شهد عام 2025 الاحتفال بمئوية الفنان عبد الهادي الجزار (1925 -1966 ) حيث أقيمت العديد من الفعاليات و الندوات سواء في ظل رعاية وزارة الثقافة المصرية في معرض القاهرة الدولي للكتاب أو جمعية محبي الفنون الجميلة شهد أيضاً هذا العام طباعة وإطلاق الكتالوج المُسبب للفنان عبد الهادي الجزار في القاهرة وباريس. والذي أشرف على إعداده وطباعته الناقدة الفرنسية فاليري هيس والدكتور حسام رشوان بالتعاون مع مؤسسة الجزار.
يتضمن الكتالوج الذي يصدر في جزأين دراسات كتبت خصيصا للكتالوج المُسبب هي طبقا للترتيب الأبجدي لكتابها :مسيرات سحرية في أماكن بائسة" للدكتورة أمل نصر، "ما بين الجماعتين المصريتين: الفن والحرية، والفن المعاصر" للناقد سمير غريب، "قراءة في رموز الجزار" للدكتور شاكر عبد الحميد، "استخدام الرمز الشعبي عند الفنان الجزار ودلالته في التراث الشعبي المصري" للدكتورة عديلة عصمت، "في مواجهة خرتيت اسمه الموت" للفنان عز الدين نجيب، "الجزار من التجريدية إلى عالم الفضاء" للناقدة فاليري ديدييه، ، "في حضرة الواقعي والرمزي" للدكتور مصطفى عيسى، "الإطار القانوني الحاكم لحماية أعمال الفنان عبد الهادي الجزار: رؤى جديدة في ضوء قانون سوق الفن" للباحث القانوني في مجال الملكية الفكرية ياسر عمر أمين. بالإضافة إلى حوارين خاصين أحدهما مع السيدة ليلى عفت أرملة الجزار والثاني مع الفنان أحمد مرسي المقيم في نيويورك والذي كان صديقا للجزار واشترك معه في بعض الأعمال الفنية.كما يتضمن الكتالوج دراسات سبق نشرها وهي الجزار الثورة والهوية" للناقد آلان روسيون، "قراءة في وجدان شعب" للدكتورة إيناس الهندي، "فنان الثورة" للفنان حسين يوسف أمين، "الرؤيا الخاصة والتعبير عن الجماعة قراءة جديدة في أعمال الفنان" للدكتور صبري منصور، "قهر الأسطورة وبطش الآلة" للدكتور مصطفى الرزاز، "بين المواجهة والإحباط" للدكتور نعيم عطية.
و كأن تلك الأعمال الخصبة قد ولدت من جديد حين تركزت حولها الأضواء ونشطت في تحليلها الأذهان، حيث تجلت الضرورة لإعادة اكتشاف الإنتاج الفني لعبد الهادي الجزار في قراءة تحليلية نقدية نستطيع أن نرى من خلالها كيفية إنتاج الصور الأسطورية والإمكانات الرؤيوية في لوحاته، كيف يتم خلق القطب الطوطمي في مشاهد عبد الهادي الجزار التي تبدو وكأنها أطياف لعوالم مضت و أكوان هائمة في برازخ كثيفة قد كشف عنها الحجاب فبدت لنا المسطحات التصويرية كشاشات عملاقة تبث عالماً ممسرحاً من تأليفه. تلوح في آفاقه الشخوص الغرائبية التكوين و الهجينة الخلقة والمشوهة المبتورة في بعض الأحين، عبر عمليات تكوين التغريب البصري كما في لوحات المجنون الأحضر وفرح زليخا و عالم المحبة، وغيرها حيث تظهر صياغة الفنان عبد الهادي الجزار لمناطق التوتر البصري والنبض المتدفق بين ما هو يومي وما هو خارج عن السياق العادي، وإزالة التعود difamiliarisation، وتبدو حين يحدد أطر الفضاء التشكيلي في لوحاته ورسومه، ويخلق عناصر ذات طبيعة رمزية تتحرك في فضاء التشكيل ليستوعب العمل ذاكرة شعبية سحرية ميثولوجية في قالب أسطوري رمزي، وتشكل تلك العناصر كالمجاذيب والعفاريت والحيوانات والمسوخ أيضاً ركائز للوحاته التي تبدو وكأنها فضاء مجازى قابل للمد و البسط إلى ما لا نهاية، حتى مسطح الخلفية، و كأنها تدعونا إلى رؤى متعددة لما وراء المشهد العميق و تتجاوز حدودها على نحو مجازي و افتراضي، أو ربما غير مرئي أيضاً، إن تشكيل المكان في لوحات الجزار يعتبر عنصرا أوليا للصورة و كناية عن كل حقيقة معقدة كامنة في طبقاته المتعددة.
