على خطى الحاضر بين أطياف ماض مزدهر وشاطىء مستقبل مشرق، مضى المحرر الدبلوماسي لوكالة أنباء الشرق الأوسط ضمن وفد إعلامي وصحفي مصري كبير في ربوع الصين لاستقراء السطور التي صاغت بها الصين مسيرتها لتتحول معها يوماً بعد يوم من دولة نامية إلى عملاق يتصدر اقتصادات العالم.
وفيما تمتلىء السطور بكلمات متواترة في وصف عوامل نجاح التجربة الصينية، فإن ما بين السطور وحده يكشف المفتاح الحقيقي وراء إعادة تشكيل جسد وروح التنين الصيني.
فرحلة الصين لم تكن جولة في مصانعها الشاهقة أو مؤسساتها السياسية والإعلامية والثقافية أو مراكزها التكنولوجية فحسب، بل كانت أشبه برحلة سمحت لنا بالغوص في قلب تجربة إنسانية نادرة، حيث تتجاور الحكمة القديمة مع طاقة الحاضر المتدفقة.
وفي كل خطوة بدت ملامح السؤال تتجلى ما هو المفتاح الذي استنهض العملاق الصيني من سباته، ومن أي ينابيع استمد هذه القدرة المذهلة على أن يصنع من الصبر مشروعاً، ومن الانضباط حضارة، ومن الإيمان بالمستقبل طريقاً للنهضة.
وبين صين الحاضر وصين الماضي والصين في المستقبل يتخطى ما يحدث هناك كيان دولة أو تجربة تنموية إلى حقيقة كونه رمزا لفكرة نهضت من عمق التاريخ لتقول للعالم إن الشعوب العريقة لا تموت.
بل تعود دائماً في هيئة جديدة من الضوء.. فكرة نهضت هناك لتضيىء أرض الصين مثلما تنهض هنا لتضيىء أرض مصر.. فكرة تمتد في التاريخ ما بين خمسة إلى سبعة آلاف عام ويزيد.. فكرة ينسج تفاصيلها هناك المواطن الصيني مثلما ينسج تفاصيلها هنا المواطن المصري.. فكرة أحيتها بصيرة وحكمة وصبر قيادة هنا مثلما أحيتها بصيرة وصبر قيادة هناك.
وخلال الزيارة، لم يكن الهدف فقط متابعة تفاصيل التجربة الصينية أو زيارة معالمها الصناعية والتكنولوجية التي يحكى ويتحاكى عنها العالم، بل ظل الدافع الأكبر هو البحث عن المفتاح الحقيقي الذى استنهض قوة العملاق الصيني.. عن السر الذي حول أمة من الفلاحين البسطاء إلى قوة إنتاج تصنع معجزات القرن الحادي والعشرين.. السر الذي جعل الناتج الصناعي الصيني يشكل قرابة 30 في المائة من الناتج الصناعي العالمي، ونحو 25 في المائة من الناتج الزراعي العالمي.
وبين برنامج الزيارة وما قبل الزيارة كان الاعتقاد أن الصين.. هذا العملاق الصناعي والتكنولوجي الضخم قد تحول معه المجتمع والدولة من الزراعة إلى الصناعة، لكن اللون الأخضر الذي يملأ كل مكان حولنا استدعى التوقف وإعادة الحسابات لفهم ما لم يقال في سطور برنامج جولاتنا، لكنه ظل دوما يطرق من بعيد كصدى خافت في آذاننا.. ومع تعدد محطات جولاتنا في بقاع الصين المضيئة تكشف أن الدولة لم تتخل عن الفلاح لصالح العامل، ولم تُلغ الريف لصالح المدينة، بل صاغت معادلة عبقرية جعلت من الفلاح شريكاً في الصناعة دون أن يفقد ارتباطه بالأرض .. لم تُلغ الصين الفلاح، بل أعادت تعريفه.. معادلة فريدة جعلت بها الصين نفس المفتاح يتم تحويله وبنفس اليد في الاتجاهين.. فشهدنا وشاهدنا ما يسمى المواطن الفلاح العامل.
ومنذ الإصلاحات التي أجرتها القيادة الصينية في أواخر السبعينيات، تم تفكيك نظام المزارع الجماعية، وأُعيدت الأرض إلى الأسر الريفية بنظام "مسؤولية الأسرة الزراعية".
