الثلاثاء 12 اغسطس 2025

مقالات

الحارة التي أصبحت كونًا: كيف حوّل نجيب محفوظ الزقاق إلى أسطورة؟!


  • 12-8-2025 | 13:29

أحمد الفخراني

طباعة
  • أحمد الفخراني

في ربيع عام 1959، نُشرت على صفحات جريدة الأهرام رواية «أولاد حارتنا» مسلسلةً بقلم نجيب محفوظ. ما إن ظهرت الفصول الأولى حتى انفجر الغضب، واتهم محفوظ بـ«الكفر والإلحاد والإساءة إلى الدين والأنبياء». سرعان ما مُنع نشر الرواية في مصر بضغطٍ من المؤسسات الدينية، إذ بدا واضحًا أن الحارة القاهرية التي عشقها محفوظ لم تعد مجرد شارع جانبي ضيق، بل صارت رمزًا يتجاوز حدود المكان. هكذا وُلد السؤال الذي سيطارد قرّاء محفوظ ونقاده لعقود تالية: هل تحولت الحارة في أدب محفوظ إلى كون رمزي كامل، بمثابة مرآة للوجود الإنساني وأسئلته الكبرى؟

مشهد واقعي أم عالم مصغر؟
ذات يوم اعترف نجيب محفوظ في حديث إذاعي قديم أن أمنية لم تتحقق له كانت كتابة رواية عن الريف المصري – ولكنه لم يفعل لأنه «يجهل الحياة الريفية التي لم يشهدها مطلقًا» كما قال. لقد وُلد محفوظ وترعرع في قلب القاهرة القديمة، في حي الجمالية ثم العباسية، ولم يغادر عوالمها قط في كتاباته. من خان الخليلي إلى زقاق المدق، ظلّت حواري القاهرة مملكته السردية. لهذه النشأة أثر عميق على رؤيته الأدبية: المدينة الشعبية عنده ليست مجرد خلفية واقعية للأحداث، بل عالم مصغر قائم بذاته.
لطالما أشاع البعض أن محفوظ قدّم في رواياته توثيقًا أمينًا لتفاصيل القاهرة التاريخية وأزقتها وسكانها، لكن الناقد مهاب نصر يدعونا لإعادة النظر في هذه الفكرة. يبيّن نصر أن سرد محفوظ – حتى في مرحلته الواقعية – فقير في التفاصيل الدقيقة مقارنة بالواقعيين الأوروبيين. لا يكدّس محفوظ الأثاث والألوان والملابس بدقة تسجيلية؛ البيوت والحجرات عنده تتشابه وترتسم بخطوط عامة. تلاحظ الناقدة سيزا قاسم مثلًا أن مفردات الوصف لدى محفوظ تتسم بالتعميم والإيجاز، وأنه يكرّر عناصر وصفية نمطية لا تميز مكانًا من آخر. هذه الواقعية المنقوصة ليست ضعفًا، بل اختيار فني: فمحفوظ لم يكن معنيًا برسم القاهرة كصورة فوتوغرافية، بل ببناء فضاء روائي أشبه بمسرح رمزي. ولذا، ما إن تجاوز مرحلته المبكرة حتى بدأ يشكّل المكان كاستعارة مباشرة مقتصدة. لقد تخفّف من زوائد الوصف الواقعي، وترك للحارة أن تمثّل فكرة أكثر مما تمثّل شارعًا محددًا.
يؤكد جمال الغيطاني -الروائي الفذ الذي تتلمذ على محفوظ- هذه الرؤية بقوله عام 2008 إن «الحارة عند محفوظ تحوّلت إلى رمز للكون». بالفعل، حارة محفوظ ليست مجرد حي شعبي، بل كونٌ مصغر تتصارع فيه قوى الخير والشر، وتتجاور فيه الأسطورة مع الواقع. قد تبدو شخوصه لأول وهلة نماذج اجتماعية من كناس وبائع وفتوة وغانية، لكن كلًّا منهم يقف على أرض تتجاوز حياته الفردية. بائع العرقسوس أو صاحب المقهى في حارتهما الضيقة ينطقان بحكمة إنسانية أوسع كثيرًا من حدود زقاقهما. وكما يشير مهاب نصر، فإن محفوظ كان يتحرك في سرده على عدة مستويات متداخلة: مستوى اجتماعي واقعي مباشر، ومستوى رمزي سياسي وطني، ومستوى فلسفي إنساني عميق. الشخصيات إذًا لها حياة مزدوجة: فهي أشخاص من لحم ودم في الحارة، لكنها أيضًا رموز وأفكار تمشي على قدمين.
