لم تكن ملحمة أكتوبر/ رمضان مجرد انتصار عسكري، بل مثلت انتقالاً عسكرياً وتاريخياً ورؤيوياً وسياسياً من الهامش إلى القلب. لقد تعلمنا من التاريخ أن الانتصار لا يعتمد على الكم من الأسلحة والجنود بقدر ما يعتمد على التخطيط وعناصر المفاجأة وتحقيق الأهداف، وفوق كل ذلك وقبله الإبداع الإنساني الذي يقف خلف هذا التخطيط.
وإلا فكيف انتصر العرب في المعركة التاريخية "معركة اليرموك" التي فتحت الباب أمام توسع المسلمين في بلاد الشام، و"معركة حطين" التي قادها صلاح الدين الأيوبي لطرد الصليبيين، و"معركة ستالينغراد" التي شكّلت نقطة تحول في الحرب العالمية الثانية لصالح الحلفاء ضد ألمانيا النازية، بالإضافة إلى "غزوة بدر الكبرى" التي كانت بداية الانتصارات الإسلامية العسكرية؟ تعود أسباب هذه الانتصارات إلى التخطيط العسكري الذكي، الإبداع الإنساني في المعركة، الاستراتيجيات المبتكرة، الروح المعنوية العالية للجنود، القيادة الحكيمة، بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل العقيدة القتالية أو استخدام تقنيات جديدة.
لماذا كان انتصار أكتوبر فارقاً في الحياة والتاريخ المصري؟
شكّل انتصار أكتوبر 1973 نقطة تحول حاسمة في التاريخ المصري الحديث على أكثر من صعيد، وقد أثار اهتماماً كبيراً في الأكاديميات العسكرية العالمية لأسباب تكتيكية واستراتيجية مهمة. لعل أهمها التحول النفسي والمعنوي لدى المصريين والعرب عموماً، فقد حقق الانتصار إنجازاً نفسياً هائلاً بعد هزيمة 1967 المدمرة، وأعاد للمصريين الثقة في قدراتهم العسكرية وتحطيم أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر” الإسرائيلية.
كما أدى هذا الانتصار إلى مجموعة من التحولات الاستراتيجية على الأرض، فقد أدى إلى إعادة فتح قناة السويس التي كانت مغلقة منذ 1967، ومهّد الطريق لاتفاقية كامب ديفيد واستعادة سيناء، وأعاد العلاقات المصرية الأمريكية التي انقطعت منذ حرب يونيو 1967.
كما كانت تلك المرة الأولى في التاريخ التي استُخدم فيها النفط كسلاح استراتيجي حقق انتصاراً جماعياً عربياً، وارتفعت مداخيل دول الخليج العربي، وأعاد التضامن العربي إلى حد كبير.
ماذا تقول وثائق الأرشيف القومي الأمريكي عما حدث في 6 أكتوبر 1973؟
سأقتطع هنا نصاً من الصفحة الأولى الخاصة بوثائق الحرب المتاحة على الإنترنت في وثيقة بعنوان حرب أكتوبر والسياسة الأمريكية. كتب وليام بور محرر الوثيقة في 7 أكتوبر 2003:
"قبل ثلاثين عاماً، في 6 أكتوبر 1973 في الساعة 2:00 مساءً بتوقيت القاهرة، شنّت القوات المصرية والسورية هجمات منسقة على القوات الإسرائيلية في سيناء ومرتفعات الجولان. عُرف هذا الصراع باسم حرب أكتوبر أو حرب يوم الغفران، واستمر حتى أواخر أكتوبر عندما فرضت واشنطن وموسكو، من خلال الأمم المتحدة، وقف إطلاق النار على الأطراف المتحاربة. كان لحرب أكتوبر تأثير أساسي على العلاقات الدولية ليس فقط من خلال اختبار متانة الانفراج الأمريكي السوفيتي، ولكن أيضاً من خلال إجبار الولايات المتحدة على وضع الصراع العربي الإسرائيلي على رأس أجندة سياستها الخارجية. جعل تهديد عدم الاستقرار الإقليمي وأزمات الطاقة والمواجهة بين القوى العظمى الدور العملي للولايات المتحدة في المنطقة أمراً لا مفر منه. منذ خريف عام 1973، لعبت واشنطن دوراً محورياً في الجهود المطوّلة، وإن كانت متقلبة، لمعالجة الأهداف الأمنية والإقليمية المتضاربة للعرب والإسرائيليين. توفر المواد الأرشيفية الأمريكية التي تم الكشف عنها مؤخراً بواسطة أرشيف الأمن القومي معلومات بالغة الأهمية حول السياسات الأميركية ووجهات النظر والقرارات أثناء الصراع."
