بقلم – أشرف غريب
قبل تسعين عاما من الآن شهدت مصر حدثا فنيا كبيرا شكل نقلة حضارية مهمة، وكان أحد الأسباب الحقيقية، التى كرست لقوة مصر الناعمة فى المنطقة العربية، ففى تلك السنة وبالتحديد فى السادس عشر من نوفمبر ١٩٢٧ استقبلت دار عرض متروبول بالقاهرة أول فيلم روائى طويل فى تاريخ السينما المصرية، التى قارب عدد أفلامها الآن على الخمسة آلاف فيلم.
نعم عرفت مصر أول عرض سينمائى مساء الخميس الخامس من نوفمبر ١٨٩٦ فى بورصة طوسون بالإسكندرية بعد نحو عام من العرض الأول فى العالم لسينما لوميير، الذى شهده «جراند كافيه” فى العاصمة الفرنسية باريس فى الثامن والعشرين من ديسمبر ١٨٩٥, وأول تصوير أجنبى فى مصر العام التالى مباشرة عن طريق سينما لوميير أيضا , وأول تصوير محلى فى مصر عام ١٩٠٧ عن طريق محلات عزيز ودوريس بالإسكندرية, كما عرفت مصر أول شركة إنتاج سينمائى سنة ١٩١٧ وهى الشركة الإيطالية «سينشيا” برأس مال يعادل عشرين ألف جنيه مصرى, وكذلك عرفت منذ عام ١٩١٩ مجموعة من الأفلام الروائية القصيرة مثل: مدام لوريتا, الخالة الأمريكانية, عزيز بك الفوضوى, خاتم سليمان أو خاتم الملك, الباشكاتب, وفيلم «فى بلاد توت عنخ أمون”، الذى أنتجه وأخرجه الإيطالى فيكتور روسيتو فى محاولة منه لتقديم فيلم روائى طويل, نعم عرفت مصر ذلك كله قبل عام ١٩٢٧ لكن ظهور فيلم «ليلى” الصامت فى تلك السنة لمنتجته وبطلته عزيزة أمير كان إيذانا ببداية عهد جديد عرفت مصر فيه صناعة السينما كإحدى الصناعات الثقيلة, وبدأ طلب الموزع الخارجى للمنتج السينمائى المصرى حتى أصبحت الصناعة الوحيدة التى تصدر إنتاجها بنسبة مائة فى المائة, بل وتكرار تصدير المنتج نفسه أكثر من مرة, ومعه زادت اللهجة المصرية انتشارا فى كافة الدول العربية وتركيا وإيران, وعرف جمهور هذه الدول جيدا فنانى وممثلى مصر خاصة بعد ظهور شريط الصوت ابتداء من عام ١٩٣٢, وباتت الحياة المصرية بكل مفرداتها وطقوسها أمرا مألوفا ومعتادا لدى أبناء المنطقة بأسرها بفضل الفيلم الروائى المصرى الطويل الذى بدأ مسيرته الناجحة بفيلم «ليلى” سنة ١٩٢٧.
ومن منطلق ذلك كله فإننى أدعو عبر «المصور” التى واكبت هذا المشوار الطويل منذ بدايته كل الجهات المعنية إلى الاحتفاء بهذا الحدث المهم, وإعطائه ما يستحق من الاهتمام والتقدير, وتسليط الضوء على تلك المسيرة ماضيها وحاضرها ومستقبلها واعتبار عام ٢٠١٧ كله عاما للاحتفال والاهتمام بالسينما المصرية كصناعة وفن ورسالة ودور فى تأكيد ريادة مصر وموقعها الحضارى فى المنطقة, وأخص بالتحديد الجهات التالية: وزارة الثقافة ممثلة فى صندوق التنمية الثقافية والمركز القومى للسينما ولجنة السينما بالمجلس الأعلى للثقافة والهيئة العامة لقصور الثقافة وإصدارات الهيئة المصرية العامة للكتاب والمعهد العالى للسينما, وكذلك غرفة صناعة السينما ونقابة السينمائيين والهيئة العامة للاستعلامات ومكتبة الإسكندرية, وأيضًا القنوات الفضائية المختلفة وخاصة السينمائية منها والمهرجانات السينمائية الكبرى فى مصر الدولية والقومية والخاصة, والمراكز والجمعيات ذات الصلة, فضلا عن بنك مصر باعتباره صاحب أول وأهم مؤسسة سينمائية كبرى وهى ستوديو مصر, فربما يكون فى الالتفاف حول هذا الحدث المهم فرصة سانحة لتحويل المناشدات المتتالية والاجتماعات المتكررة والأفكار المخلصة والنوايا الطيبة طوال السنوات الماضية إلى واقع ملموس وخطوات جادة تحفظ لهذه الصناعة الثقيلة ماضيها الناجح والمشرف, وتضمن لها مستقبلا أكثر نجاحا وتشريفا.
