على رمال تل العمارنة، وفي عام 1912، لم يكن الكشف عن تمثال الملكة نفرتيتي الأسطوري مجرد اكتشاف أثري عابر؛ بل كان إعلانًا صارخًا عن استمرار المعركة الأزلية بين مصر ومن حاول عبر العصور نهب ذاكرتها وسرقة روحها. فمنذ فجر التاريخ، كانت مصر تواجه تحديًا متكررًا: خطر سرقة ونهب آثارها. لم يكن الغبار على الأهرامات قط مجرد أثر للزمن، بل همس الماضي وجرح الهوية المصرية. لقد أدرك الفراعنة أنفسهم خطورة هذه السرقات، فابتكروا "الخبيئات الملكية"، مثل خبيئة الدير البحري والكرنك، كحلول عبقرية لحماية هويتهم وجمالهم من عبث العابثين. ومع مرور العصور، تطورت أساليب النهب؛ من غارات اللصوص القدامى، مرورًا بالحملة الفرنسية، وصولًا إلى عصر محمد علي حيث كانت تُهدى متاحف كاملة كهدايا سياسية. ولم يقتصر الأمر على الماضي البعيد، فقد أُقيم نظام "مناصفة" الآثار مع البعثات الأجنبية، والذي لم يكن في كثير من الأحيان سوى نهب منظّم، تطور لاحقًا ليشمل التهريب المستتر عبر "الحقائب الدبلوماسية" التي وفرت غطاءً حصينًا لعمليات الخروج غير المشروع للكنوز، حتى امتلأت متاحف العالم – من المتروبوليتان إلى اللوفر والمتحف البريطاني – بكنوز مصرية سُلبت بالخديعة أو القسر.
وفي هذا الإطار، لم تكن قضية رأس نفرتيتي مجرد حادثة معزولة، بل كانت النموذج الأبرز لهذه المعركة. فخروج الرأس من مصر لم يكن مجرد تهريب، بل كان عملية خداع فني ودبلوماسي متقن. في عام 1913، اجتمع الأثري الألماني لودفيغ بورشارت مع المفتش الفرنسي جوستاف لوفيفر على طاولة القسمة الرسمية، حيث تم تسجيل الرأس الأسطوري على أنه "تمثال جبسي لأميرة" بلا قيمة تُذكر. لقد مارس بورشارت ما يمكن تسميته اليوم "إخفاء الحقيقة كأداة قوة"، في زمن آمن بأن الشرق لا يملك الوعي الكافي لحماية تاريخه، ليظهر التمثال للعالم لاحقًا في عام 1924. وعلى مدار قرن، واجهت مصر جدارًا من الرفض الألماني والحجج القانونية المعقدة، لكن الحقيقة التي لا لبس فيها هي أن مصر – حتى في لحظات ضعفها – كانت تملك وعيًا شعبيًا وجماليًا يرفض التفريط في الذاكرة.
ظلت إدارة الآثار تحت سيطرة أجنبية حتى صدور قانون حماية الآثار عام 1953، ليأتي تمصير مصلحة الآثار بعد ثورة 23 يوليو 1952 بإرادة حاسمة لاسترداد الحق. أصبح مصطفى بك عامر أول مدير مصري للآثار (1953-1956)، ليواجه تحديات جسيمة أمام سطوة البعثات الأجنبية. واستمرت التجارة "المرخصة" للآثار حتى صدور قانون حماية الآثار عام 1983، مما خلق بيئة خصبة للتهريب، تجلت في قضايا مدوية مثل كشف عصابة لندن - القاهرة. لقد أثبتت مصر أن معركة الاسترداد هي معركة هوية وإرادة ترفض التفريط في الذاكرة.
اليوم، تغير المشهد جذريًا. فالتاريخ الذي كان يتحرك ببطء، بدأ يتحرك بسرعة التكنولوجيا. لقد دخل الذكاء الاصطناعي ميدان حماية الآثار ليس باعتباره تقنية فقط، بل باعتباره حارسًا جديدًا لذاكرة المصريين. صارت الخريطة الرقمية للآثار أكثر دقة من خرائط القرن الماضي كله. تُسجَّل كل قطعة ببصمة ثلاثية الأبعاد، ويصبح من المستحيل تزوير نسبها أو تمريرها عبر حدود غير شرعية دون أن ترصدها قواعد البيانات الدولية. بل إن برامج التعلّم العميق باتت قادرة على مطابقة الشظايا المبعثرة عبر العالم، كأنها تجمع أجزاء حكاية تناثرت على مدى الزمن.
المتحف المصري الكبير ليس مجرد صرح معماري، بل إعلان ثقافي بأن مصر التي أنجبت نفرتيتي لا تكتفي بحماية الماضي، بل تخلق مستقبلاً يليق به. لقد صُممت قاعاته لاستقبال القطع الملكية – بمعامل ترميمها المتطورة، وأنظمة العرض الذكية – لتقدم منطقًا جديدًا لإدارة الذاكرة المصرية. كما أن المتاحف الإقليمية تمثل حماية حقيقية من التكديس، فكل قطعة تنتقل إلى الضوء تخرج من دائرة الخطر.
وإذا كانت التكنولوجيا تمنح التراث أدوات جديدة للحماية، فإنها تمنح قضية نفرتيتي صوتًا كان غائبًا. اليوم يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يعيد بناء وجهها ثلاثي الأبعاد بدقة مذهلة، أن يقدّر حجم الألوان الأصلية، بل وأن يعيد حنجرتها في محاكاة صوتية. وكأن التقنية – في مفارقة كبرى – تعيد إلى رأسٍ صامت قدرةً على الكلام، لتقول للعالم بوضوح: "أريد العودة إلى وطني".
ولترسيخ هذا النهج المعتمد على الإرادة والتكنولوجيا، بات لزامًا على مصر أن تستكمل الرقمنة الشاملة لجميع القطع وربط المتاحف الإقليمية بقواعد بيانات موحّدة وآمنة، لإنشاء حصن رقمي منيع. كما يجب تعزيز الشراكات الاستراتيجية مع الإنتربول واليونسكو، وتوظيف الذكاء الاصطناعي لمراقبة أسواق الفن العالمية وكشف القطع المهربة. والأهم من كل هذا، هو رفع الوعي المجتمعي بأن حماية الأثر ليست مسؤولية جهة واحدة، بل مسؤولية مجتمع يعرف أنه لا مستقبل له بلا ذاكرة.
ليست قصة نفرتيتي مجرد نزاع أثري، بل حكاية العدالة والهوية؛ قطعة تعيد نفسها عبر التكنولوجيا، وذاكرة تجد طريقها إلى البيت. عندما تعود الملكة إلى المتحف الكبير، ستعود معها روح مصر القديمة التي لم تعرف الانكسار، وجيل جديد يؤمن بأن الحضارة ليست مجرد ماضٍ نعرضه، بل حاضر نصنعه بإرادة وكرامة وحياة.
«لقد عادت الملكة إلى عرشها... وعادت مصر إلى ذاتها. إن الجمال، حين يكون أصيلاً، لا يفقد صوته حتى وإن ابتعد آلاف الكيلومترات، وسيجد طريقه إلى بيته؛ لأنه اليوم يمتلك حارسًا رقميًا يحميه وإرادة لا تعرف الانكسار.»