كتب الأديب والروائي الكبير جرجي زيدان، مقالة بعنوان "قراءة الأفكار تجربة جديدة لعالمين كبيرين: أديسن وطمسن"، نُشرت في مجلة الهلال العريقة في العدد الخامس، والصادر في الأول من فبراير 1911م. وتعيد بوابة دار الهلال نشر المقال من أرشيف مجلة الهلال العريقة، والذي يقول فيه:
"قراءة الأفكار من الظواهر العقلية التي لم يتفق العلماء على تعليلها، نعني أن يقرأ الرجل فكر رجل آخر، وهو لامس جبهته أو بمجرد النظر في عينيه بشرط أن يثبت هذا فكره في موضوع معين. فالعلم لا يُنكر إمكان ذلك وخصوصًا بعد الاكتشافات الحديثة في فيسيولوجية الدماغ وما وقفوا عليه من الأشعة الحيوية التي تنبعث عن الأجسام الحية وعن الدماغ حتى زعموا أنهم يقيسون العقل بها، ويقدرون ما ينفقه الدماغ من القوة في عمل من الأعمال. وهم يتوقعون من وراء ذلك كشف كثير من أسرار العقل - فهذا وأمثاله يسهل علينا التسليم بقراءة الأفكار وأنها ظاهرة من الظواهر الطبيعية لا يستطيعها إلا فئة من الناس فيهم استعداد لذلك.
لكننا قرأنا في إحدى جرائد أميركا تجارب أجراها اثنان من علمائها أحدهما توماس أديسن العالم الكهربائي الشهير. والثاني الدكتور وليم طمسن أعظم علماء فيسيولوجية الدماغ بأميركا، على رجل ألماني اسمه الأستاذ برت ريز جاء نيويورك، واشتهر بقراءة الأفكار وتحدث الناس بأعاجيبه وغرائبه، واتصل ذلك بأديسن فأجرى معه تجارب أدهشته ثم جربه بها الدكتور طمسن.
وهي أغرب ما نتوقعه، وأبعد من أن تُعلل بالنواميس الطبيعية المعروفة، ولولا شهرة هذين العالمين، لم نعرها التفاتًا فنكتفي هنا بنقل الحادثة كما روتها تلك الجريدة قالت :إن القارئ الأستاذ ريز رجل في حدود الكهولة بروسياني الأصل قليل الحركة كبير الجمجمة عريض الجبهة في أخلاقه غرابة. ويزعم أنه يتقمص عن حاخام توفي في بوزن من أعمال بروسيا منذ مئة سنة.
وكان ريز هذا يخطو في شوارع نيويورك بثوب رمادي اللون بسكون وهدوء. فدخل يومًا على أديسن في معمله بلا استئذان – قال أديسن: "فما شعرت إلا والرجل واقف بين يدي وبادرني قائلًا: "قد جئتك لأريك امرًا عربيًا مدهشًا". فبهت وخفت أن يكون وراء تلك ما يدعو إلى الحذر فقلت وما ذلك قال: "قرأ ما يخطر ببالك واجيبك على أي سؤال أشكل عليك". فدعوت رجلًا من غرفة أخرى فلما جاء أشار إليه ريز أن يكتب ما يريده على ورقة سرًا.
فكتب بخفة وعجلة بحيث يستحيل إدراك ما فعله وطوى الورقة وقبض عليها بيده فوضع ريز يده على جبهة الرجل وقرأ ما هو مكتوب في تلك الورقة (قال أديسن) فأدهشني عمله لكنني حسبته فعل ذلك بالتواطؤ وعزمت على كشف الحقيقة فقلت له: "أنا أجرب ذلك بنفسي"، قال "أفعل". فخلوت به في الغرفة وتحققت استحالة التواطؤ مع أحد لأن الغرفة غرفتي في معملي وأنا أعلم أن مثل هذه الغرائب يجربها بعضهم بواسطة التنويم المغناطيسي فأخذت الاحتياطات اللازمة بحيث لا يستطيع الرجل أن يؤثر على تأثير الهيبنوتزم فيستهويني. ثم سألته إذا كنت أستطيع أن اسأله عدّة أسئلة فأجاب "نعم أفعل".