إن التكوين البصري للصورة لدى الجزار، يقود عمليات توليد المعنى عبر تحفيز فعل المشاهدة وإثارة و تنشيط العلاقة بين المرئيات والنصوص التراثية الكامنة في ذاكرة المشاهد ولا وعيه التي تتم معالجتها، مع مراعاة أن هناك مفاتيح للإدراك الحسي لدى المتلقي، عبر فيض ثري من العناصر التشكيلية والأبطال الشاخصين بأبصارهم إلى السماء الذاهلين الذين يخفون وجوههم ويرقدون على رجاء قيامة ما بأزيائهم و حركاتهم و الإضاءات النابعة من ثنايا الغرفات المقبضة وأعطافهم المنهزمة وهم مقيدون معذبون قد بترت أطرافهم والملامس و الروائح المنبعثة التي تهيم في فضاء اللوحة تكاد تحسها والأصوات التي تنبعث حين يضمنا في مشهدية مركبة كمخطوط أثري على رق كثيف الطبقات. وتعمل تلك الصور مجتمعة و هي مسكونة بالأفكار و الهويات و التواريخ والتي قد تستعصي على التمثيل الكامل، أنها تضيف أكثر من مجموع أجزائها.
في لوحته الماضي والحاضر والمستقبل، التي أنتجها في عام 1951 ، من الألوان الزيتية على سطح من مادة السيلوتكس، و أبعادها 95 x62 سم يصور عبد الهادي الجزار رحمه الله محيطاً كثيفاً من الدلالات و القراءات ينطق به كل عنصر من عناصر اللوحة بسطوع، هو يضعنا على الحافة الجليلة الفارقة، أن نكون أو لا نكون، أن نختار، ألا نقف في عالم الما بين، ألا نظل قابعين في برزخ المراوحات، أن نستمسك بالوجود و لحظة الوعي و الوميض، أن نثور و ننهض ونحلق نحو النور، يسقط لعنته على تلك المخلوقات المنسحقة وأولئك البشر المساكين، فهم معلقون بين السماء و الأرض، مساقون نحو المجهول بخوف من وهم وغيام، مشدوهون يحملون أولادهم وأشياءهم، معلقة أبصارهم بجدران السجن المحيط، سكنت الريح و خيم الظلام وانغلقت العقول، يربض فوق الصدور هواء ثقيل سممته عطانة الفساد، يحجب النور دخان كثيف، عمت الشكوى و ساد الوجل وانهمرت الدموع، موكب يسعى نحو القبور .. كل من بالقلعة واقع تحت وطأة الخوف، من يخرج فهو محمول إلى التراب، امرأة تلتصق بالجدران وتخفي وجهها قابعة في رعب، بلغت القلوب مبلغ الزيغ، نعق طائر الليل بنذر اليأس، شقق العطش قلوب الشجر فانذوى و ذبل و استكان للوجوم ، وغيض الماء، و بات كلُ في سؤال، استغاثات ونداءات و تشبث وهزيم يكاد يتردد صداه في قاعة العرض .
يربض ذلك الفتى المعصوب الرأس في وجوم، يرسمه عبد الهادي الجزار و قد تملكت رأسه و اعتنقته ثلاثة أحجبة، تربطها سلسلة غليظة كرسها الجزار، يطل من داخل بناية كالقلاع القديمة، هي سجن، هي تيه من كتل صماء كئيبة، صورها الجزار في بناء حلزوني و إيقاع رتيب مقبض، يدق هادراً في خطوات المساقين نحو المجهول، في أولئك الخارجين من الناحية الخلفية المظلمة ، في امتداد طابور المقهورين، واكتمال ضربات الولوج في الظلمات المهيمنة على الكتلة الكبرى للقلعة و الفتى المنتظر، هو ساكن غير قادر على الحركة ونصفه الأسفل لا يظهر لنا، على الرغم من ضخامة بنيته و صحتها ،يحملق مشدوهاً إلى مفتاح الفرج .. الخروج .. ولا يمد له قبضتيه العفيتين و أصابعه الغليظة المترددة، تشده صفوف البشر المغيبين المنسحقين تحت وطأة الغيوم، تلاحقه اللعنات و الخرافات و القيود، يضع له الجزار ذلك المفتاح في طبق قريب، يهزه و ينكأ جرحه و يوقظه و يدفعه دفعاً نحو امتلاك ناصية الخلاص، يفتح به المغاليق و يفك أغلال الفتى المسجون ،يقدم له الجزار ما يفض به أسر الماضي، ما تنفرج به مزاليج الجهل و الخوف و العماء، ما تنجلي به غيامات العقل و تنكشف به أثقال رازحة تقبض الروح و تمرض الجسد، يظهر فيما وراء الرابض أناس غير محددي الملامح مساقين نحو شئ ما كالمريدين يلتمسون البركة من الولي و يتعلقون بالشفاء، يدخلون أفواجاً يبتلعهم الظلام، فيأتي غيرهم والإيقاعات تترى و تصاعد في جنبات الغيب، امرأة وطفل ينتظران، أناس آخرون يحاولون ويلهثون يتسلقون السور بمشقة ويتهافتون نحو المصير المحتوم، نحو الانضمام لذلك القطيع، يتدافعون من الهاوية مستجيرين بالبنية الصماء، وجه الفتى فى اللوحة ينضح بالتأمل والنظر إلى البعيد المجهول.
ثم سمى الفنان لوحته بالماضي والحاضر والمستقبل أي أننا نتلقى ثلاثية ما .. عنصران أحدهما حاضر ماثل أمامنا فى صورة الفتى المفتول العضلات، المغيب الرأس، والآخر يقع خلفه يحمل علامة الماضي المفارق في جسم السجن و الحصار، وأما ثالث الأيقونات التي أوجدها الجزار لفظاً وأخفاها تشكيلاً و كثفها في رمز المفتاح وهو جوهر مضمر يهم البطل أن يمد إليه يد النهوض والتحقق والتوثب في تكثيف بليغ لمعنى المستقبل، و قد تحرر من الجهل و الخوف و الإرث المعتم، قبض الجزار على لحظة في الزمن، موقف قدري مصيري، ومضة من الوعي الحاد و الوقوف على نصل الاختيار، إن الجزار يترك لنا الخيار في تلك اللحظة المكثفة، إما العودة و الاستسلام أو المضي قدماً نحو كسر القيود و الوثوب نحو الأفق المفتوح ترك لنا القرار مع ذلك الفتى المسحور، في ذا المفتاح العلامة.
يمكننا أن نميز بين الخصائص المكانية الأساسية لعالم عبد الهادي الجزار الذي تكون في ذاكرته البصرية في حي السيدة زينب من التكوينات المعمارية للمساجد و الأضرحة والحارات المظلمة والتكايا والحضرات المنعقدة حتى مطلع الفجر والاستخدامات المحددة لها في المسطح التصويري واستراتيجيات خلق وتشكيل هذا العالم، التي يبدعها الجزار ،حيث تطغى قوة الحركة لدى أبطاله وبطلاته بأجسادهم الضخمة وأطرافهم الغليظة و تهيمن على فضاء لوحاته و تترك أثراً أو يمكننا القول أنها تبث طاقة تسري وتمتد نحونا في خوضنا لتجربة التذوق الفني و التحليل.
العمل الفني لدى الجزار يمثلُ لقطة هائلة مكثفة لها القدرة على التعبير الفائق، وتجسد هذا المعنى، و كل هذه الصور المتخيلة لا تقدمُ لنا سوى إيماءات؛ إيماءات تحمل معناها في باطنها وتتجاوز أية معرفة إنسانية قد نمتلكها .و هي حتى عندما تقدمُ لنا ملامح إنسانية، فإن هذه الإيماءات الرمزية تظل مطمورة في السطح النسيجي للعمل الفني ذاته: فالكثرة الهائلة من العناصر الكامنة في نسيج التجربة الفنية لدى عبد الهادي الجزار تتلاعب بصورة مغرية مغوية حولنا ، تبث الطاقة الكامنة .
