظوا أرشيف المؤسسات التي شكلت النظام الليبرالي، مثل "الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية" و"مكتب السكان واللاجئين والهجرة" في الخارجية الأمريكية. كما ينبغي على المؤسسات غير المعتمدة على تمويل حكومي، أن تلعب دورا رياديا في دعم المجتمعات المدنية.
وشددت المجلة على أنه رغم اختفاء النظام الليبرالي بصورته المعتادة حاليا، إلا أن الفرصة لا تزال قائمة لإعادته. فالتاريخ أثبت أن الليبرالية الدولية قابلة للتطور. فعلى سبيل المثال، تم إنشاء البنك الدولي لإعمار أوروبا، ثم تحول لاحقا لمحرك لمكافحة الفقر.
ولكن لتحقيق هذا التطور، لا بد -وفقا للمجلة الأمريكية- من تحديث خطاب الليبرالية الدولية، وربط المبادئ الليبرالية بالواقع السياسي، مع إعادة النظر في بعض المبادئ التي لم تعد تواكب العصر مثل قوانين اللجوء التي تعود لعصر ما بعد الحرب العالمية الثانية، والاستفادة من التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي لإحياء منصات إعلامية تسهم في إعادة الترويج لليبرالية الدولية.
وختاما، ورغم أن عصر النظام الليبرالي القديم قد انتهى، إلا أن القيم التي دافع عنها (مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان) يمكن أن تعود بشكل جديد. ولكن تحقيق ذلك يتطلب: واقعية، وإبداع، والانطلاق نحو بناء نظام عالمي جديد يعيد لتلك القيم دورها المركزي في العالم، مع إدراك أن المعركة القادمة ستكون أصعب، لكنها ليست مستحيلة.