الأحد 9 نوفمبر 2025

مقالات

وفاء خبيث

  • 9-11-2025 | 14:42
طباعة

في حياتنا تُظلم أشياء كثيرة، تُتهم بما ليس فيها، ويُساء فهمها، فقط لأننا لا نُحسن النظر بعين الإنصاف، نستهزئ أحياناً ببراءة، فنصف الشخص الدنيء بالكلب، رغم أن الكلب هو أصدق الكائنات وفاء.

ونرمي الغبي بتشبيه الحمار، رغم أنه من أكثر المخلوقات صبراً واتزاناً، يعيش في سلام لا يعتدي ولا يخطئ في حق أحد، نحن من نظلمه، كما نظلم أنفسنا، ولكن أقسى أنواع الظلم، حين يتحول المرض إلى متهم، بينما هو في الحقيقة عاشق مهووس، جاء ليقول بطريقته إنه لا يريد فراقك.

ذلك الخبيث الذي يزحف بصمت إلى جسدك، ثم يتملكك شيئا فشيئاً، لا يرحل مهما طردته، ولا يتعب مهما حاربته، حين يظهر في حياتك، يعلن نفسه بوضوح،  لا يخفي نواياه، ولا يتجمل، هو صريح عنيد، يرفض الغياب، يحبك بطريقته الغريبة المؤلمة، لكنه صادق في حضوره.

تقاتله بكل ما أوتيت من سلاح كيماوي، إشعاع، وأدوية تقسو على كل ما هو حي داخلك، لكنه يظل هناك لا يهرب، لا ينتقم، فقط يتمسك بك كطفل خائف من الفقد.

ربما لهذا، بدا لي أكثر وفاء من كثيرين.

في الأعياد والمناسبات، يجتمع الأهل والأصدقاء حول الفرح، ويتفادون عينيك لئلا يفسد وجعك بهجتهم، لكن هذا الخبيث لا يتركك وحيداً، هو لا يعرف مواعيد الفرح، ولا يُجيد الاختفاء.

يبقى معك في الصمت، في الليل الطويل، في الغرفة البيضاء الباردة حيث يُمنع الزائرون، هو لا يحتمل أن يشاركك أحد، يحبك أن تكون له وحده، حتى في الألم، لا يسمح لشريك أن يشارككما اللحظة.

وحين تضيق أنفاسك، تجده أول من يواسيك، لا ينام قبل أن تطمئن، ولا يهدأ إلا إذا شعر أنك استسلمت قليلاً للراحة.

أحياناً أسمع صوته بداخلي، كأنه يريد أن يتحدث، كأنه يخاف أن أنساه، هو لا يحتمل صمتي، إنها علاقة غريبة، كعلاقة قابيل وهابيل فيها حب وقتل، قرب وهروب، حنين ممزوج بالخلاص.

أسمي نفسي محارباً وهو لا سلاح له فقط يعيش في داخلي، يختبئ بين خلاياي، كطفل مذعور من النهاية، ورغم أني أقاتله بكل ما أملك، أشعر أحيانا بالشفقة عليه، فهل يُعقل أن نحارب ما خلق منا؟ لكن هذا هو القدر، نقاتل ولا نعلم من الفائز في النهاية ولكن نثق في رحمة الله.

ورغم كل هذا الوجع، ما زلت أتعلم من الخبيث دروساً في الحياة، علمني أن الوقت أغلى مما نظن، وأن ضحكة اليوم قد لا تتكرر غداً، وأننا لا نملك سوى لحظتنا، فلا نؤجلها خوفاً من شيء قادم.

علمني أن الحب الحقيقي لا يقاس بالبقاء، بل بالصدق حتى لو كان قاتلاً، وأن أقسى من المرض هو أن تشعر أنك وحيداً في معركتك.

أحياناً أغمض عيني، لا خوفاً منه، بل شكراً له، لأنه جعلني أرى من يحبني حقاً ومن كان وجوده عابراً مرهون بمصلحة.

أصبحت لا أكره السرطان، صرت أكره الزيف، فالخبيث لم يكذب يوماً أما البشر فدائماً يفعلون و يتجملون.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة