ليس أَبُو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي -- سوى نموذج ملهم للإنسانية، إذ تقدم سيرة النبي نموذجًا فريدًا لشخصية جمعت بين القيادة والتواضع، بين القوة والرحمة، بين الحزم والحكمة. إنها دعوة مفتوحة لجميع البشر للتأمل في قيم المحبة والتسامح والعدالة التي تحتاجها الإنسانية في كل زمان ومكان. رسالته تتجاوز الحدود الدينية لتصبح مصدر إلهام لكل من يسعى لبناء عالم أكثر عدلًا ورحمة ومحبة.
المولد والنشأة الكريمة
يقول ابن هشام في سيرته إن محمد بن عبد الله وُلد في مكة المكرمة في شهر ربيع الأول من عام الفيل، قبل ثلاث وخمسين سنة من الهجرة، ما يوافق سنة 570 أو 571 ميلاديًا (53 ق.هـ) في قلب الجزيرة العربية. وأن والده عبد الله توفي قبل أن يراه، ووالدته آمنة بنت وهب توفيت وهو في السادسة من عمره، فنشأ يتيمًا في كنف جده عبد المطلب سيد قريش. يصف المؤرخون كيف تميز الصبي محمد منذ نعومة أظفاره بأخلاق رفيعة جعلته محط إعجاب قومه. فيروي ابن سعد في الطبقات الكبرى أن العرب كانوا يطلقون عليه لقب "الصادق الأمين" حتى قبل بعثته، وهي شهادة نادرة في مجتمع يعرف قدر الكلمة والصدق. كما أن نشأة النبي يتيمًا تحمل دلالة عميقة، فقد عاش تجربة الضعف والحاجة، مما جعله أكثر تفهمًا لمعاناة المستضعفين والأيتام طوال حياته.
شخصية استثنائية قبل النبوة
الصدق والأمانة:
شهادة الأعداء قبل الأحباء، تجمع المصادر التاريخية على أن محمدًا كان تاجرًا ناجحًا يتمتع بسمعة طيبة في الأسواق. تذكر كتب السيرة أن خديجة بنت خويلد، وهي من تجار مكة الكبار، استأجرته لتجارتها بعد أن سمعت بأمانته وحسن تعامله. يروي البخاري في صحيحه عن أبي سفيان -وهو كان من ألد أعداء النبي قبل إسلامه- أنه عندما سأله هرقل إمبراطور البيزنطيين: “هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟” أجاب أبو سفيان بصدق: “لا”. هذه شهادة من خصم لدود تؤكد صدق النبي المعروف حتى بين أعدائه. الاستشهاد القرآني: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (يونس: 16)، حيث يحتج القرآن بسيرة النبي الطويلة بين قومه كدليل على صدقه.
حادثة وضع الحجر الأسود:
حكمة قبل النبوة
تروي كتب السيرة حادثة بليغة تكشف عن حكمة محمد الاستثنائية. عندما تنازعت قبائل قريش حول من يحظى بشرف وضع الحجر الأسود في مكانه بعد تجديد الكعبة، وكادت تنشب حرب بينهم، اقترح أكبرهم أن يحكم بينهم أول من يدخل عليهم. يحكي ابن إسحاق أنه عندما دخل محمد، هتفوا جميعًا: “هذا الأمين، رضينا، هذا محمد”. فما كان منه إلا أن وضع الحجر في ثوب، وطلب من كل قبيلة أن تأخذ بطرف من أطراف الثوب، ثم رفعه بيده ووضعه في مكانه. حل بسيط وعبقري منع حربًا محققة. ولعل هذه الحادثة تكشف عن ثلاث صفات مهمة للنبي: الحكمة في إيجاد الحلول، والعدالة في عدم تفضيل طرف على آخر، والقبول العام له كحكم عادل.