تناولت دراسات قيّمة حول حرب أكتوبر، أجراها محللون أمثال ريتشارد نيد ليبو، وجانيس غروس شتاين، وويليام ب. كواندت، وكينيث دبليو. شتاين من بين آخرين، قضايا وتطورات رئيسية، مثل الأهداف المصرية والسورية، وعلاقات القوى العظمى مع الأطراف المتحاربة، وإخفاقات الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية، ودور موسكو وواشنطن في تصعيد القتال وتهدئته، وتأثير شخصيات رئيسية مثل كيسنجر والسادات.
سجلات أرشيفية جديدة، تُرفع عنها السرية بشكل روتيني بموجب الأمر التنفيذي رقم 12958، من الملفات المركزية لوزارة الخارجية ومشروع نيكسون للمواد الرئاسية في الأرشيف الوطني (كوليدج بارك)، تُسلّط الضوء على هذه القضايا وغيرها من القضايا ذات الصلة.
يُقدم هذا الكتاب الموجز المرتب زمنياً، مع استثناءات قليلة بما يتوافق تقريباً مع مراحل القتال، بعضاً من أبرز ما جاء في سجل الأرشيف المرفوع عنه السرية. تنشر هنا لأول مرة وثائق تعكس الآتي:
1 - فشل الاستخبارات الأميركية في إدراك التهديد الوشيك للحرب؛ ووفقاً لرئيس الاستخبارات في وزارة الخارجية راي كلاين: "كانت صعوبتنا جزئياً أننا تعرضنا لغسيل أدمغة من قبل الإسرائيليين، الذين غسلوا أدمغة أنفسهم بأيديهم" (وثيقة 63).
2 - التحذيرات المسبقة من هجوم مصري سوري محتمل التي تلقاها الإسرائيليون، ونصيحة كيسنجر لرئيسة الوزراء جولدا مائير بتجنب الضربة الوقائية (الوثائق 2 و7 و10 و18).
3 - الحالة الأولية من الارتباك في مجتمع الاستخبارات الأمريكي بشأن إمكانية الحرب (الوثيقة 13).
4 - قرارات كيسنجر المبكرة بتقديم المساعدات العسكرية لإسرائيل (الوثائق 18 و21)، والبقاء على اتصال مع القادة العرب لتعظيم النفوذ (الوثائق 20 و44 و63).
5 - التقليل الأولي من أهمية التهديدات العربية بفرض حظر نفطي وخفض الإنتاج (الوثيقة 136).
6 - "صدمة" كيسنجر ورفضه تنفيذ تعليمات نيكسون بإنشاء لجنة مشتركة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي لفرض تسوية سلمية (الوثيقتان 47 و48).
7 - السجل الكامل لمحادثات كيسنجر في الفترة من 20 إلى 22 أكتوبر مع السوفييت والإسرائيليين بشأن قرار وقف إطلاق النار الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (الوثائق 46 و49-50 و53-56).
8 - الضوء الأخضر الافتراضي من كيسنجر للانتهاكات الإسرائيلية لوقف إطلاق النار الذي أقرته الأمم المتحدة (الوثيقتان 51 و54).
9 - رسالة بريجنيف المؤرخة في 24 أكتوبر، والتي دفعت الولايات المتحدة إلى إصدار تنبيه نووي "ديفكون 3" (الوثيقة 71).
10 - غضب كيسنجر من حكومات أوروبا الغربية، التي اعتبرها تتصرف كـ"بنات آوى" و"قوى معادية"، لعدم دعمها السياسة الأمريكية (الوثيقتان 63 و75).
11 - اجتماعات متوترة لمجلس شمال الأطلسي التابع لحلف الناتو، حيث استمع السفير الأمريكي دونالد رامسفيلد إلى شكاوى بشأن عدم الإخطار المسبق بالإنذار الأمريكي (الوثيقتان 79أ و79ب).