وكنت مشتغلا يومئذ في اختراع بطارية لخزن الكهربائية وأنا في شك من المواد التي استخدمتها في هذا الاختراع، وكنت قد عولت في ذلك اليوم على استخدام هيدروكسيد النيكل وأنا على ثقة أنه يأتي بالغرض المطلوب من تلك البطارية. فلما طلب إليّ الرجل أن أكتب ما أريده كتبت سرًا على ورقة في يدي "هل هناك مادة تفيد في اصطناع بطارية خزن الكهربائية أفضل من هيدروكسيد النيكل".
فأجابني والورقة مطوية في يدي "لا شيء أفضل منه" ومضى كأنه جاء ليجيبني على هذا السؤال وينطلق. وقد أصاب بجوابه كل الإصابة لآني تأكدت الآن أن هذه المادة أفضل المواد لهذا العمل.
ثم أنّ أديسن ذكر ما وقع له في هذا الشأن بين يدي بعض أصدقائه وكان بينهم الدكتور وليم طمسن رئيس أكاديمية الطب في نيويورك وعضو في عدة جمعيات علمية ومؤلف كتاب "الدماغ والشخصية"، وهو في السبعين من عمره، وقد حنّكه الاختبار، وينظر إلى أعمال النفس مثل سائر الظواهر الطبيعية الفيسيولوجية. فلما سمع استغراب أديسن لما شاهده من ذلك القارئ أظهر الاستخفاف وقال "إنها خديعة خدعك بها بالتواطؤ. لأن ما تقوله مستحيل مع ما نعلمه من النواميس الطبيعية.
فشق على أديسن أن تنطلي الخديعة عليه، وأشار على صديقه أن يجرب ذلك بنفسه ففعل فاستقدم الأستاذ ريز وجعل يتفرس فيه ثم دعاه للجلوس، فجلس ثم قال طمسن "ها أنا الآن في انتظار ما تريد أن تفعله على سبيل التجربة كما فعل أديسن". وكان في الغرفة رجل ثالث فطلب ریز إخراجه فوافق ذلك ما في نفس طمسن، وقال "دعنا ندخل غرفة العيادة لأنها معدة للخلوة"، فدخلا وأغلقا الباب فقال ريز وهو يشير إلى مكتبة هناك، "اكتب اسئلتك أو ما تشاء - سؤالين أو أربعة أو أكثر كما تخطر لك بينما الهومع صديقي خارجًا.
فأخرجه ولما خلا بنفسه أمسك قلمًا بين الإبهام والسبابة وأعمل فكرته قليلًا. ثم تناول ورقة قطعها ثلاث قطع وكتب على كل قطعة منها اسم صديق من أصدقائه وزملائه: الدكتور كولنس، والأستاذ وبتهاوس والدكتور كمب، وهم من مشاهير أطباء أميركا مثله. ثم أعمل فكرنه ثانية لخطر له أن يكتب أيضاً ثلاث أسئلة لا يمكن أن تخطر لسواه لأنها تتعلق بإيحائه الخصوصية. فكتب على ثلاث ورقات أخرى ثلاث اسئلة - لا فائدة من ترجمتها لأنها أسماء مصطلحات علمية لم تدرج في المعاجم العلمية بعد - وخبأ هذه الأوراق في أماكن مختلفة من الغرفة ووضع بعضها في درج المكتبة والبعض الآخر في جيبه ثم نادى "تعال ".
فدخل ريز وهو يفرك جبهته بكفه حتى دنا من المكتبة وأخذ يفكر وما لبث أن أشار إلى الورقة التي في الجيب وأجاب على ما فيها، ولم تمض خمس دقائق حتى كشف سائر الأوراق وأصاب في الإجابة عليها كلها. فكتب الدكتور طمسن إلى أديسن يقول: "عزیزي أدیسن، جاءني الأستاذ ريز حسب الوعد في هذا الصباح، وطلب إلى أن امتحن قدرته على قراءة الأفكار ليجيب على ثلاث أسئلة من أي موضوع أريده وليقرأ ثلاثة أسماء اكتبها له، كل اسم في ورقة على حدة، وقد فعلت فرأيت من أجوبته وقراءته ما أقدمني، لأنه قرأ وأجاب على أشياء لم يسبق له رؤيتها، وأنا عاجز عن تعليل ذلك" طمسن.