الرسالة النبوية:
في مجملها دعوة للخير والهدى، وقد كانت بداية الوحي رحمةً للعالمين في غار حراء، حيث كان محمد يتعبد ويتأمل. نزل عليه الوحي لأول مرة وهو في سن الأربعين. تصف عائشة رضي الله عنها في الحديث المتفق عليه كيف بدأ الوحي بالرؤيا الصالحة، ثم جاءه الملك فقال: “اقرأ”، فكانت أول كلمات الوحي دعوة للعلم والمعرفة. يخبرنا القرآن الكريم عن طبيعة هذه الرسالة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107). كلمة “العالمين” هنا شاملة لكل الخلق، ليس فقط البشر، بل حتى الحيوانات والبيئة. ويشير المستشرق مايكل هارت في كتابه المئة الأوائل إلى أن محمدًا كان الشخصية الوحيدة في التاريخ التي نجحت نجاحًا مطلقًا على المستويين الديني والدنيوي.
منهج التدرج في الدعوة
بدأت الدعوة سريةً لثلاث سنوات، ثم أُمر النبي بالجهر بها. هذا المنهج التدريجي يعكس حكمة عميقة في التغيير الاجتماعي. يحلل الدكتور محمد عمارة هذا المنهج بقوله إن الإسلام لم يأتِ لهدم كل شيء، بل لإصلاح وتقويم ما يمكن إصلاحه، وتغيير ما يجب تغييره تدريجيًا.
مواقف تجسد التسامح والحكمة
فتح مكة: عفو عند المقدرة
عندما دخل النبي مكة فاتحًا في السنة الثامنة للهجرة، كان في موقع قوة مطلقة. أهل مكة الذين آذوه وأصحابه، وأخرجوهم من ديارهم، وحاربوهم سنوات طوال، كانوا الآن تحت رحمته. ماذا فعل؟ يروي ابن هشام أنه وقف على باب الكعبة وقال: “يا معشر قريش، ما تظنون أني فاعل بكم؟” قالوا: “خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم”. فقال: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”. هنا يذكر المؤرخ الإنجليزي إدوارد جيبون في كتابه تدهور وسقوط الإمبراطورية الرومانية أن هذا العفو العام كان نادرًا في التاريخ، مقارنه بالمذابح التي كانت تحدث عادة عند فتح المدن في ذلك العصر.
صحيفة المدينة: دستور التعددية
عندما وصل النبي إلى المدينة المنورة، وجد مجتمعًا متنوعًا يضم المسلمين من المهاجرين والأنصار، واليهود من بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، والمشركين من الأوس والخزرج. كيف أدار هذا التنوع؟ وضع ما يُعرف بـ “صحيفة المدينة” أو “دستور المدينة”، وهي وثيقة تاريخية مهمة تضمن حقوق جميع سكان المدينة بغض النظر عن دينهم أو قبيلتهم. جاء فيها: “إن اليهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم”. هنا يعتبر الدكتور محمد حميد الله، المختص في القانون الإسلامي، هذه الوثيقة أول دستور مكتوب في التاريخ ينظم العلاقات بين مختلف الأديان والقبائل على أساس المواطنة المتساوية.
الموقف من المرأة المشركة: رحمة بالأعداء
تروي كتب السيرة قصة مؤثرة عن امرأة مشركة كانت تضع الأذى في طريق النبي كل يوم. يومًا لم يجد الأذى في مكانه المعتاد، فسأل عنها فقيل له إنها مريضة. ذهب لعيادتها، فتأثرت بهذا الموقف
النبيل وأسلمت. إن الدلالة النفسية لهذا الحدث، والتي يشير إليها علماء النفس، أن مقابلة الإساءة بالإحسان هو أعلى مستويات النضج النفسي والأخلاقي، وهو ما جسده النبي في مواقف عديدة.
الأخلاق النبوية الملهمة في الحياة الشخصية: التواضع رغم العظمة
رغم مكانته كنبي ورسول وقائد، كان النبي يعيش حياة بسيطة متواضعة. تحكي عائشة رضي الله عنها: “كان يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته”. ويروي أنس بن مالك، خادم النبي لعشر سنوات: “ما رأيت أحدًا كان أرحم بالعيال من رسول الله”. وفي رواية أخرى: “خدمت النبي عشر سنين، والله ما قال لي أفٍّ قط، ولا قال لي لشيء: لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا؟”.
يقول المهاتما غاندي في حديث لجريدة: “أردت أن أتعرف على صفات الرجل الذي يملك بدون نزاع قلوب ملايين البشر… لقد أصبحت أكثر من أي وقت مضى اقتناعًا أن السيف لم يكن الوسيلة التي من خلالها اكتسب الإسلام مكانته، بل كان ذلك من خلال بساطة الرسول ودقته وأمانته”.
