في مساء يوم 25 نوفمبر 2021 ارتدت مدينة الأقصر ثوبها الفرعوني الأبهى، لتحتفل بإعادة إحياء واحد من أعظم ممرات الحضارة المصرية القديمة طريق الكباش، وبعد مرور أربع سنوات على هذا الحدث التاريخي، يبدو الطريق وكأنه استيقظ من سباتٍ طويل ليعيد للعالم جزءًا من بريق طيبة القديمة.
من دفاتر الزمن: تاريخ طريق الكباش
طريق الكباش، أو كما كان يُعرف قديمًا «طريق المواكب» أو «طريق الإله»، هو ممر بطول حوالي 2,700 متر يربط بين معبدي الأقصر والكرنك، وهو محاط بتماثيل الكباش — تماثيل أجسام أسود ورؤوس كبش — تمثل الإله «آمون»، إضافة إلى تماثيل أشبه بتماثيل أبو الهول برؤوس بشرية.
الأثر يمتد جذوره إلى الأسرة الـ 18 من الفراعنة، لكن الجزء الأكبر من التماثيل تم تشييده في عهد الملك «نختنبو الأول» في الأسرة 30 .
لكن الطريق لم يكن جميلًا وسلسًا طوال الوقت؛ فقد تعرض للدمار عبر قرون، خاصة عند غزو الفرس، وأجزاء كبيرة منه تهدَّمت، و خبراء الآثار قدروا أن حوالي 80٪ من التماثيل لم تكن موجودة بحالة سليمة قبل الترميم.
رحلة الكشف والاستعادة
قصة إحياء طريق الكباش هي قصة مثابرة علمية طويلة بدأت منذ منتصف القرن العشرين، ففي 1949م، اكتشف الأثري زكريا غنيم أول رأس من الكباش بالقرب من معبد الأقصر، ومن بعده، واصل الأثريون مثل الدكتور محمد عبد القادر في أواخر الخمسينيات بالقرن الماضي، والدكتور محمود عبد الرازق في الكشف عن أجزاء جديدة من الطريق.
وفي ثمانينيات القرن الماضي، أسس الدكتور محمد الصغير وحدة أثرية مخصصة لطريق الكباش، وبعد توقف طويل بسبب الأحداث السياسية، وعاد المشروع إلى الواجهة في 2017 م بتوجيه من الرئيس السيسي لإحياء الطريق، مع إزالة مبانٍ وشوارع كانت تعترض مساره، ثم جاءت لحظة الاحتفال: في ليلة إعادة الافتتاح، شهدت الأقصر احتفالية كرنفالية راقية، وإنارة خاصة، وتنسيقًا عبّر عن الفخامة والتاريخ، وعبر عن ذلك الفخر من القيادات الأثرية، وأشاد أحمد العربي، مدير آثار معبد الأقصر، بأن الترميم بأيدٍ مصرية خالصة أعاد الروح لطريق الكباش.
روح الأوبت ترجع من جديد
واحدة من أجمل النقاط التي تميز هذا الطريق أنه كان في الأصل مسرحًا لاحتفالات «عيد الأوبت» في مصر القديمة، العيد الذي كان يجمع ما بين «آمون رع» من الكرنك ومن ثم في موكب نحو معبد الأقصر، بتجسيد رمزي للقاء الآلهة وإعادة تجديد الحكم.
احتفالات عيد الأوبت في موسم الحصاد
وكان يُحتفل بـ «عيد الأوبت» سنويًا خلال موسم الحصاد في الحضارة المصرية القديمة ، وتُنقل فيه تماثيل آلهة آمون و«موت» و«خونسو» على زوارق كهنوتية في موكب ملوكي مزين برؤوس «كبش»، وكان الطريق يحتوي على أحواض زهور وقنوات للمياه لتزيين الطريق خلال الاحتفالات.
بعد 4 سنوات.. «طريق الكباش» مزار حضاري وسياحي
المشروع لم يكن مجرد ترميم آثار وإنما استراتيجية سياحية وثقافية: الطريق أصبح أحد أهم المزارات الأثرية في مصر، ويجذب زوارًا من داخل البلاد وخارجها، والجهود لم تقتصر على التماثيل فقط، لكنها شملت تطوير البنية التحتية في الأقصر — كورنيش، ميادين، إنارة، واجهات بصرية، بما يليق بطابع المدينة المصرية القديمة الأصيل، وعبّر بعض الأثريين عن أمانيهم بأن تصبح الاحتفالية السنوية بذكرى «عيدالأوبت» جزءًا من الأجندة الدولية للسياحة الثقافية.
نظرة من القلب: لماذا «طريق الحضارة» في طيبة؟
- رمز للتجديد.. طريق الكباش يمثل إعادة إعمار لجزء من الحضارة الفرعونية التي ظُلمت أو انطمرت عبر الزمن.
- جسر بين الماضي والحاضر.. ليس مجرد ممر حجري، لكنه مسار يحمل الماضي إلى الحاضر، ويجعل زوار الأقصر يشعرون وكأنهم يمشون بين آلهة الفراعنة.
- أداة سياحية وثقافية:.. من خلال الترميم والاحتفالات، أصبح الطريق ليس فقط موقعًا أثريًا، بلكنها أيضًا حدثًا سنويًا يُحتفى به، مما يدعم الاقتصاد المحلي ويزيد من جاذبية الأقصر كوجهة حضارية.
- إرث علمي.. جهود الأثريين عبر عقود تُجسد روح البحث والاهتمام بالتراث، وإحياء هذا الطريق هو تتويج لسلسلة من الاكتشافات والدراسات.
وبمناسبة هذه الذكرى، يمكننا القول إن طريق الكباش ليس مجرد طريق بالماضي، لكنها رسالة للحاضر والمستقبل، ورسالة أن الحضارة تستحق أن تُحفظ، أن تُروى، وأن تُحتفل بها دومًا «طيبة القديمة» الأقصر، ليست فقط مدينة على الخريطة، لكنها قلب ينبض بالحضارة، وطريق الكباش هو شريانها الأعرق.