كشف تقرير حديث صادر عن مركز أبحاث "إيد داتا" التابع لجامعة ويليام وماري بولاية فيرجينيا، أن الولايات المتحدة كانت أكبر متلقٍ عالمي لتمويلات الجهات الحكومية الصينية خلال العقدين الماضيين، رغم سنوات من التحذيرات الامريكية للدول بشأن مخاطر الاقتراض من بكين.
وأضاف التقرير، الذي يُعدّ أضخم قاعدة بيانات عامة حول القروض الصينية الخارجية حتى الآن وفق ما نشرته صحيفة (نيويورك تايمز) الأمريكية عبر موقعها الإلكتروني، أن الكيانات الحكومية أو شبه الحكومية الصينية قدّمت قروضاً ومنحاً بقيمة 2.2 تريليون دولار موزّعة على أكثر من 200 دولة بين عامي 2000 و2023.
ويُفنّد هذا الكشف الاعتقاد السائد بأن التمويل الصيني يتركّز بشكل أساسي في الدول النامية عبر مبادرة "الحزام والطريق" التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينج؛ إذ أظهر التقرير أن أكثر من 75% من الإقراض الخارجي للصين يذهب اليوم إلى دول ذات دخل مرتفع أو متوسط مرتفع، ويستخدم غالباً في البنية التحتية الحيوية والمعادن الاستراتيجية والاستحواذ على أصول تكنولوجية حساسة تُعد جزءاً من أهداف الأمن القومي الصيني.
وقال برادلي باركس، المدير التنفيذي لمركز أبحاث "إيد داتا "، إن الولايات المتحدة وحلفاءها في العالم الصناعي الثري "سمحوا للدائنين الصينيين بتمويل أصول بنية تحتية حساسة داخل بلدانهم، وتمويل الاستحواذ على معادن استراتيجية، واستخدام القروض لشراء أبرز الأصول التكنولوجية".
وأضاف أن واشنطن أمضت معظم العقد الماضي في تحذير الدول من "الإقراض الجائر" الصيني، معتبرةً أن بكين قد تسعى للسيطرة على أصول الدول المتعثرة في اتهام تنفيه الصين، فيما يرى بعض المحللين أن سردية "فخ الديون" مبالغ فيها.
ووفقاً للتقرير، كانت الولايات المتحدة أكبر دولة متلقية لتمويلات القطاع الرسمي الصيني، إذ حصلت على أكثر من 200 مليار دولار لتمويل نحو 2,500 مشروع ونشاط موجودة تقريباً في مختلف الولايات الامريكية .
وأشار التقرير إلى أن أكثر من نصف هذا التمويل جاء على شكل دعم سيولة للشركات الامريكية ، حيث شاركت البنوك الصينية—ضمن تحالفات تمويلية تضم مؤسسات دولية أخرى—في توفير خطوط ائتمان لشركات تحتاج إلى سيولة.
ومع تصاعد التدقيق التنظيمي في الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة، خصوصاً في القطاعات الحساسة، لجأت الكيانات الصينية إلى دول أخرى ذات دخل مرتفع وتدقيق أقل صرامة، مثل المملكة المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي.
وقد تلقّت المملكة المتحدة 60 مليار دولار، بينما حصلت دول الاتحاد الأوروبي مجتمعةً على 161 مليار دولار خلال الفترة ذاتها.
وأشار باركس إلى أن جزءاً كبيراً من هذه القروض "يهدف إلى تحقيق الأرباح، وليس بالضرورة إلى تنفيذ استراتيجية جيوسياسية واسعة"، مذكّراً بأن القطاع المالي الصيني تهيمن عليه الدولة.
ويؤكد التقرير أيضاً أن هذا الإقراض للصين في الدول الغنية يأتي في وقت تزايدت فيه التحذيرات في الولايات المتحدة وبريطانيا وأوروبا بشأن مخاطر الاستثمار الصيني في البنية التحتية الحساسة والأصول التكنولوجية خلال السنوات الأخيرة.
وأكد باحثون أن أنشطة الإقراض الخارجي للصين باتت مرتبطة بشكل متزايد بأولويات الحكومة والحزب الحاكم، بما في ذلك ما يتعلق بالأمن القومي والاستراتيجيات الاقتصادية.
وأشار التقرير إلى أن مبادرة "صُنع في الصين 2025" لعبت دوراً محورياً في توجيه هذه القروض، إذ تهدف هذه الخطة التي أُطلقت عام 2015 إلى تعزيز تقدم الصين في التقنيات المتقدمة، لا سيما في القطاعات الاستراتيجية مثل، الروبوتات والأتمتة؛ والطيران والفضاء؛ والحوسبة والتقنيات الرقمية؛ ما يشير إلى أن الصين لم تعد تقتصر في تمويل مشاريع خارجية على الربح المالي فقط، بل أصبحت أدوات التمويل مرتبطة مباشرة بأهدافها الاقتصادية والتكنولوجية والأمنية على مستوى الدولة.
وأوضح باركس، أن هناك تحوّل واضح في كيفية تعامل الحكومات الغربية مع استراتيجية الحكومة الصينية.
ووفق التقرير، فإن منافسي الصين في مجموعة الدول السبع الكبرى (G7) بدأوا إجراء تعديلات كبيرة كانت في السابق مستحيلة التخيل، مثل، تخفيض ميزانيات المساعدات الخارجية وتفكيك وكالات المعونة الأجنبية، وزيادة الإقراض العابر للحدود بشروط غير تفضيلية، وشراء حصص في أصول البنية التحتية الحيوية في الخارج؛ وفي الولايات المتحدة، فرضت إدارة ترامب الثانية تخفيضات ضخمة على برنامج المعونة الدولية الامريكية ، إلا أن هناك جهوداً حالياً لتوسيع ميزانية مؤسسة التمويل الدولي للتنمية الأميركية وزيادة قدرتها على تقديم القروض للدول مرتفعة الدخل.
وقال باركس "قبل فترة، كان نهج بكين في الإقراض الدولي وتقديم المنح مصدر سخرية أو استهزاء… ولم يكن يُنظر إليه كمصدر إلهام أو قدوة لصناع السياسات في مجموعة السبع، أما الآن فالوضع تغيّر تماماً — الولايات المتحدة وحلفاؤها أصبحوا مركزين بشكل كامل على منافسة الصين وفق أسلوبها نفسه".