هذه الطبيعة المزدوجة للواقع الروائي عند محفوظ منحت الحارة أفقًا أسطوريًا. فبينما نرى أبطال الثلاثية يعيشون تفاصيل يومية في بيت القاضي وحارة بين القصرين، نلمس في الوقت ذاته تجريدًا متزايدًا لفكرة البيت والحي. لاحقًا، في أعمال مثل قلب الليل (1975) والباقي من الزمن ساعة (1982)، يصبح البيت ذاته رمزًا مثاليًا للسلطة الأبوية أو لتاريخ غامض. أما البيت الكبير في «أولاد حارتنا» – بيت الجد الجبلاوي – فهو أعلى البيوت رمزًا في أدب محفوظ، بيتٌ يعتلي صحراء المقطم ويواجه الخلاء كأنه يتحدى الخوف والوحشة. إنه بيت الأسطورة الأول الذي تتفرع منه الحارة كلها. هكذا تتجلى الحارة المحفوظية كبيئة واقعية في الظاهر، لكنها في الجوهر بيئة افتراضية ذات بُعد رمزي، تمثل الوطن والتاريخ الإنساني في آنٍ واحد.
حدود المكان: فخ الحارة وقدرها
في إحدى مقابلاته شبّه محفوظ نفسه بـ«موظف حكومي عنيد» كتب بصبر ودأب عن مجتمعه دون ضجيج سياسي. لكنه ككاتب كان يختبر حدود ذلك المجتمع المغلق. رسم لنا الحارة كأنها بيت كبير بأبواب موصدة على ساكنيه؛ ماذا لو حاول أحد الخروج من هذا البيت؟ الجواب في عالم محفوظ قاسٍ: الخروج يعني السقوط. يرى مهاب نصر أن المكان لدى محفوظ يبدو أشبه بـ«فخ» أو مصيدة: كل محاولة للهروب منه تنتهي بموت محقق. هذا الحكم القدري يتكرر بصورة لافتة عبر أعماله. في رواية زقاق المدق (1947)، مجرد وقوف حميدة على عتبة الزقاق ونظرها بجرأة إلى الشارع الخارجي كان نذيرًا مبكرًا بسقوطها المحتوم. تلك الفتاة الفقيرة الجميلة حلمت بمغادرة الزقاق نحو العالم الواسع، فخرجت لتصبح راقصة لعوب وتلقى مصيرًا مأساويًا. يعلّق نصر على هذا المشهد بأن دهشة حميدة بخروجها إلى شارع سليمان باشا كانت الإشارة الأولى لتمردها الفاشل. لقد دفعها الفضول خارج حدود مجتمعها الصغير، فكان الثمن فقدان براءتها ثم حياتها.
تتكرر هذه الثيمة في خان الخليلي (1946): الشاب رشدي عاكف يقع في غرام فتاة من خارج حارته القديمة، ويصرّ على تجاوز حدود الحي الآمنة برغم تحذيرات المرض والحرب. فيختار القدر أن يعاقبه بأقسى طريقة: يُصاب رشدي بالسل ويموت شابًا، وكأن الخلاء المرادف للموت دمّر الطموح الوحيد الذي خرج عن حدود الحارة. يشير نصر إلى أن رشدي بدا كحلم رومانسي أُجهض لأنه عجز عن إدراك حدود واقعه الاجتماعي؛ خرج رغم التنبيهات المتتالية من عالمه المحدود، فكانت نهايته نتيجة مباشرة لذلك الخروج. الرسالة واضحة في عالم محفوظ: لا نجاة خارج الأسوار. حتى عندما انتقل أبطال الثلاثية للسكن في أحياء جديدة بعيدة عن الجمالية، ظلّت الحكاية تؤكد أن الهروب من الأصل القديم مقرون بخطر أو فساد. “إن السقوط هو حليف كل محاولة للإفلات من المكان”، يكتب مهاب نصر. المكان هنا هو الحارة/الوطن/الماضي، الذي قد يكون خانقًا، لكنه أيضًا المصدر الوحيد للهوية والمعنى.
لم يكن محفوظ بالطبع داعية للانغلاق، لكنه يصور المفارقة الوجودية للمصريين في عصره: حارة ضيقة ولكنها الملاذ الوحيد. فالمدينة الحديثة خارج الحارة تبدو فاسدة ومادية، بينما الحارة - برغم فقرها – تحتفظ بروح وألفة. لهذا، كثيرًا ما تنتهي محاولات أبطاله لقطع التذكرة إلى العالم الأوسع بخيبة أو عقاب. إنه ليس عداءً للتغيير بقدر ما هو وعي تراجيدي بثمن الاقتلاع. ولعل محفوظ تأثر هنا بتجربته الشخصية أيضًا؛ فهو ابن عالم قديم مترابط (أزقة القاهرة التقليدية) شهد تحلّل هذا النسيج تدريجيًا مع زحف الحداثة على أطرافه. في روايات مثل السمان والخريف وبداية ونهاية، كل خروج جسدي من المكان القديم – إلى صحراء المقطم أو ضاحية المعادي – يقترن بانهيار أخلاقي أو موت معنوي. نفيسة في بداية ونهاية (1949) تسقط في الفاحشة عند أطراف صحراء ألماظة، في إشارة إلى سقوط طبقة بأكملها عند تجاوزها بيئتها الأصلية. حتى في القاهرة الجديدة (1945)، عندما اصطحب محجوب عبد الدايم فتاته إلى منطقة الأهرامات النائية، آل الأمر إلى محاولة اعتداء يائسة وفشل ذريع؛ يغادر الاثنان المكان وقد تلطخا بعار معنوي لا يمحوه الزمن.
