جاء قرار تفعيل آلية "سناب باك"، القاضية بإعادة العقوبات الأممية على إيران تلقائيًا بعد أن رُفعت بموجب الاتفاق النووي الموقع عام 2015، ليزيد من تفاقم أزمات البلد الغارق في أزمة اقتصادية خانقة منذ سنوات.
وحصل التفعيل بعدما منحت دول "الترويكا الأوروبية" (فرنسا، بريطانيا، وألمانيا) طهران مهلة 30 يومًا الشهر الماضي، قبل اللجوء إلى الآلية، وهي المهلة التي انتهت أمس، عقب رفض مجلس الأمن الدولي مشروع قرار روسي–صيني يطالب بتأجيل إعادة فرض العقوبات على إيران لمدة ستة أشهر، لتدخل العقوبات حيّز التنفيذ بدءًا من اليوم.
وفي المقابل، استدعت طهران سفراءها في برلين وباريس ولندن للتشاور حول ما وصفته بـ"السلوك غير المسؤول" للدول الثلاث في التعامل مع الملف النووي الإيراني، ومحاولاتها إعادة فرض العقوبات الدولية.
وبالتوازي مع ذلك، لوّحت إيران بالانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي، في خطوة تنقل المخاوف الدولية من احتمال امتلاكها سلاحًا نوويًا إلى سيناريو يقترب من الواقع.
وبدوره، طالب وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، بالتدخل لمنع تفعيل آلية إعادة فرض العقوبات، باعتباره "الملجأ الأخير" لحماية بلاده.
لحظة حساسة
ويؤكد الدكتور علاء السعيد، خبير الشأن الإيراني، أنه في أعقاب القرار الدولي بإعادة تفعيل آلية "سناب باك" تجد طهران نفسها أمام واحدة من أكثر اللحظات السياسية حساسية منذ توقيع الاتفاق النووي عام 2015.
وأوضح السعيد، في حديث لـ"دار الهلال"، أن العقوبات التي عادت بقوة القانون لا تمثل مجرد ضغط اقتصادي، بل إعادة صياغة كاملة لمعادلة الردع والالتزام التي كانت تحكم العلاقة بين إيران والمجتمع الدولي، ورغم الخطاب الثوري الحاد تبدو القيادة الإيرانية اليوم مطالبة بإجابات واقعية.
وبشأن التعامل مع العقوبات، قال إن ردّ طهران الأول جاء متوقعًا؛ رفض قانوني وتشكيك سياسي في مشروعية القرار وتأكيد أن التفعيل غير ملزم، لكن ما بين الرفض والمواجهة تقف القيادة الإيرانية أمام واقعٍ لا يمكن إنكاره، فالعقوبات أعادت تجميد صفقات كبرى وأغلقت أبواب التمويل الدولي، فضلًا عن أنها أعادت إيران رسميًا إلى قائمة الدول المقيدة اقتصاديًا ودبلوماسيًا.
ويرجح خبير الشؤون الإيرانية أن تنتهج طهران سياسة "الإنكار الحذر"، بمعنى أن يكون هناك خطاب صلب في العلن ومناورة هادئة في الكواليس تقوم على كسب الوقت وتخفيف الخسائر ومراقبة موقف القوى الكبرى، خصوصًا موسكو وبكين، قبل اتخاذ أي مسار حاد.
أما في الداخل، فستسعى الحكومة إلى إدارة الأزمة بالحدّ الأدنى من الانفجار الشعبي عبر رفع الخطاب الوطني وتبرير الصعوبات الاقتصادية بوصفها ثمنًا للسيادة، مع الاعتماد أكثر على الاقتصاد الرمادي والالتفاف عبر شركاء غير غربيين، وفقًا لـ"السعيد".
خيارات الرد على الترويكا
وحول خيارات الرد على الترويكا الأوروبية، أوضح السعيد أنها محدودة ومكلفة، فإيران لا تملك حزمة أدوات حقيقية لمعاقبة أوروبا اقتصاديًا، حيث إن العلاقات التجارية أصلًا محدودة والاستثمارات الأوروبية غائبة منذ سنوات، ولذلك فإن الردّ الاقتصادي المباشر مستحيل. أما بالنسبة للبدائل السياسية، فهي محفوفة بالمخاطر.
وأمام هذا الواقع، يقول إن طهران قد تتجه إلى ثلاثة مسارات رمزية؛ أولها: خفض التعاون النووي مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية كورقة ضغط تقنية ودبلوماسية، ثانيها: تصعيد ناعم في الإقليم عبر أذرعها الإقليمية لإرسال رسائل أمنية غير مباشرة، ثالثها: تصريحات هجومية عالية النبرة ضد أوروبا لإظهار التحدي وامتصاص الغضب الداخلي.
لكن كل هذه الردود تظل استعراضية –كما يضيف السعيد– أكثر من أنها تأثيرية، فإيران تدرك أن استهداف المصالح الأوروبية مباشرة يعني الاصطدام بجبهة غربية موحدة، وهو ما لا تملك أدواته الآن.
الانسحاب من معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية
وبرأي خبير الشؤون الإيرانية، أن التهديد بالانسحاب من معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية ورقة تفاوض لا قرار مصيري، مشيرًا إلى أنه منذ أسابيع لوّحت طهران بالانسحاب من المعاهدة في حال استمرار الضغوط والعقوبات.
غير أن القراءة المتأنية للمشهد تشير إلى أن هذا التهديد أقرب إلى ورقة تفاوضية منه إلى قرار استراتيجي، فالانسحاب من المعاهدة يعني فتح الباب أمام عزلة دولية كاملة وفقدان الغطاء القانوني للبرنامج النووي السلمي، فضلًا عن تعريض إيران لإجراءات أممية قاسية قد تشمل العقوبات العسكرية، حسبما يقول السعيد.
وأضاف أنه خيار أقصى يُستخدم عادة لردع الخصوم لا للتنفيذ الفعلي، موضحًا أن طهران رغم تصعيدها ما زالت حريصة على إبقاء خيوط التفاهم مفتوحة مع الوكالة الدولية لتحتفظ لنفسها بموقع الطرف المتمرد لا الخارج عن القانون.
كيف ستكون المرحلة المقبلة؟
وفي إجابته على ذلك، أوضح أن المرحلة المقبلة ستتّسم بتوازن دقيق بين رفع سقف التحدي وتفادي الانفجار، حيث إن طهران تعلم أن الانزلاق إلى مواجهة شاملة مع الغرب سيعمّق الأزمة الاقتصادية ويهدد استقرار الداخل، في وقتٍ لا تزال فيه الجبهة الداخلية هشّة ومتأثرة بتقلبات الأسعار والبطالة والاحتجاجات الصامتة.
لذلك، يرى أن السيناريو الأكثر ترجيحًا هو تصعيد محسوب ومفاوضة مؤجلة، مع تصريحات حادة وإجراءات نووية رمزية، توازيها رسائل غير معلنة عبر وسطاء لإبقاء باب العودة إلى التفاوض مفتوحًا.
واختتم بالتأكيد على أن إيران اليوم أمام معادلة مزدوجة: لا تستطيع الرضوخ الكامل دون ثمن داخلي، ولا تملك أدوات الردّ الشامل دون مخاطر وجودية، أما تفعيل "السناب باك" فليس نهاية الطريق، بل جرس إنذار سياسي يُذكّر طهران بأن زمن المراوغة بدأ يضيق، وأن الواقع الدولي لا يُدار بالخطابات بل بالثقة والتوازنات.