وبالتوازي وبالرغم من ذلك فإن الدولة لم تترك الفلاح محصوراً في حقله، بل فتحت أمامه أبواب العمل في المصانع، والمشروعات الصغيرة، والورش القروية بين مواسم الزراعة والحصاد .. بينهما يصبح الفلاح عاملاً وفيهما يعود العامل فلاحاً.. فيما عُرف بنظام "الساقين الاثنتين".. ساق في الحقل وساق في المصنع.. ساقان تتحرك وتقفز بهما كل تروس الآلة الصينية العملاقة .. توظفان الدورة الزراعية بين موسم الزرع وموسم الحصاد؛ ليظل الفلاح طول العام منتجاً لا ينتظر فقط موسم الحصاد.
وهكذا ولدت طبقة جديدة اسمها "الفلاح - العامل" (Nongmingong).. والتي باتت تمثل اليوم نحو 300 مليون شخص.. هؤلاء تحديداً.. هذه الطبقة الوليدة تحديداً هى التي صنعت الطفرة الصناعية الصينية من قلب الريف بعدما أحكم الرئيس الصيني الحالي ضبط كل عنصر من عناصر هذه المعادلة لتتحقق النتائج المأمولة خلال السنوات القليلة الأخيرة وفي شكل سريع كموسم الحصاد.
ويشير المحرر الدبلوماسي لوكالة أنباء الشرق الأوسط إلى أنه وفي ظل هذا التطور الجاري في الصين، فإنه وحتى حين ينتقل الفلاح إلى المدينة فإنه أبدا لا يقطع صلته بالأرض.
ففي مواسم الزراعة والحصاد، يعود ملايين العمال إلى قراهم مرة أخرى للمساعدة في حقولهم وأراضي أسرهم.. وقد تمكنت الدولة من تنظيم هذه العودة بدقة مدهشة.. فترى المصانع تمنح إجازات موسمية تتزامن مع موسم الحصاد.
وترى كذلك قطارات خاصة تُعيد الملايين إلى قراهم.. وشركات تُعيد جدولة إنتاجها لتناسب دورة الطبيعة والزراعة.
ورأيت ما يوصف بأنه "أعظم هجرة بشرية منظمة يشهدها العالم سنوياً " حيث ينتقل أكثر من 300 مليون إنسان في إيقاع واحد من المصنع إلى الحقل، ثم يعودون مرة ثانية إلى مصانعهم حاملين روح الريف وخبرته.
ومع واقعية هذه المعادلة فقد أسهم تطبيقها بنجاح وحزم في جعل الشخصية الصينية المعاصرة تحتفظ بخصلتين متناقضتين ظاهرياً لكنهما منسجمتان واقعياً.. وهما الانضباط الزراعي والطموح الصناعي.. الانضباط الزراعى المرتبط بروح العمل الشاق، والالتزام بالوقت وعدم التمرد.. مع الطموح الصناعي المرتبط بالسعي للتقدم، والتعلم، والاحتكاك بالمدن والتكنولوجيا.. فكانت النتيجة المبهرة لهذه المعادلة هى "عامل صيني منتج لا يمل، لأن خلفه تاريخ فلاح يعرف معنى العرق والتعب".
فهمت الصين بمعادلتها البديعة أن "الريف ليس مجرد أرض تُزرع، بل مخزون ثقافي وبشري يجب أن يُعاد توجيهه".
وفي ظل هذه المنظومة لم تعد القرية الصينية مكانا للفقر أو الانعزال، بل أصبحت محورا لمشروع قومي ضخم اسمه "إحياء الريف" الذي يقوده الرئيس شي جين بينج.
هناك في الصين الآن.. وفي كل عام وشهر ويوم وربما في كل ساعة تُبنى في القرى مصانع حديثة، ومدارس، ومستشفيات، وشبكات طرق، لتتحول إلى قرى صناعية مزدهرة تسهم في التصدير والتنمية المحلية في آن واحد.
وفي هذه العملية، لم تفقد الصين هويتها، بل أعادت اكتشاف نفسها ووضعت القاعدة ورسختها "الريف ليس الماضي، بل قاعدة المستقبل".
