الأحد 17 اغسطس 2025

كنوزنا

حارة نجيب محفوظ

  • 16-8-2025 | 14:50

نجيب محفوظ

طباعة
  • جمال الغيطاني

وُلِد نجيب محفوظ في بيتٍ مطلٍّ على ميدان بيت القاضي، في مواجهة قسم شرطة الجمالية، ومبنى الشرطة الذي كان في الأصل قصرًا من قصور عائلة السرجاني، ما زال قائمًا. أما البيت الذي وُلِد فيه كاتبنا العظيم فقد أُزيل، ومكانه الآن منزل من عدة طوابق وتحته مقهى شعبي. يقع البيت على ناصية درب قرمز، وما زال الدرب محتفظًا بمعالمه الأساسية التي رآها كاتبنا في طفولته البَكْرَة، والتي انطبعت في ذاكرته وشكّلت معالم الحارة التي أصبحت محورًا لأعماله الإبداعية العظمى فيما بعد. ويقع درب قرمز بين ميدان بيت القاضي، ويمتد لمسافة قصيرة وينتهي بالقبو قرمز، والذي يقع تحت مسجد الأمير متقال الذي شُيّد في العصر المملوكي.

وُلِد نجيب محفوظ عام 1911، أي في بداية القرن الحالي، وتلك حقبة شهدت اكتمال تحول القاهرة من مدينة قديمة، كانت لا تزال محتفظة بطابع العصور الوسطى، إلى مدينة حديثة أوروبية الطابع. هذا التحول بدأ في عصر الخديو إسماعيل وعلى يدي علي باشا مبارك.

وتبع ذلك إنشاء أحياء جديدة وظهور مناطق جديدة للسكنى، مثل منطقة الحلمية الجديدة، والعباسية، وتبع ذلك التغير الجغرافي توزيع جديد شبه طبقي؛ فقد بدأت الأسر الثرية تنتقل إلى الامتدادات الحديثة. وكانت الجمالية في القرون الوسطى مقرًا لسُكنى الأمراء والطبقة الوسطى، وأيضًا الحرفيين والعمال، وكانت مقسمة إلى خطط وحارات ودروب وأزقّة وعطف. وكانت الحارة تُطلق على اسم منطقة متكاملة تضم عدة أزقّة ودروب، وكانت أيضًا تضم عدة مستويات اجتماعية مختلفة.

وتلك هي الحارة التي أدرك بقاياها نجيب محفوظ في أوائل هذا القرن.

في عام 1924، ونجيب محفوظ يبلغ من العمر اثني عشر عامًا، انتقلت أسرته من البيت القديم إلى منطقة العباسية. غير أن الأعوام الاثني عشر التي قضاها الأستاذ في الجمالية غاصت إلى أعماقه، وانعكست بقوة في عالمه الروائي، ولم تظهر ضاحية العباسية التي عاش فيها شبابه كله وصدر رجولته إلا كمكان ثانوي، يكون الذهاب إليه انطلاقًا من الجمالية، كما يبدو ذلك خاصة في الجزء الثاني من الثلاثية “قصر الشوق”، عندما يسعى كمال عبدالجواد من “بين القصرين” إلى قصر آل شداد في العباسية. ولكن في آخر أعمال نجيب محفوظ “صباح الورد” و”قشتمر”، نجد العباسية بقوة، حيث تصبح محورًا أساسيًا للعملين اللذين اعتبرهما بمثابة ذكريات الكاتب الكبير، وقد صيغت بقناع فني.

ولكي تظل الحارة هي محور ما كتبه من أعمال عبر سيرته الطويلة، غير أن الحارة في رواياته تتخذ أبعادًا أخرى لتصبح ملخصًا للعالم كله. فهو لم يصوّر الحارة تصويرًا فوتوغرافيًا سطحيًا، إنما يمكن القول إنه استوعب جيدًا عناصرها، ثم فكّكها وأعاد ترتيبها من جديد، خلقها مرة أخرى. ولذلك تتضمن حارة نجيب محفوظ مستويين: الأول واقعي، والثاني رمزي فلسفي. فالحارة، أو ملامح القاهرة القديمة، خاصة في “زقاق المدق” و”خان الخليلي” و”الثلاثية”، محددة الملامح، والوصف الغني مطابق تمامًا للوصف الواقعي. ولو تتبعنا حركة الشخصيات في هذه الروايات، سوف نجدها في الوصف الدقيق، حتى يمكن بحق اعتبار هذه الأعمال تسجيلًا أمينًا لمعالم المكان، خاصة في الزمن الذي دارت فيه الأحداث. إنه يصف مثلًا مقهى سي عبده الذي كان يقع تحت الأرض، وتوجد به نافورة، وكان على قربٍ من ضريح مولانا الحسين.

هذا مقهى حقيقي تمامًا، أُزيل. في “زقاق المدق” لا يزال المقهى قائمًا، ومكان العطارة، ودكان الحلاق. إلا أن انشغال كاتبنا بالمصير الإنساني وبتطور الزمن وتتابعه، تتخذ الحارة أبعادًا أشمل لتصبح رمزًا للعالم. ولكن هذا الرمز يتجسد أكثر في رواية “أولاد حارتنا” التي تُعتبر من أعماله الفذّة بحق.

في “أولاد حارتنا” تطالعنا حارة أخرى، حارة لا تحمل لافتة تشير إلى مكان واقعي، حارة لها مفرداتها المستوحاة من الواقع، ولكن صيغت من جديد وفقًا لرؤية الكاتب. سنجد البيوت المتجاورة، وشجر اللبلاب، وذقن الباشا، والمقاهي، والقبو، والخلاء، والتكية التي تتصاعد منها أناشيد الدراويش الغامضة المبهمة، حيث رجال الحق تابعون يذكرونه دائمًا، أحيانًا يُسفرون فيظهرون، وأحيانًا يحتجبون، ولكن يظل الإحساس بهم وبوجودهم قائمًا. أما الخلاء أو جبل المقطم، فهو نهاية هذا كله، نهاية حدود المكان وليس نهاية الحيوات المتصارعة والأجيال المتعاقبة.

داخل الحارة ذاتها تتوالى الأيام، ويتعاقب الزمن، أحد الهموم الرئيسية لنجيب محفوظ.

تظهر شخصيات وترحل شخصيات، ويختفي البعض إلى الأبد، وتنشب خناقات، وتُشحذ رؤوس، ويحل الجيل مكان الجيل، ويتوه الشيخ متولي عبدالصمد بعد أن بلغ من الكبر عتيًّا، فلا يعرف أقرب الناس إليه، ويتساقط فتوات الزمن القديم.

هذه الحارة التي تقف على حافة الرمز والتصريح، نجدها أيضًا في “الحرافيش”. هنا تبدو الحارة شفافة، تُخلّص كل ما في الحياة، وتعكس ملامح الإنسان في أطواره المختلفة. إنها صورة مقطّرة لهذه الدنيا، وعبقرية كاتبنا أنه نفذ إلى صميم المكان والزمان، فجعل من حواري القاهرة القديمة، التي يتراكم فيها التاريخ، رمزًا وملخصًا ليس لعالمنا فقط، ولكن للكون كله… والسر الإنساني!

الاكثر قراءة