هكذا تصبح حدود الحارة في أدب محفوظ خطًّا أحمر غير مرئي: من يتجاوزه يخسر نفسه. إن هذا التشدد السردي يحمل في طياته نقدًا مبطّنًا لمجتمع ما قبل الثورة وما بعدها: مجتمع مغلق عاجز عن التوسع الصحي، وكل محاولة فردية لاقتحام العالم الكبير مصيرها الصدمة. لكن محفوظ لا يتركنا مع هذه العتمة بلا عزاء؛ فعزاء الحارة أنها، مهما ضاقت، فإنها تختزن بذور الخلاص الداخلي. الخلاص لن يأتي من الهروب المادي، بل من التحول داخل الحارة نفسها، من إعادة اكتشافها كرمز كوني رحب.
الحارة كأسطورة كونية
في ذروة مسيرته الإبداعية، كتب محفوظ أعمالًا كسرت القالب الواقعي إلى رحاب الرمزية الصريحة. أبرز مثالين هما «أولاد حارتنا» (1959) و«الحرافيش» (1977) – وهما عملان محوريان تمحورت حبكتهما حول حارة شعبية تخفي في ثناياها قصة الخلق والخطيئة والخلاص. في أولاد حارتنا نجد أنفسنا إزاء حارة هي الدنيا بأسرها: تبدأ الرواية من فراغٍ وصحراء، “كان مكان حارتنا خلاء، فهو امتداد لصحراء المقطم... ولم يكن بالخلاء من بيت قائم إلا البيت الكبير الذي شيده الجبلاوي”. هكذا يضع محفوظ أصل الحارة في العدم؛ تمامًا كقصة الخلق التوراتية، ينبثق العمران من صحراء موحشة ويتربع عليه بيت الجبلاوي (الجد الرمز) متحديًا الوحشة ولصوص الخلاء. على امتداد الرواية، كلما ضاقت سبل العيش في الحارة، يهرب أحد أبنائها إلى الصحراء طلبًا للعدل أو الحقيقة – إلى الأصل الأول حيث اعتصم الجد. الخلاء هنا موئل الشرعية المفقودة ومهبط الوحي البديل. أهل الحارة وفتواتها يتصارعون على وقع هذا الخلاء المحدق بهم من كل جانب، “كأنه العماء الأول الذي انبثقت منه نطفة الوجود والحقيقة”. وعندما تحتدم المعارك وتتعالى الصرخات في الحارة، يهجم الغبار من الصحراء كلعنة تعيد الجميع إلى نقطة البدء. إننا أمام أسطورة تكوين مكتملة: الحارة عالم البشر، والصحراء من حولها هي الفوضى الأولى والمجهول، ومن التفاعل بينهما تولد دورات الخطيئة والتوبة جيلاً بعد جيل.
أما في ملحمة الحرافيش، فالحارة الشعبية تصبح مسرحًا ملحميًا لصعود أسرة الناجي وسقوطها عبر قرون. هنا أيضًا تحضر الصحراء كملجأ وكهف اعتكاف: الجد البطل عاشور الناجي يترك الحارة فجرًا على عربة كارو تخترق القبور عند أطراف المدينة، ويعتصم بجبل المقطم بحثًا عن معنى العدالة. يهتف عاشور من قلب الخلاء: “الله أكبر”، في إشارة روحية إلى بداية جديدة. يتكرر المشهد لاحقًا مع أحفاده كلما استبد الظلم بالحارة – يفرّون إلى الجبل أو الخرابة ليتطهروا ثم يعودوا فاتحين. إن الخلاء هنا هامشٌ للمسحوقين سياسيًا واجتماعيًا، لكنه أيضًا استعادة لفطرة الجماعة الأولى. وفي الحالتين، هو مكان النفي للمنبوذين ومختبر حلم العدالة النقية خارج فساد الحارة. يتضح إذًا أن محفوظ يستخدم جغرافيا الحارة كاستعارة كبرى للمجتمع البشري: الداخل (الحارة) نظام اجتماعي بأطواره وصراعاته، والخارج (الصحراء) فراغ مطلق يبتلع كل من يحاول تجاوز النظام. وبين الاثنين شخصيات نصفها بشر عاديون ونصفها رموز نبوية أو شيطانية، تتحرك وكأنها تؤدي أدوارًا قدرية مرسومة.