وفي مدن الصين ستجد مشهداً ملهماً لبصيرة كل واعٍ.. ستجد في كل المدن من شنغهاي وشينجدو وجوانتشو إلى بكين.. معظم الأشجار في الشوارع يحيطها أربع دعامات خشبية أو حديدية .. دعامات كى تشخص الأشجار للسماء مستقيمة شامخة غير معوجة.. وقبلها كي لا تقتلع الرياح والعواصف أشجارهم.. هناك وكأنهم يقولون لكل شجرة، انهضي ونحن سند لبقائك ونموك وشموخك.
ولا ينفصل هذا المشهد الملهم عن عبارة أخرى ملهمة سمعناها ونحن على وشك بداية رحلة الصعود الشاقة إلى سور الصين العظيم "اكتمال صعودك للقمة فقط هى الشهادة بأنك بطل"، وهكذا تعلم الصينيون أن البطولة دوما تكمن في إكمال مهمتك حتى النهاية.
ويشير المحرر الدبلوماسي لوكالة أنباء الشرق الأوسط إلى أن التحول الصيني لم يكن اقتصادياً فقط، بل ثقافياً ونفسياً.. فالفلاح الذي كان تابعاً للدولة أصبح اليوم وبكل ما تحمله الكلمة من معنى شريكاً في الحلم الوطني.. وصار الانضباط الزراعي المرتبط بتركيبة عقل الفلاح أساساً للإنتاج الصناعي، وصار صبره الاستراتيجي في الحقل هو نفسه سر تفوقه في المصنع.
وهكذا، نشأت هوية جديدة للمواطن الصيني.. هوية جديدة ظهرت قوامها أن "الفلاح ابن الأرض هو صانع الغد".
وبالمفهوم السياسي يمكن القول أنه وفيما بين السطور، فإن الصين نجحت في بناء عقد اجتماعي غير مكتوب بين الدولة والشعب.. عقد اجتماعي بقاعدة أن "الدولة توفر التنمية.. والشعب يمنحها الولاء".. ولذلك نجحوا في الحفاظ على المجتمع الصيني مستقراً رغم التحولات الطبقية الهائلة، لأن الجميع شعروا بأنهم جزء من مشروع أكبر.. هو مشروع نهضة وطن وقيام عملاق بروح تنين.
ومن الصين درة الشرق الأقصى إلى مصر درة الشرق الأوسط كنا نرى ونسمع ونعرف عن كثير من المشتركات التي تمتد بخيط الزمن لما يزيد عن خمسة آلاف عام من الوعي الفطري الحضاري.
والحقيقة أن من يتابع هذه التفاصيل عن كثب، لم يكن ليرى الصين وحدها، بل سيرى في المرآة ملامح مصر الجديدة.. مصر التي تشيد كل يوم حواضر جديدة وتُقيم مدنًا جديدة، وتعيد رسم خريطة الريف، وتفتح أبواب الصناعة أمام أبنائها.
قطعاً وقولاً أكيداً بالسمع والبصر والبصيرة، فإن مفتاح النجاح الصيني ليس أبداً التكنولوجيا وحدها، بل القدرة على توظيف الإنسان قبل الماكينة، والإيمان بأن الفلاح يمكن أن يكون عاملًا، والعامل يمكن أن يظل ابن أرضه.
ويشير المحرر الدبلوماسي لوكالة أنباء الشرق الأوسط إلى أنه ومن ضفاف "اليانجتسى" إلى ضفاف النيل، يبقى درس الأمم عريقة الحضارة واحدًا.. النهضة لا يقيم عمادها المصانع فقط، بل يصنعها الإنسان حين يجد مكانه في معادلة التنمية، ولقد فهمت الصين ذلك مبكراً، فحولت الكثافة السكانية إلى طاقة إنتاج، وحولت الريف إلى مصنع مفتوح.
ورغم تنوع محطات الزيارة يظل هذا المفتاح هو الأهم.. من بكين للقاهرة.. وعندما عدت لأرض مصر وجدتني أنظر بعين مختلفة لكل ما يتم تشييده على أرض مصر.. رأيت أن نفس المفتاح يتم تشكيل تفاصيله بصبر لا يعرف الملل وتصميم لا يعرف اليأس ورؤية حكيمة بيد قيادة مصر السياسية لا تضل بوصلتها.. وما تشكل في الصين ويتشكل في مصر ليس فقط مفتاحا لفهم الذات الصينية والمصرية بل هو "مفتاح لفهم الذات وزراعة الأرض والخير وصناعة المستقبل".