مع اختتام اجتماع وزراء خارجية حلف شمال الأطلسي (الناتو) في بروكسل، وهى الاجتماع الاخير لهم فى عام اتسم بالمزيد من التصعيد والتوترات مع روسيا، واتساع دوائر الحرب في أوكرانيا، وزيادة الضغوط على القدرات الدفاعية الأوروبية، بالاضافة الى إجراء العديد من المناورات العسكرية برا وبحرا وجوا بمشاركة العديد من دول الحلف وإطلاق مبادرات تهدف الى تأمين الحدود الشرقية والشمالية للتحالف.
وجاء الاجتماع، الذي يمثل المحطة الوسطى بين قمة لاهاي 2025 والقمة المقبلة المقرر عقدها فى أنقرة فى يونيو 2026، ليضع إطارًا سياسيًا وعسكريًا جديدًا للعام المقبل، ويرسم مسارًا أوضح للقدرات الدفاعية المشتركة والتحضيرات الاستراتيجية في مواجهة التوترات المتصاعدة مع موسكو.
وخلال الاجتماعات ، أكد الأمين العام للحلف مارك روته أن روسيا لم تظهر أي مؤشر على التراجع عن نهجها، وتوافق الوزراء على أن عام 2026 قد يشهد مستوى أعلى من الاحتكاك، ما يفرض تعزيز جاهزية القوات المنتشرة على الجناح الشرقي وتطوير منظومات حديثة قادرة على الاستجابة السريعة.
ورغم تركيز الاجتماع على تقييم التطورات السياسية والعسكرية في نهاية العام، إلا أن وزراء الخارجية حاولوا رسم منحنى بعيد المدى للردع، يقوم على زيادة قدرات الجيوش الأوروبية وتقوية بنية الإنتاج الدفاعي، مع الاعتراف بأن وتيرة الحرب في أوكرانيا أصبحت أكثر شراسة مع اقتراب فصل الشتاء.
وأعاد الوزراء التأكيد على الالتزام بتحقيق هدف 5% من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق الدفاعي بحلول 2035، وهو الهدف الذي أصبح من أبرز مخرجات قمة لاهاي الأخيرة. وبحسب روته، فإن المسألة لا تتعلق بالأرقام بقدر ما تتعلق بالتحول النوعي في معدات الجيوش، وإعادة بناء مخزونات الذخائر، وتطوير قدرات الدفاع الجوي والصاروخي، ووضع الحلف في وضع يضمن الردع المبكر وليس مجرد الاستجابة المتأخرة لأي تهديد.
وفي السياق نفسه، شدد الوزراء على أن الدعم المقدم لأوكرانيا سيحتسب ضمن مسار هذا الهدف، في رسالة واضحة بأن أمن كييف جزء من أمن أوروبا والناتو، وأن استمرار الحرب لم يعد حدثًا منفصلًا عن أمن القارة.
وعقد وزراء الخارجية جلسة موسّعة لمجلس الناتو–أوكرانيا بحضور الممثل الأعلى للشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي كاجا كالاس، التي شددت على ضرورة تنسيق الجهود الدفاعية بين الاتحاد والناتو خلال 2026. وقدّم وزير الخارجية الأوكراني أندريه سيبيها عرضًا ميدانيًا للوضع على الجبهات، وركّز على الاحتياجات العاجلة من الدفاع الجوي والمدفعية والذخائر، إلى جانب تحديات البنية التحتية في ظل الشتاء القاسي.
ورحّب روته بجهود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للوصول إلى “سلام عادل”، لكنه أكد في الوقت ذاته أن الحلف لن يقلل من دعمه العسكري لأوكرانيا طالما استمرت روسيا في عملياتها.
على هامش الاجتماع، أعلنت ثلاث دول أوروبية وهى ألمانيا وبولندا والنرويج، عن حزمة دعم عسكري بقيمة 500 مليون دولار لصالح أوكرانيا، ضمن برنامج"بيرل" PURL الذي يسمح للدول الأوروبية بشراء معدات وسلاح أميركي لصالح كييف. وتأتي الخطوة لتؤكد أن أوروبا تتجه نحو تعزيز دورها في تمويل الحرب، بعد سنوات من الاعتماد على الدعم الأميركي.
واعتبر وزير الخارجية البولندي رادوسواف سيكورسكي أن الحزمة “دعوة مفتوحة لبقية الحلفاء للانضمام”، محذرًا من أن التأخر في توفير الذخائر والدفاعات الجوية قد يستغله الجيش الروسي لفرض وقائع جديدة خلال الشتاء.
أما المسؤولون الألمان فاعتبروا أن دعم أوكرانيا لم يعد مسألة طارئة، بل “التزامًا طويل الأمد”، بينما انتقد الأمين العام الأسبق للناتو أندرس فوغ راسموسن ما وصفه بـ“تردد بعض الدول الأوروبية” في تحمل أعباء أكبر.
وألقت المفاوضات الأخيرة بين واشنطن وموسكو في العاصمة الروسية بظلالها على اجتماع بروكسل، خاصة بعد الإعلان عن عدم تحقيق أي تقدم في مسار التهدئة أو الوصول لاتفاق أولي. وتخشى كييف، ومعها دول الحلف، من أن يؤدي هذا الانسداد إلى تصعيد روسي أكبر خلال الشتاء في محاولة لتحسين الوضع التفاوضي على الأرض.
وبحسب مصادر دبلوماسية، فإن روسيا تسعى للتفاوض من موقع قوة، بينما تدرك أوروبا أن استمرار الحرب يضغط عليها اقتصاديًا وأمنيًا، ما يجعل عام 2026 عامًا حاسمًا في مسار الصراع.
وخلص إجتماع وزراء خارجية الناتو إلى عدة رسائل أساسية ترسم ملامح استراتيجية الناتو للعام المقبل: أولا ، تعزيز الإنتاج الدفاعي الأوروبي بشكل يتناسب مع حرب طويلة وليس مجرد أزمات قصيرة، وثانيا رفع جاهزية قوات الحلف على الجناح الشرقي وتوسيع انتشار المعدات الحديثة، بالاضافة الى توسيع برامج الدفاع الجوي والصاروخي المشترك، خاصة بعد تزايد الانتهاكات الروسية للأجواء الأوروبية.
وأكد الاجتماع أيضا على ضرورو مقاومة التهديدات الهجينة، سواء في الفضاء الإلكتروني أو عبر الأنشطة السرية، وتحويل دعم أوكرانيا إلى التزام مندمج داخل خطط الناتو طويلة الأمد وليس مجرد مساعدات ظرفية.
مع انتهاء آخر اجتماع لوزراء خارجية الناتو هذا العام، يتضح أن الحلف يدخل عام 2026 بمعادلة مختلفة؛ فالحرب في أوكرانيا مستمرة بلا أفق زمني، ودور أوروبا يتعاظم، والردع أصبح أولوية استراتيجية تتجاوز الدفاع التقليدي. وبين تعزيز الإنفاق العسكري، وتكثيف الدعم لكييف، والاستعداد لمواجهة روسيا في مسار طويل الأمد، يبدو أن الحلف يقف أمام سنة مفصلية ستحدد الكثير من ملامح الأمن الأوروبي لعقود مقبلة.