لقد شهد عام 1964 احتشادا ضخما لعدد كبير من الفنانين حول " المشروع القومى " متمثلا فى تسجيل مراحل العمل فى السد العالي ومنطقة قرى النوبة قبل أن تغرقها مياه بحيرة السد , مستجيبين لدعوة د. ثروت عكاشة الذى كان يحقق بذلك توجه النظام إلي ربط المثقفين والمبدعين بمنجزات وأهداف الدولة، وشارك فى هذا الاحتشاد فنانون من كافة الاتجاهات والمدارس الفنية, استطاع المناخ العام للمشروع أن يفجر لدى كل الفنانين كثيرا من الرؤى الإبداعية كل بأسلوبه الخاص، و في لوحة السد العالي للفنان عبد الهادي الجزار نقرأ مثاليات العصر الذهبي للنهضة والمشروع القومي المصري في مفردات الفنان التي استخدمها في تلك اللوحة: فنرى ذلك التصميم و التحدي والإرادة والتطلع للمستقبل المشرق تتجلى في رأس إنسان عملاق وجهه يشبه وجه جمال عبد الناصر و يغطي تلك الرأس قناع صلب كفرسان العصور الغابرة، شفاف كقناع رواد الفضاء الذين اهتم بهم عبد الهادي الجزار في الكثير من أعماله وشغلت مخيلته تلك الفكرة البديعة عن امتلاك الإنسان السيطرة على العلم و تمجيد العمل و مثالياته في مفرداته التشكيلية وجزيئاته التي شيد بها وجه العملاق الرابض، نراه ذا رقبة طويلة مغطاة بالعدد والأدوات المستخدمة في تشييد السد العالي، نرى كذلك ملامح من نهر النيل على امتداد أفق اللوحة، رجل و سيدة من أبناء الوادي ، ثم يمتد التكوين الآلي نازلاً من الرقبة العملاقة وهو ملتحم بها في سريان متسلسل من وشائج آلية: صنعت إيقاعاً بصرياً قوياً و تماسكاً في بنيان العمل الفني، ذلك الرابض في شموخ ينظر إلي أعلى وهو ذو ملامح تنطق بالرسوخ فصلابة الأنف الحاد، والفك البارز تمنحنا إيحاءً قوياً بصلابة و قوة إرادة هذا المخلوق الذي مزج فيه عبد الهادي الجزار بين الطبيعة البشرية و الطبيعة الآلية و جعل رأس الكائن الرابض في مواجهتنا وأما جسده فيمتد بين الآلات و الأبراج و الصخور و الجسر مع سريان المدى المفتوح المتطلع إلى النجاح و الفلاح و البناء، فقد كان مشروع بناء السد العالي في مصر يرسخ مفاهيم الحداثة و التصنيع والتقدم العلمي وتمجيد الطبقة العاملة، وقدرة الإنسان الجبارة على الثورة وتغيير وجه الحياة على المستويين الفيزيقي والروحي، وكما مزج الفنان المصري القديم بين الطبيعة الإنسانية والطبيعة الحيوانية في إطار عقائدي وروحي نرى الإنسان هنا وقد امتزج بالآلة في عشق و اعتناق ، فهي أيقونته الجديدة، وسحره المستقبلي، وتعويذته المتفائلة هذا العناد و التحدي والاحتفالية المقدسة في تصوير ذلك المشهد الباهر للإنسان المصري و هو يصارع وجه الأرض و يزيل جبالاً و يفجر صخوراً ويحول مجرى النهر العتيد، و كأننا نسمع الأنشودة تتردد في الآفاق العفية " قلنا حنبنى وأدى إحنا بنينا السد العالى "
يتشكل الحيز أو المكان في ضوء الموضع الذي تشغله السطوح البسيطة المستوية للعناصر الأساسية للوحة والتي تتباين في حجمها وتميل بفعل اللون و الظل إلى السكون والرسوخ للونها الداكن في تقابل مع الخلفية الفاتحة الباردة مما يؤكد قوة وحضور الشخصيات الرئيسية وتوحي العلاقة المكانية بين موقع الثلاث أشخاص فوق التل والخلفية في أسفل، و يطالعنا المنظور الذي استخدمه عبد الهادي الجزار حيث تميل خطوط النهاية إلى التلاشي عند الأفق بينما نري عناصر التعبير بارزة متقدمة إلى الأمام. الإضاءة مركزة فوق جبين السيدة وفي يدها حيث الميثاق وفي الخلفية حيث الامتداد اللانهائي لمجرى المياه(قناة السويس) وتمثال يشبه الرئيس جمال عبد الناصر . الألوان في اللوحة هي الأسود و الرمادي للملابس و الأرض والأخضر لوجه ويدى وقدمي السيدة، مجرى المياه درجة فاتحة من الأزرق، ضفتي مجرى المياه أصفر فاتح يحتوي على أبيض بنسبة عالية ، الألوان الباردة و الداكنة في اللوحة تؤكد الجو الأسطوري الساكن المهيب، لون بشرة السيدة تعبير وجهها يعطي إحساساً بالبرودة و التجهم و الحزن كالكهان والسحرة فى الأساطير القديمة.