بكلمات قليلة وصرخة خرجت من أعماق الخوف، دوّت استغاثة فتاة: «الحقونا.. أبويا بيتضرب»، كانت تلك الصرخة بداية لمشهد مؤلم في بيت متواضع بحي الجناين في السويس، لرجل تجاوز السبعين أنهكته السنين وأثقلته التجارب، لم يتخيل يومًا أن يواجه قسوة كهذه داخل بيته الذي كان مأواه الآمن، ولا أن تكون الجدران التي احتضنت ضحكاته وأحزانه شاهدة على لحظات انكساره. لم يملك ذلك الأب الطيب سوى صرخة ابنته المذعورة، محاولةً استدعاء ما تبقّى من ضمير غائب، عسى أن توقظ صرختها شيئًا من الرحمة في قلوب أصابها الصدأ.
بداية القصة
بدأت القصة كما تبدأ آلاف القصص في زوايا المدن المصرية؛ خلاف بسيط حول وحدة سكنية بإيجار قديم، بين مالك يرغب في استرداد شقته، ومستأجر مسنّ تشبّث بمأواه الوحيد، لكن الخلاف لم يسلك طريقه الطبيعي عبر القانون، بل انحدر إلى مستوى مؤلم من القسو، ذريعةٌ واهية، هي اتهام نجل المسن بالسرقة، كانت كفيلة بإشعال غضبٍ أعمى، ليتحوّل الجدل إلى اعتداء جسدي على رجلٍ لم يملك من القوة إلا ضعفه، ولا من السلاح إلا صمته الذي فرضته عليه السنين.
توثيق الفيديو
التقط هاتف محمول مشهد لم تستطع الكلمات أن تصفه؛ صفعات تتوالى، ووجه مسنٍّ يتلقى الضربات، ويدان مرتعشتان تحاولان الدفاع عبثًا، وفي الخلفية، يرتفع صوت فتاة يمزّق الصمت والخوف معًا: «الحقونا.. أبويا بيتضرب». انتشر المقطع عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ليتحوّل من لحظة ألمٍ خاصة إلى قضية رأي عام، ومن مشهد صادم إلى وثيقة إدانة، اشتعلت مشاعر الغضب، وارتفعت الأصوات مطالبة بالعدالة، لتصبح صرخة الابنة صدىً لصرخة مجتمع بأكمله يرفض أن يُهان فيه الكبار، أو تُداس كرامتهم.
تحرك الأجهزة الأمنية
لم تترك الأجهزة الأمنية الواقعة تمرّ دون حساب، فتحرّكت التحريات بسرعة، وتمكنت من تحديد هوية المعتدي، وهو صاحب محل لملابس الأطفال يقيم في المنطقة نفسها، ورغم المفارقة المؤلمة في أن من يكسو الصغار لم يرحم شيخًا في عمر جده، فإن العدالة لم تتأخر؛ أُلقي القبض على المتهم، وبدأت الإجراءات القانونية تأخذ مجراها الطبيعي. لكن يبقى السؤال: كيف وصل بنا الحال إلى هذا الحد؟ وكيف يتحول خلاف على شقة بإيجار قديم إلى مشهد عنف ضد رجل جاوز السبعين، لا يملك من القوة سوى ضعفه، ولا من السلاح سوى صمته؟.