السبت 8 نوفمبر 2025

مقالات

لاسلو كراسناهوركاي.. نبيّ الخراب وبهاء الجملة التي لا تنتهي

  • 8-11-2025 | 12:47
طباعة

فوز لازلو كراسناهوركاي بجائزة نوبل للآداب 2025 ليس مجرد تكريم لكاتب مجرٍى غامض ومتشظي السرد، بل هو إعلان ضمني بانتصار الكتابة القادمة من تخوم المركز، من شرق أوروبا الذي طالما ظلّ في الظلّ الثقافي. كأن الأكاديمية السويدية هذه المرة التفتت إلى الصوت المرهق الذي لم يُكتب ليُترجم، بل ليكابد.

كراسناهوركاي لا يقدّم روايةً بالمعنى التقليدي، بل تجربة في تفكيك العالم، عالمٍ ينهار ببطء تحت ثقل العبث والشكّ. لغته الكثيفة والمتوترة تقف عند حدود الشعر والفلسفة، لكنها لا تدّعي الحكمة، بل تتلعثم مثل الوجود نفسه. لهذا يمكن اعتبار فوزه لحظة إنصاف للكتابة التي تشتغل من الهامش، ضد الانسجام وضد النظام، لصالح القلق الوجودي بوصفه جوهرًا إنسانيًا لا شرقيًا ولا غربيًا

في عالم كراسناهوركاي لا نبحث عن شخصيات بقدر ما نواجه حالات إنسانية على حافة الانهيار. الخراب ليس حدثًا، بل حالة دائمة. مدنه تبدو كأنها بعد القيامة بقليل، وشخصياته تتحرك داخل جغرافيا من القلق، متأرجحة بين الرغبة في الفهم والخوف من المعرفة.

فلسفته أقرب إلى ما بعد الكافكاوية، لكنها أكثر سوداوية من كافكا نفسه. إذا كان كافكا يكتب عن المتاهة، فإن كراسناهوركاي يكتب من داخلها، بعد أن فقد الخريطة واللغة معًا.

العدم عنده ليس نقيض الوجود بل شكله الأكثر صفاءً، كما لو أن كل محاولة للفهم هي نوع من الخيانة للغموض العظيم الذي نحيا فيه. لهذا جاءت جمله الطويلة، المتدفقة بلا فواصل تقريبًا، لتجسّد تيار الوعي المنهك، الذي يهرب من نفسه بينما يكتبها

جماليات الخراب واللغة بوصفها مقاومة

حين نقرأ كراسناهوركاي، نكتشف أن الفوضى ليست موضوعًا روائيًا بل بناء جمالي متعمّد. هو لا يصف الخراب، بل يُجسّده عبر اللغة. جُمله الطويلة التي تمتد لعشرات الصفحات بلا فواصل تشبه زحف الحزن في العالم، كأن السرد نفسه يُصاب بالدوار من فرط ما يرى.

في روايته الأشهر «ساتانتانغو» (Sátántangó) — التي كتبها عام 1985 — يبدأ المشهد في قرية مجرية متهالكة بعد انهيار نظامها التعاوني، حيث ينتظر السكان عودة رجل غامض يُدعى إيريمياس يقال إنه مات.

لكنّ عودته لا تجلب الخلاص بل مزيدًا من الانهيار. الرواية تبدو كأنها تدور في دائرة جهنمية: سبعة فصول تسير إلى الأمام، وستة تعود إلى الوراء، في بناء موسيقي يحاكي رقصة التانغو الشيطانية التي تحمل اسمها.

هنا الخراب لا يأتي من الخارج، بل من الداخل — من الشك، والخيانة، والانتظار العبثي لخلاص مستحيل.

 

ثم تأتي «ميلانكوليا المقاومة» (The Melancholy of Resistance) عام 1989، لتوسّع هذا الخراب إلى مدينة كاملة. تسقط على البلدة دُبابة محمولة على شاحنة، يصحبها مهرجان غامض يثير الفوضى والهيستيريا بين السكان. ينهار النظام الأخلاقي والاجتماعي، ويغدو الإنسان قابلاً للانقياد كما لو كان يبحث عن طاغية يمنحه معنى لخرابه. الرواية تُقرأ اليوم كتشريح مبكر لصعود الشعبويات الجديدة، لكنها أيضًا بيان فني في كيف يمكن للرعب أن يصبح بنية جمالية، وللخراب أن يكون وسيلة لتعرية الزيف الجماعي.

أما «البرج» أو «حرب وحرب» (War and War) الصادرة عام 1999، فهي ذروة نزعة كراسناهوركاي الفلسفية. بطلها موظف أرشيف متواضع يُدعى كوريم يكتشف مخطوطة قديمة يرى فيها جوهر الوجود، فيقرر أن يرفعها إلى الإنترنت قبل أن ينتحر. النص هنا يتحول إلى طقس خلاص عبر الكتابة نفسها، وكأن الكتابة هي آخر شكل من أشكال النجاة، حتى لو كانت النجاة رقمية، افتراضية، بلا جسد.

من خلال هذه الأعمال، تتضح فلسفة كراسناهوركاي الجمالية: أن اللغة وحدها قادرة على مواجهة الانهيار، لأنها تملك طاقة البقاء بعد زوال كل شيء آخر.

الكتابة عنده ليست تأملًا، بل مقاومة ضد التبسيط وضد النسيان. لهذا يُقال إن جُمله الطويلة ليست مجرد أسلوب، بل احتجاج ضد العالم الذي يُريدنا أن نتكلم بسرعة ونفكر أقل

الكاتب الذي جاء من الهامش ليقلب المركز

فوز كراسناهوركاي بجائزة نوبل للآداب كان انتصارًا رمزيًا لما يمكن تسميته “الكتابة من حواف الإمبراطورية”. كاتب مجري، قادم من شرق أوروبا، حيث كان الأدب طويلًا ظلّاً للمعاناة التاريخية تحت الأنظمة الشمولية، يثبت أن الإبداع لا يحتاج إلى ضوء المركز كي يُرى.

كراسناهوركاي لم يكن يومًا جزءًا من المؤسسة الأدبية الغربية، ولم يكتب بلغات السوق الكبرى، لكنه أصر أن يكتب بلغته المجرية الثقيلة، التي تبدو كأنها تتنفّس في العتمة. أعماله تُرجمت ببطء، على مدى عقود، وكان يُقرأ في البداية بوصفه كاتبًا “صعبًا” أو “غريبًا”، قبل أن يُكتشف أن هذا الغموض ذاته هو مصدر قوته.

هو ابن تقاليد الأدب الهنغاري في أكثر مراحلها ظلمة وتأملًا، من إيمري ماداش إلى بيلا هامفاس، لكنه تجاوزهم بقدرته على تحويل اليأس إلى بناء فلسفي متكامل. في زمنٍ تتصدر فيه الكتابة السريعة والمباشرة، يقدّم هو نموذج الكاتب الذي يكتب ببطء ميتافيزيقي، كأنه ينقّب في اللغة عن جذورها الأولى قبل أن يتلوث العالم بمعناه الحديث.

إنه، بهذا المعنى، يقف في مواجهة أدب السوق كما يقف الناسك في مواجهة المدينة، ممسكًا بكلمةٍ خام، متوترة، ترفض أن تتحول إلى سلعة

اللغة بوصفها بطل الرواية الحقيقي

يبدو أن الشخصيات في روايات كراسناهوركاي تتحلل تدريجيًا، بينما تبقى اللغة وحدها على قيد الحياة. اللغة عنده ليست وسيلةً للحكي، بل كائن حيّ يتحرك داخل النص.

إنها لغة تنفعل، تتعرق، تتلعثم أحيانًا، لكنها لا تستسلم أبدًا. كل جملة عنده تُبنى كأنها صلاة من أجل إنقاذ المعنى من السقوط النهائي. هذا ما جعل المخرج المجري الكبير بيلا تار (Béla Tarr) — الذي حوّل رواياته إلى أفلام عظيمة مثل ساتانتانغو وتورينغ هورس — يقول: “لا أحد يكتب مثل كراسناهوركاي، لأن العالم عنده يُصنع بالكلمات قبل أن يُصوَّر بالعين.”

في رواياته، لا يمكن فصل الإيقاع عن الفكرة. جُمله الطويلة التي تتدفق بلا توقف تجسّد ما يسميه النقاد زمن السقوط البطيء، حيث اللغة تمسك بالعالم وهو ينهار، محاولةً تأجيل النهاية.

هكذا تصبح الكتابة فعلًا وجوديًا خالصًا — ليست ترفًا جماليًا، بل طريقة للنجاة. يكتب ليبقى، ليقول إن اللغة هي آخر شكل من أشكال المقاومة، وإن الخلاص قد لا يكون في الحقيقة، بل في الجمال القادر على تحمّلها 
من الأدب إلى السينما 

الانتقال من صفحة كراسناهوركاي إلى شاشة بيلا تار ليس اقتباسًا بالمعنى التقليدي، بل ترجمة وجودية لنغمةٍ في العالم.

منذ أن تحوّلت روايته «ساتانتانغو» إلى فيلمٍ يمتد أكثر من سبع ساعات، بدأ النقاد يتحدثون عن ولادة مدرسة فنية جديدة تُعرف باسم سينما الخراب أو جماليات البطء.

بيلا تار لم يُخرج الرواية، بل أعاد تجسيدها زمنيًا. في الرواية، الزمن يدور كرقصةٍ شيطانية؛ في الفيلم، يتحول إلى حركة بطيئة تُجبر المُشاهد على اختبار الثقل نفسه الذي يعيشه أبطال كراسناهوركاي. اللقطة الطويلة في أفلامه ليست ترفًا جماليًا، بل موقفٌ فلسفي ضد التسارع الحديث — كما كانت جمل كراسناهوركاي الطويلة احتجاجًا ضد اللغة السريعة الفارغة.

ثم جاءت «ميلانكوليا المقاومة» لتتحول إلى فيلم «حاصور الرجل من تورينغ» (The Turin Horse)، أحد أكثر أفلام القرن الواحد والعشرين كآبةً وبهاءً.

الفيلم يبدأ بحصان يرفض السير، وينتهي بانطفاء الضوء في العالم.

هي ليست حكاية بل نهاية الخلق. الضوء ينطفئ فعليًا، والموسيقى تتوقف، كأن الفن نفسه يُغلق أبوابه أمام عبث البشر.

هكذا يتحد كراسناهوركاي وبيلا تار في فكرة واحدة: أن الخراب ليس حدثًا بل مصير، وأن الجمال هو الطريقة الوحيدة لاحتماله.

السينما عند بيلا تار لا تشرح الأدب، بل تكمّله. ما تفعله الكاميرا هو ما تفعله اللغة في روايات كراسناهوركاي:

تجعلنا نرى البطء، نحسّ الثقل، نعيش الصمت بوصفه اللغة الأخيرة للوجود.

إن علاقة كراسناهوركاي بالسينما هي برهانٌ على أن الأدب لا يموت حين يُترجَم، بل يتحوّل — من الكلمات إلى الضوء، من الجملة الطويلة إلى اللقطة الممتدة، من مقاومة المعنى إلى مقاومة النسيان
صعوبة التصنيف الأدبي.

يصعب أن نضع لاسلو كراسناهوركاي في خانة أدبية محددة. هو ليس كاتبًا واقعيًا، ولا حداثيًا، ولا تمامًا ما بعد حداثي. إنه كاتب بين العصور، كأن نصوصه تمشي على جسرٍ من الرماد بين الكلاسيكية والخراب.

من جهة، تمتلك رواياته عمقًا فلسفيًا وجوديًا يجعل النقاد يقارنونه بكافكا وبيكيت، ومن جهة أخرى، تحمل بُعدًا رؤيويًا أقرب إلى أساطير دوستويفسكي أو رؤى فالتر بنيامين. لكنه لا يشبه أحدًا في النهاية.

كتابته تتجاوز التجريب الشكلي إلى تجريب الوعي نفسه:

لا يغيّر شكل الجملة فحسب، بل يغيّر طريقة إدراكنا للعالم داخل الجملة.

هو يكتب كما لو أن اللغة نفسها مريضة بالعالم، فتسعل وتختنق وتستعيد أنفاسها.

كراسناهوركاي أيضًا كاتب ما بعد الشمولية، لكنه يرفض الكتابة السياسية المباشرة.

لم يكتب عن المجر بوصفها بلدًا، بل كرمز لإنسانٍ يعيش تحت ثقل نظامٍ عالمي خانق، سياسيًا واقتصاديًا وروحيًا.

يمكن قراءته ككاتب عبثي، لكن عبثه مشبع بالأمل الخفي في أن ينجو الإنسان بالكتابة.

ويمكن قراءته ككاتب ديني غنوصي، لكن دون إيمانٍ مؤسسي أو خلاصٍ تقليدي.

لهذا ظلّ النقاد حائرين أمامه:

هل هو آخر أبناء كافكا؟ أم وريث تولستوي في صبره الوجودي؟ أم ناسكٌ مجريٌّ يكتب من كهف اللغة؟

الحقيقة أنه كل ذلك معًا — ثم شيءٌ أبعد: هو صوت الإنسان حين يفقد يقينه، لكنه ما زال يكتب كي يتذكر أنه كان يومًا حيًّا

فوز لاسلو كراسناهوركاي بجائزة نوبل هو إعلان رمزي لانتصار البطء على التسارع، والعمق على اللمعة، والمعنى على الضجيج. في زمنٍ صار الأدب فيه منتجًا سريع الهضم — مُعلَّبًا، مصقولًا، مُعدًّا للتصدير — يأتي كاتب مجري صعب، غامض، عنيد، ليذكّرنا أن الأدب الحقيقي لا يُقرأ على العجلة، بل يُعاش.

كراسناهوركاي يكتب ضد السوق، ضد المنصات التي تطلب “قراءة خفيفة قبل النوم”، وضد ثقافة “الاقتباس السريع” التي اختزلت النصوص إلى جملٍ قابلة للتداول. يكتب ليعيد إلى الكتابة وظيفتها الأولى: أن تزعج، أن تُفكِّر، أن تَخلعنا من أماكننا المريحة.

هو لا يقدّم الحكاية بوصفها تسلية، بل تجربة وجودية. لا يريد القارئ المستريح، بل الشريك في التيه. ولهذا، فإن فوزه ليس تكريمًا لشخصه بقدر ما هو إشارة إلى أن الأدب العميق لم يمت بعد، وأنّ العالم — رغم سرعته الجنونية — ما زال يلتفت أحيانًا نحو الكتابة التي تجرؤ على التوقّف.

في مواجهة الأدب المعلّب، تظلّ كتابة كراسناهوركاي شكلًا من أشكال المقاومة الروحية.

إنه الكاتب الذي يذكّرنا أن الجملة يمكن أن تكون قدرًا، وأن البطء — في زمن السرعة — هو فعل تمرّد

أخبار الساعة

الاكثر قراءة