أنهار الحبر التي سالت بكاءً على رحيل طيب الذكر الأديب الاستثنائي “صنع الله إبراهيم” تُترجم حبًا جمعيًا للأديب اليساري الذي تسلل إلى القلوب بقصصه وحكاياته، فكان رحيله حزينًا، والكتابة عن مآثره تقطع نياط القلوب. لفتني شلال الكتابة عن طيب الذكر، وكنت أتمناه في حياته، الكتابة عن الأحياء تمد في العمر، ولو بقدر ثوانٍ قراءة المكتوب، الكتابة كالبكاء على رأس الحي أبقى من الكتابة والبكاء على رأس الميت، الكتابة عن الأحياء.
الكتابة عن الأموات فرض كفاية، ويقيني أن الكتابة عن الأحياء فرض عين، هكذا أعتقد، لو قرأ طيب الذكر صنع الله في حياته قدرًا يسيرًا مما سالت به الأقلام بعد مماته لمات راضيًا مرضيًا، واستقبل ملاك الموت بغبطة وسرور.
نذرت قلمي للكتابة عن الأموات، تأبينًا، على طريقة "اذكروا محاسن موتاكم"، وما أن يقابل أحد الأحبة ربًا كريمًا حتى أودعه بما يليق.
جلال الموت يحفزني على استقباله بأجمل العبارات، ولا أنسى ما حييت أختي الكاتبة "ليلى مرموش" وهي في فراش الموت توصيني أن أكتب عنها بعد رحيلها بما أحب وتحب.
يومها أيقنت أن الكتابة عن الأحياء أولى، أن تُسعد حبيبًا وهو على قيد الحياة بسطور، الدنيا وما فيها، وأن تُشيعه بسطور لا يقرأها، مثل الدعوات في أثر العبد الصالح، من العمل الصالح المستدام.
الحي أولى بسطوره من الميت، والكتابة عن الأحياء مثل أكسير الحياة، تمد في أعمارهم، تمنحهم أملًا، تغبطهم، تُسعد قلوبهم، ومن يُسعد قلبًا أسعده الله في الدنيا والآخرة، من طيب الأعمال.
في مناقشة عبثية مع صديق، لامني على الكتابة عن الأحياء، وكيف أنها قد تُفسر مجاملة أو طلب قرب، ما يُترجم استفادة ما، ما يجرح عفاف القلم، ويُعرض صاحبه لما لا يحب تأويلًا وتفسيرًا.
جدًّا لم أدر جوابًا، قد يكون مصيبًا في زمن الكتابة السوداء، أما الكتابة البيضاء فلا تلقى قبولًا.
مثلي يهزه الفقد، كما يؤلمه المرض، وقد تألمت كثيرًا على البعد في مرض طيب الذكر "صنع الله إبراهيم"، وهزني الفقد، ولُمت نفسي كثيرًا على عدم الكتابة عن العم الطيب في حياته.
سررتها في نفسي اللوامة وجعلتها دَيني: الكتابة عن الأحباب في حياتهم، ويقيني أن الكتابة عن الأحياء فيها حياة، والحروف تشفي الجروح الحياتية، والسطور طبطبة على الظهور المحنية، والعاطفة الإنسانية مضاد حيوي لانكسار الروح، تُضمد الجراح، وترفع منسوب الأمل.
يحضرني صوت أم كلثوم وهي تصدح: بالأمل لولاه عليّ، وبالأمل أسهر ليالي، والكتابة عن الأحباب في حياتهم تمنحهم أملًا، ترسم بسمة على شفاه ترتجف من قسوة الألم.
وفي الأخيرة، هنيئًا لطيب الذكر صنع الله إبراهيم بنهر المحبة الذي تدفق في تشييعه، وإلى لقاء..