على هذا النحو، ليس مستغربًا أن يرى البعض في عاشور الناجي مخلّصًا، وفي زوجته الست عين أمًّا حواء لحارة محفوظ. في نهاية الحرافيش يختفي عاشور فجأة ويظنه الناس ميتًا، كما تختفي الست عين في عصر الحب (1980) ثم تعود شبحًا في أحلام فترة النقاهة. يعلّق أحد نقاد محفوظ أنه إذا كانت حارة محفوظ رمزًا كونيًا، فإن عاشور والست عين قد اكتسبا قداسة خاصة في وجدان أهل الحارة، وكأنهما آدم وحواء. هما حلم الفقراء والمهمشين بالمنقذ الذي سيعود يومًا؛ وجهان لأسطورة العود الأبدي. ولذا تترقبهما المخيلة الجمعية باستمرار، رافضة تصديق موتهما. في يوتوبيا أحلام محفوظ الأخيرة، نلتقي فعلًا بالست عين ومعها “المعلم القديم” (قرين محفوظ نفسه) في مقهى الفيشاوي بعد الموت. ينتهك محفوظ حدود الواقع ليؤكد أن شخصياته خالدة في أحلامه، وأن الموت لا يفرّق بين الأحبة. بهذا يجيب الحلم عن سؤال الحارة الأثير: هل مات عاشور؟ هل ماتت عين؟ الجواب: لا يموت من يتحول إلى رمز. لقد صارت الحارة أسطورة جماعية؛ مجالًا تتلاشى فيه الحدود بين الواقع والخيال، ويتحد فيه المؤلف وشخصياته في فضاء خلودي تتحدى فيه حتى الموت.
من الحارة إلى العالم... والعودة إليها
على مدار نصف قرن من الكتابة، أخذنا نجيب محفوظ في رحلة فريدة بدأنا من حارة صغيرة تكاد أبوابها تُغلق مع المغرب، وانتهينا إلى كون روائي مفتوح على أسئلة الخلق والمصير. خلال تلك الرحلة، تطور أسلوب محفوظ من واقعية اجتماعية مقيدة بجغرافيا القاهرة الشرقية، إلى رمزية فلسفية طليقة تحلّق فوق الزمان والمكان. لكن المفارقة أن كل هذا التطور حدث داخل الحارة نفسها. فالحارة كانت مختبر محفوظ الأول والأخير؛ هي وطنه الذي حمله معه حتى وهو يكتب عن عالم ما بعد الموت في أحلامه الأخيرة. وربما لهذا السبب، ظل أدب محفوظ يحتفظ بنواة صلبة من المحلية بالرغم من كونيته. كما يذكر مهاب نصر، قاهرة محفوظ بدت دائمًا أضيق من مدينة حديثة متصلة بالعالم، بل أشبه بسجن يفرض أوضاعًا مأساوية على الأفراد ويغلف مصائرهم بالغموض. ومع ذلك، نجح محفوظ عبر نوع من البطولة المسرحية المتنمّرة أن يوسع أفقها لتصبح أمثولة حضارية. أي أنه حوّل قيود الواقع المصري إلى رموز عالمية، وصهر حاراته الشعبية في بوتقة أسطورة إنسانية كبرى.
لقد أصبحت الحارة الرمزية بصمة محفوظ الأبرز في الأدب العالمي. في نهاية المطاف، لا يستطيع قارئ ميرامار أو ملحمة الحرافيش أن يفصل بين الأزقة الضيقة والشوارع المسدودة وبين الأسئلة الوجودية العميقة التي تثيرها الروايتان. المشهد الختامي في معظم حكايات محفوظ يعود بنا دائمًا إلى الزقاق: يعود البطل أو وريثه إلى الحارة بعد طول تيه، أو تمسي الحارة نفسها بطلة تسرد تاريخها كما في حديث الصباح والمساء. كأنما يقول لنا محفوظ إن الكون كله حارة؛ وإن حارتنا الصغيرة قد تكون صورة مجهرية لمسرح الخلق بأكمله. وما دام الإنسان يطرح الأسئلة الأزلية عن العدل والحرية والإيمان، ستبقى حارة محفوظ الرمزية حية، تستدعي التأمل من جديد. لقد انتهت الرواية... لكن الزقاق ما زال يعج بالحياة، يهمس بحكايات جديدة تنتظر من يرويها.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة