بالتزامن مع الذكرى الـ80 للحرب العالمية الثانية، تستعد الصين لتنظيم عرض عسكري ضخم في قلب العاصمة بكين، لا يقتصر على إحياء مناسبة تاريخية بقدر ما يعكس رسالة سياسية وعسكرية مشفّرة إلى الولايات المتحدة، فبينما تستعرض بكين أحدث أسلحتها وتُظهر قدراتها الدفاعية أمام قادة أكثر من 26 دولة، يتجلى حرصها على تأكيد جاهزيتها العسكرية وتثبيت حضورها كقوة كبرى على الساحة الدولية.
رسالة إلى الولايات المتحدة
وبشأن العرض العسكري المقرر إقامته غدًا الأربعاء، قال الدكتور نبيل رشوان، خبير العلاقات الدولية، إن العالم يشهد تشكّل كتل جديدة تختلف عن الأطر التقليدية، حيث تضم مزيجًا من الأنظمة الشمولية والديمقراطية.
وأضاف رشوان، في تصريح لـ"دار الهلال"، أن ما يتبلور حاليًا يأتي في جوهره ضد الولايات المتحدة الأمريكية أو بشكل أدق ضد هيمنتها، معتبرًا أن العرض العسكري يمثل رسالة مباشرة من بكين إلى واشنطن، تعكس من خلالها جاهزيتها العسكرية، كما أنه يحمل رسالة موازية إلى تايوان، الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة.
وأشار خبير العلاقات الدولية إلى أن شرق آسيا، حيث تقع دول مثل اليابان والكوريتان، ليست منطقة مستقرة، في ظل النفوذ الواسع الذي تمارسه الولايات المتحدة هناك، وهو ما يشكّل مصدر قلق وإزعاج للصين.
وتابع أن من مصلحة بكين إظهار قدراتها العسكرية بما يعزز صورتها كقوة صاعدة، ويكسبها مزيدًا من الحلفاء في المنطقة، وفي المقابل، تتحرك الولايات المتحدة لتسوية ملفات الشرق الأوسط بما يسمح لها بالتفرغ للتعامل مع الصين والحد من نفوذها.
وأكد رشوان أن واشنطن ترى في الصين خطرًا أكبر من روسيا، وهو ما يعبّر عنه المسؤولون الأمريكيون علنًا، خاصة مع اقتراب بكين من موقع القوة العسكرية الثانية عالميًا.
وأوضح أن الصين استوعبت نقاط ضعفها والثغرات التي يمكن استغلالها للضغط عليها، وبدأت في معالجتها وفق رؤية استراتيجية شاملة.
رسالة استراتيجية
فيما قال أحمد سلام، الخبير بالشؤون الصينية، إن العرض العسكري الذي ستشهده بكين غدًا في ميدان "تيان آن من" ليس مجرد احتفال رمزي، بل هو رسالة استراتيجية تعكس جاهزية الجيش الصيني وتطوره التكنولوجي والعقائدي، بما يجعله قادرًا على حماية مصالح الصين وصون استقرارها في عالم يموج بالتحديات.
وأوضح سلام، في تصريح لـ"دار الهلال"، أن العرض يمثل في ذات الوقت بعدًا سياسيًا ودبلوماسيًا بالغ الأهمية، إذ يؤكد أن الصين، وهي قوة صاعدة، تمتلك الإرادة والإدارة والإمكانات لتكون شريكًا أساسيًا في صياغة نظام عالمي أكثر عدلًا وتوازنًا.
وشدد على أنه يضاعف من أهمية العرض العسكري أن أكثر من 20 شخصية من زعماء ورؤساء الدول سيحضرون، في دلالة على الاحترام الدولي المتزايد لمكانة الصين، وعلى التقدير لدورها كقوة عظمى صاعدة وصديق موثوق لشعوب العالم.
ورأى أن توقيت العرض بمناسبة الذكرى الـ80 للحرب العالمية الثانية التي انتصرت فيها الصين، وبالتزامن مع الاحتفال بالأمم المتحدة، يمنحه رمزية مضاعفة، إذ يؤكد على دور الصين التاريخي والراهن في الدفاع عن السلم العالمي.
وفي شأن رسائل العرض دوليًا، أوضح خبير الشؤون الصينية أنه لا شك أن هذا الاستعراض يحمل في طياته رسالة موجهة إلى الولايات المتحدة، التي لطالما تصدرت المشهد كقطب أوحد، مفادها بأن التوازن الدولي الجديد يتشكل، وأن الصين باتت رقمًا أساسيًا لا يمكن تجاوزه في معادلة الأمن والتنمية الدوليين.
وبيّن أن هذا المشهد يأتي منسجمًا مع مخرجات قمة منظمة شنغهاي للتعاون الأخيرة، ومع مبادرة الحوكمة العالمية التي طرحتها بكين، واللتين تؤكدان على بناء نظام دولي أكثر عدلًا وتعاونًا، يقوم على الشراكة لا الهيمنة، وعلى السلم لا الصراع.
واختتم سلام بأن العرض سيحمل العديد من المفاجآت التكنولوجية واستعراض الإمكانيات العسكرية الصينية.
رسالة قوة
وفي الإطار نفسه، أكد خبير الشؤون الصينية الدكتور ضياء حلمي، عضو لجنة الشؤون الآسيوية بالمجلس المصري للشؤون الخارجية، أن العرض العسكري الذي ستنظمه الصين غدًا يحمل رسائل مهمة على المستويين الداخلي والخارجي.
وأوضح حلمي، في تصريح لـ"دار الهلال"، أن الرسالة الداخلية تتمثل في تعزيز مشاعر العزة والفخر لدى الشعب الصيني، بما يشجعه على الاعتزاز ببلده وأمته، أما الرسائل الدولية، التي وصفها بأنها "الأهم"، فهي تتجلى في احتفال الصين بانتصار المقاومة الشعبية الصينية، وهو انتصار كبير يستحق الاحتفاء.
وأضاف حلمي أن الصين، رغم كونها ثالث أقوى قوة عسكرية في العالم، فإنها لا تسعى إلى تهديد أحد، بل تعتمد قوتها كأداة ردع وحماية، حيث إن من يتأمل في الشخصية الصينية يجد أنها لا تزال تستند إلى مبادئ "كونفشيوس" حتى اليوم.
وتابع أن العرض العسكري المرتقب سيكشف عن قوة عسكرية متطورة وتقنيات تكنولوجية مذهلة، مؤكدًا أن الهدف منه ليس التهديد، بل تأكيد حماية السيادة الوطنية.
وفي ما يتعلق بالرسائل الموجهة إلى الخارج، وبالأخص الولايات المتحدة، أوضح حلمي أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كان قد صرّح في عام 2018 بأن الصين—not روسيا—هي العدو الاستراتيجي الأول لبلاده، وهو ما يعكس التوجه الأمريكي العام وليس موقف ترامب وحده.
وأضاف أن ترامب جدد هذا الموقف مع بداية ولايته الثانية في يناير 2025، ما يجعل الولايات المتحدة هي من بادرت بالعداء تجاه الصين، التي ترد بدورها عبر مثل هذه العروض.
وأشار حلمي إلى أن العرض العسكري يمثل أيضًا رسالة ردع إلى اليابان وأوروبا، لكنه بالدرجة الأولى موجّه إلى الولايات المتحدة، ليؤكد أن بكين تحمي مقدراتها ومصالحها، خصوصًا في بحر الصين الجنوبي.
العرض العسكري
وتشهد ساحة ميدان "تيان آن من" بوسط العاصمة الصينية بكين، غدًا، أكبر عرض عسكري في تاريخ البلاد الحديث، بمناسبة الذكرى الـ80 للحرب العالمية الثانية، بمشاركة زعماء دوليين، من بينهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون.
ووفقًا لتقرير نشرته وكالة "أسوشييتد برس" الأمريكية، فإن العرض سيتضمن استعراضًا ضخمًا للصواريخ والدبابات والطائرات المقاتلة، في رسالة تهدف من خلالها بكين إلى إبراز قوتها العسكرية، وتصوير نفسها كقوة بديلة للنظام العالمي الذي تشكّل بعد الحرب تحت الهيمنة الأمريكية.