مع بداية فصل الخريف عام 1998، وفي تمام الساعة السابعة مساءً، وفي قاعة المجلس الأعلى للثقافة، كنت على موعد مع تغطية أول مؤتمر صحفي في حياتي المهنية لوزير الثقافة الأسبق فاروق حسني، عن تفاصيل الدورة العاشرة لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي.
كنت ساعتها في بداية الفرقة الثانية بالكلية، ورغم صغر سني، إلا أنني استجمعت شجاعتي وسألت الوزير عن ماهية التجريب، واقترحت إقامة ندوات على هامش المهرجان لتوضيح معنى التجريب.. وكان الرد من الوزير صادمًا لي، ووجدتني أتَصبَّب عرقًا عندما قال: "كان عندك كام سنة عام ١٩٨٨؟"، وكانت إجابتي ثماني سنوات، فقال "كل ده اتعمل".. في إشارة منه لانعقاد هذه الندوات في بداية المهرجان.
ورغم تغطيتي الكاملة للمهرجان؛ من ندوات، وخاصة المائدة المستديرة، وعروض، ومرافقة لجان التحكيم في جولاتهم، والاختلاط بالدكتور سعد أردش، والدكتورة ناهد صليحة، وعمالقة المسرح ساعتها، إلا أنني كنت أرى عدم وجود اختلاف كبير عن العروض التقليدية.
هذا جعلني أتوجه للدكتور سامح مهران، أستاذ المسرح في الكلية، لأسأله عن ماهية التجريب، وفي محاضرة خاصة استمرت ما يزيد عن ساعة، شرح لي التجريب والفرق بينه وبين التجريد، ومسرح الحداثة وما بعد الحداثة، وانعكاس الأحداث السياسية والحروب على أشكال وإشكاليات المسرح، ومحاولة المبدعين الخروج عن مسرح العلبة، والتجريب في النص والسينوغرافيا المسرحية.
خرجت من هذه الساعة وأنا أفكر في أن أصبح "مُجربًا" في أعمالي الصحفية، رغم الفارق الكبير عن مضمون "التجريبي"، فكنت أحاول إيجاد صيغ جديدة للحوارات التي أقوم بها؛ فأحاور الكينج محمد منير وأجعل الأسئلة من أغانيه، وأحاور نانسي عجرم وأكتب كلامها باللهجة اللبنانية، في ظل تعالي أصوات إعطائها الجنسية المصرية ساعتها، وغيرها.
لن أطيل في سرد محاولاتي في "التجريب الصحفي"، والذي رُفِض منه الكثير، وأعدت كتابته، لذا سأعود إلى "التجريب المسرحي" والمهرجان الذي كنت أستمتع بعروضه طوال سنوات من عمري، ومع كل عرض أبحث عن التجريب، سواء في النص، أو الإخراج، أو حتى الإضاءة، وفي الغالب لا أجد معنى التجريب كما شرحه لي أستاذي الدكتور سامح مهران.
أمس، وفي افتتاح الدورة 32 من المهرجان، الذي أراه افتتاحًا تقليديًا باستثناء عرض "عين حورس"، أعلن وزير الثقافة أحمد هنو، أن هذه الدورة هي الأخيرة للمهرجان بالاسم المعروف له "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي"، وجعله "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح" فقط، على أن يظل التجريب داخل العروض.
لا أنكر أنني في بداية سماعي لكلام الوزير تأثرت، وحزنت، وقلت في نفسي إنه تغيير في مضمون مهرجان دولي استمر ما يزيد على ثلاثة عقود، مرّ منها عقدان في ذاكرتي كفلاش باك، وأنا أتنقل بين مسارح؛ القومي، والسلام، والعائم، والأوبرا بمسارحها... ذكريات بها صوت الراحل سعد أردش، وهو يتكلم عن أهمية المهرجان عندما كانت تهاجمه الصحافة بأن عروض وفرق المهرجان تأتي من شوارع وحدائق أوروبا، وأن هذه الفرق غير معتمدة، في صمت تام من الدكتور فوزي فهمي، رئيس المهرجان.
لم تستمر هذه الصدمة إلا ساعات، وتحدثت مع نفسي عن التجريب في العروض المسرحية، فأي عرض لا بد من وجود عناصر تجريب، وإلا كان المسرح كله شبه بعضه.
وعناصر التجريب لا بد أن تكون في كل العروض، كما أنني كنت أهاجم أحيانًا المهرجان لتلقيه عروضًا تقليدية وتقديمها، لذا وجدت أن قرار حذف كلمة "تجريبي" صائب إلى حد كبير.
كما أنني تحدثت مع مسؤول بالمهرجان عمّا حدث، فقال لي إن العالم الآن يتجه في "التجريب" إلى الشذوذ الجنسي في العروض، ومن المستحيل تقبُّل هذا أو عرضه في أرض الكنانة، لذا فضلنا أن يكون المهرجان خاصًا بالمسرح بكل أشكاله وأنواعه.
أما علاقتي بالتجريب الصحفي، فقد انتهت من زمان، بعد رفض أكثر من موضوع...