12 - اقتناع كيسنجر بأن الحرب وضعت الولايات المتحدة في "موقع مركزي" في الشرق الأوسط بينما "هُزم" السوفييت (الوثيقة 63).
13 - اتصالات منظمة التحرير الفلسطينية والولايات المتحدة خلال الحرب (الوثيقة 78).
14 - سجل المحادثات العاطفية بين كيسنجر ومائير حول ترتيبات وقف إطلاق النار (الوثائق 91أ و91ب و93أ و93ب).
على الرغم من أهمية المواد الجديدة، إلا أن وثائق أمريكية بالغة الأهمية حول حرب أكتوبر لا تزال سرية، وخاصة ضمن ملفات الأمن القومي ضمن المواد الرئاسية لنيكسون. تشمل المواد المحجوبة تقارير استخباراتية، ورسائل سرية مُرسلة عبر مكاتب وكالة المخابرات المركزية، ومجموعة متنوعة من الوثائق الأخرى. ولعل الأهم من ذلك أن معظم محاضر اجتماعات مجموعة واشنطن للعمل الخاص (WSAG) – وهي لجنة فرعية تابعة لمجلس الأمن القومي مسؤولة عن التعامل مع حالات الأزمات – لا تزال سرية رغم مرور ثلاثين عامًا.
يتبين أن هناك كثيرًا من الفوضى التي عمت مجلس الأمن القومي الأمريكي وكذلك الاستخبارات الأمريكية ووزارة الخارجية، كما يتضح تمامًا دور كيسنجر في محاولة إنقاذ إسرائيل المستميتة حتى لو وصل الأمر إلى حدود الجنون واستخدام القوى النووية.
لنتفحص ما قالته الأكاديميات العسكرية العالمية حول العناصر الفارقة التي استخدمها الجيش المصري لتحقيق أهدافه من هذه الحرب:
* أنتجت الأكاديمية العسكرية الأمريكية (ويست بوينت) دراسات علمية عسكرية مفصلة حول الحرب، مشيرة إلى أن "الهجوم المصري عبر قناة السويس كان أداءً بارعًا في الأسلحة المشتركة استغرق ثلاثة أيام" واستغرق سنوات للعرب للتخطيط، وعلَّم الإسرائيليين درسًا مكلفًا. كما أشارت الأكاديمية نفسها في كتابها المرجعي Military Strategy and the Arab-Israeli Conflict (Edwin A. Weinstein, 1980)، إلى أن عملية عبور قناة السويس في أكتوبر 1973 كانت واحدة من أكثر العمليات العسكرية تنظيمًا ودقة في القرن العشرين، خاصة في ظل وجود تفوق جوي معادٍ. كما أدرجتها في مناهج دراسة "الحروب الحديثة" كنموذج للتفوق التكتيكي على التفوق التقني. وفيما يتعلق بخداع حرب أكتوبر، فقد كان يتعلق باستخدام مصر ما يعرف بالخداع العسكري (Deception) من خلال تعمدها إبقاء القوات في وضع دفاعي، مع تحركات بطيئة على الجبهة لتشجيع إسرائيل على التقليل من خطر الهجوم. أضف إلى ذلك التكامل بين الأسلحة المختلفة للوحدات العسكرية النوعية كالدبابات والمشاة والدفاع الجوي والهندسة العسكرية.
* أكدت كلية القادة والأركان الأمريكية أن "مصر اضطرت لمواجهة أوجه قصورها وإخفاقاتها من حرب الأيام الستة 1967 بشكل مؤلم، ونجاحها في عدم تكرار تلك الأخطاء يقدم درسًا حيويًا لأي قوة عسكرية في العالم".
* أشارت الكلية الحربية البريطانية (Royal Military Academy Sandhurst) في تقريرها السنوي عن "الصراعات الحديثة" الصادر عام 1985 إلى أن "انتصار أكتوبر كان دليلًا على أن أي جيش، حتى لو كان متخلفًا تقنيًا، يمكنه تحقيق نجاح استراتيجي إذا استخدم التخطيط الدقيق، والتدريب الجيد، واستغل عنصر المفاجأة". وسنجد إشارات متفرقة إلى الإبداع العسكري المصري في كثير من مواقف حرب أكتوبر، كما قالت واصفة عملية العبور بأنها "أعظم عملية هندسية عسكرية في القرن العشرين" بسبب استخدام المضخات لتفريغ المياه وفتح ممرات عبر الرمال، مع الحفاظ على السرية التامة.