العدالة حتى مع الأقربين
عندما سرقت امرأة من بني مخزوم، وهي قبيلة شريفة في قريش، حاول بعض الصحابة التوسط لها عند النبي. فغضب النبي غضبًا شديدًا وقال: “أتشفعون في حد من حدود الله؟! إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”. يعتبر هذا الموقف ذا دلالة قانونية، إذ هو مبدأ أساسي في العدالة: المساواة أمام القانون بغض النظر عن المكانة الاجتماعية.
الرحمة بالحيوان والبيئة
لم تقتصر رحمة النبي على البشر، بل امتدت للحيوانات والبيئة. في الحديث المتفق عليه: “في كل كبد رطبة أجر”، أي في الإحسان إلى كل كائن حي ثواب. وعندما مرّ بجمل هزيل، غضب وقال لصاحبه: “اتق الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة”. كما نهى عن قطع الأشجار المثمرة حتى في الحرب. ومن منظور بيئي حديث، يرى علماء البيئة المعاصرون في هذه التوجيهات النبوية سبقًا مبكرًا للوعي البيئي الذي تحتاجه البشرية اليوم.
التأثير الحضاري والإنساني:
نموذج في القيادة الأخلاقية
يدرس خبراء الإدارة الحديثة نموذج القيادة النبوية باهتمام كبير. وعلى سبيل المثال، فإن الدكتور جون أدير، خبير القيادة البريطاني، يذكر في كتابه القيادة المحمدية (إصدار 2010) أن النبي محمد جمع بين ثلاثة أنماط قيادية: القيادة بالقدوة، والقيادة التشاركية، والقيادة الخدمية. كان يستشير أصحابه في الأمور الدنيوية، حتى لو كان رأيهم مخالفًا لرأيه. في غزوة أحد استشارهم في البقاء في المدينة أم الخروج لملاقاة العدو، وأخذ برأي الأغلبية رغم ميله الشخصي للبقاء.
إرساء مبادئ حقوق الإنسان في خطبة الوداع
وضع النبي مبادئ أساسية لحقوق الإنسان قبل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بأربعة عشر قرنًا:
* “الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى”.
* “إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم”.
* “استوصوا بالنساء خيرًا”.
يقول السياسي والمؤرخ والشاعر الفرنسي ألفونس دو لامارتين: “إذا كانت النبالة تُقاس بعظمة الهدف وقلة الوسائل وعظمة النتائج، فمن ذا الذي يجرؤ أن يقارن أي عظيم في التاريخ الحديث بمحمد؟”، ويضيف لامارتين في كتابه تاريخ تركيا (1854): “لم يحرك هذا الرجل الجيوش والتشريعات والإمبراطوريات والشعوب والسلالات فحسب، بل حرك ملايين الرجال في ثلث العالم الذي كان مأهولًا آنذاك”. كما يؤكد أن النبي محمد لم يسعَ إلى مجد إمبراطوري، بل أسس لعقيدة دينية روحية.
وختامًا..
لقد قدم الرسول للإنسانية إرثًا خالدًا بعد مرور أكثر من أربعة عشر قرنًا على وفاته، وما زالت مبادئه وأخلاقه تلهم الملايين حول العالم. لم تكن رسالته مقتصرة على فترة زمنية معينة أو مكان محدد، بل كانت عالمية في جوهرها، إنسانية في مضمونها. إن سيرة هذا الرجل العظيم تقدم للبشرية نموذجًا متكاملاً لكيف يمكن الجمع بين القوة والرحمة، بين العدالة والمغفرة، بين القيادة والتواضع. إنها دعوة مفتوحة لكل إنسان، مهما كان دينه أو عرقه أو ثقافته، للتأمل في هذه القيم النبيلة والاستفادة منها في بناء عالم أكثر عدلًا ورحمة ومحبة.
نختتم هذه الدراسة بما قاله المؤرخ الأمريكي واشنطن إيرفينغ في كتابه عن سيرة النبي: “إن محمدًا كان رجلًا عظيمًا، وقد أثر في تاريخ البشرية أكثر من أي شخص آخر… إن حياته وتعاليمه ما زالت مصدر إلهام للملايين، وستبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها”.