* في دراسة للمعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (IFRI) بعنوان The October War: A Turning Point in Modern Warfare (2003): "كانت حرب أكتوبر 1973 أول حرب حديثة تستخدم فيها أنظمة صواريخ مضادة للطائرات بشكل منهجي، وأدت إلى تغيير جذري في تكتيكات الطيران. هذا الدرس أثر على جميع الجيوش الغربية، وأدى إلى إعادة تصميم الطائرات المقاتلة (مثل F-15 وF-16) وتطوير أنظمة ECM (الحرب الإلكترونية)".
* أشار المركز الأمريكي للدراسات العسكرية (US Army Center of Military History) في كتابه The Arab-Israeli Wars: 1948–1973 الصادر عام 2006 إلى أن "الهجوم المصري في أكتوبر 1973 كان الأكثر إتقانًا من بين كل الهجمات العربية. لقد أثبت أن التفوق التكنولوجي لا يضمن النصر، وأن التخطيط والقيادة والروح المعنوية يمكن أن تقلب موازين القوى". كما أشار أيضًا إلى أن الجيش المصري حقق أهدافه التكتيكية الكاملة في اليوم الأول، وهو أمر نادر في الحروب الحديثة.
* عن رأي الأكاديمية العسكرية الروسية (Военная академия Генерального штаба)، ورغم أن الاتحاد السوفيتي كان داعمًا عسكريًا لمصر في ذلك الوقت، إلا أن تقييماتهم كانت موضوعية. ففي تقرير سري داخلي (تم تسريبه لاحقًا): "لقد تجاوز الجيش المصري توقعاتنا بأكثر من 100%. لم نكن نتوقع أن يعبروا القناة في ليلة واحدة، أو أن يدمروا خط بارليف بهذه السرعة. هذا يدل على أن التدريب والانضباط المصري قد تطورا بشكل غير مسبوق".
* معهد الدراسات الأمنية في إسرائيل (INSS – Institute for National Security Studies) في تقريره المعنون: The Yom Kippur War: Lessons Learned (2003): كتب "الخطأ الاستراتيجي الأكبر لإسرائيل كان التقليل من شأن مصر. لم نصدق أنها ستجرؤ على الهجوم، ولم نأخذ التهديد الجدي بعين الاعتبار. أكتوبر علمنا أن أي جيش عربي يمكنه أن يكون خطيرًا إذا كان مدربًا ومنظمًا". وأصبحت هذه الدراسة مرجعًا أساسيًا في تدريب الضباط الإسرائيليين حتى اليوم.
* أما الأكاديميات المصرية العسكرية، مثل كلية الدراسات العليا العسكرية، فقد أكدت أن "حرب 6 أكتوبر كانت معركة شرف لاستعادة أرض مصر الغالية"، لكنها أشارت أيضًا إلى الدروس المستفادة من هذه الحرب، والتي يمكن تلخيصها فيما يلي:
•التكتيكات المبتكرة:
عبور القناة: استخدام خراطيم المياه لإزالة الحاجز الرملي في خط بارليف.
المفاجأة التكتيكية: التوقيت في يوم الغفران اليهودي ورمضان.
الحرب المشتركة: تنسيق فعال متوازن بين القوات البرية والجوية والبحرية.
الدفاع الصاروخي: استخدام فعال لصواريخ سام ضد الطيران الإسرائيلي.
الاستراتيجية الشاملة: "قدرة مصر على تكييف أهدافها الحربية مع قدراتها القتالية" أصبحت نموذجًا يُدرس في الأكاديميات العسكرية.
يبقى انتصار أكتوبر نموذجًا يُدرس في الأكاديميات العسكرية العالمية كمثال على التخطيط الاستراتيجي طويل المدى، والتنفيذ التكتيكي المبدع، والتحول من موقف الضعف إلى استعادة المبادرة الاستراتيجية.