فماذا حدث فى ليلة السادس عشر من نوفمبر ١٩٢٧؟
مغامرة عزيزة أمير
فى تلك الليلة دعت الممثلة عزيزة أمير صاحبة شركة «إيزيس فيلم” وزوجها الوجيه أحمد الشريعى صفوة رجال المجتمع المصرى إلى دار سينما متروبول (كانت تقع فى أول شارع فؤاد من ناحية العتبة) لمشاهدة الحدث السينمائى الأهم فى هذه الفترة, إنه العرض التجارى الأول لفيلم “ليلى”، الذى بات بداية التأريخ الحقيقى لمسيرة السينما الروائية الطويلة فى مصر.. كان الحدث كبيرا, والنجاح مدويا, حتى أن أمير الشعراء أحمد شوقى وقف مهنئا عزيزة أمير بعد نهاية العرض, وقال لها: “أرجو أن أرى هذا الهلال ينمو حتى يصبح بدرا كاملا”، وقال لها طلعت حرب مؤسس بنك مصر وشركة مصر للتمثيل والسينما: “لقد حققت يا سيدتى ما لم يستطع الرجال أن يفعلوه”.
وفى ظل غياب نسخة فيلم ليلى فإن المصادر المكتوبة فى تلك الفترة تشير إلى أن قصة الفيلم تحكى عن الفتاة البدوية «ليلى”، التى تعيش فى إحدى الواحات بالقرب من منطقة الأهرامات، وقد توفى والداها فتولى رعايتها شيخ القبيلة، التى يعمل غالبيتها فى خدمة رؤوف بك أحد أثرياء الواحة, تهيم ليلى بحب أحمد الشاب البدوى، الذى تربت معه رغم مطاردة سالم لها طمعا فيها وفى جمالها, بينما يعمل أحمد الشاب الشهم كدليل للسائحين الأجانب، الذين يزورون المنطقة, تقع ليلة فى الخطيئة مع أحمد وتحمل منه قبل أن يختفى تمامًا بصحبة السائحة البرازيلية، التى توقعه فى شباكها, وعندئذ يعرف سالم بسرها, فيقوم بالتشهير بها فى الواحة, فينبذها أهلها عدا سلمى البدوية، التى تعطف عليها, لكن ليلى تقرر الخروج من الواحة هائمة على وجهها حتى تصدمها سيارة رؤوف بك الذى يقوم بإنقاذها والعطف عليها حتى تضع طفلها, ثم تموت متأثرة بمرضها.. هذا هو ملخص قصة الفيلم كما ذكره الفنان أحمد جلال لمجلة روز اليوسف فى العدد الصادر صباح اليوم التالى لعرض الفيلم أى السابع عشر من نوفمبر ١٩٢٧ باعتباره أيضًا أحد المشاركين فى تمثيله (قام بدور سالم) وواضعى بعض تفاصيله, لكن الغريب أن هناك صحفيا آخر اسمه أحمد صلاح الدين نديم ذكر فى مجلة الصباح – وفق كتاب تاريخ السينما فى مصر لأحمد الحضرى - عدد ٢٨ نوفمبر ١٩٢٧ أن ليلى تزوجت رؤوف بك وأنجبت له طفلة أخرى, وعاش الجميع حياة هانئة لتقترب الأحداث حسب هذه النهاية من رواية «فانى”، التى قدمتها السينما المصرية بعد ذلك فى معالجات كثيرة أشهرها فيلم «نغم فى حياتى» لهنرى بركات عام ١٩٧٥, وفيلم «توحيدة” لحسام الدين مصطفى العام التالى مباشرة.
ولكن من هى عزيزة أمير، التى أصبحت رائدة للسينما المصرية، والتى أخذت على عاتقها خوض غمار هذه المغامرة؟ اسمها الأصلى مفيدة محمد غنيم, من موليد دمياط فى ديسمبر ١٩٠١ , لم تكمل مراحلها التعليمية لكنها كانت ذات ثقافة واسعة وإتقان للغات الأجنبية, سافرت إلى أوربا وتعرفت على فن التمثيل, ثم عادت لتنضم إلى فرقة رمسيس فى موسم ١٩٢٤ - ١٩٢٥ حيث أطلق عليها يوسف وهبى صاحب الفرقة اسم عزيزة أمير, وأشركها فى مسرحية «الجاه المزيف”، وفى العام التالى انضمت إلى فرقة ترقية التمثيل وتزوجت من الوجيه أحمد الشريعى، الذى مول لها مشروعها الأهم وهوإنتاج فيلم «ليلى” الصامت, تزوجت عزيزة أمير بعد ذلك الممثل والمخرج محمود ذو الفقار, وقدمت عددا كبيرا من الأفلام من بينها: بنت النيل, كفرى عن خطيئتك, بسلامته عاوز يتجوز, بياعة التفاح, الورشة, نادية, وآمنت بالله الذى كان آخر أفلامها قبل وفاتها منذ خمسة وستين عاما بالتمام والكمال, وبالتحديد فى الثامن والعشرين من فبراير عام ١٩٥٢.
مؤامرات اليهود
ولم يكن مشوار عزيزة أمير سهلا لتحقيق حلم أول الأفلام الروائية الطويلة فى مصر, فقد مر المشروع بالكثير من المشاكل والعقبات كادت تعصف به, وبدأ الحديث عن الفيلم حينما اتفقت عزيزة أمير مع سينمائى تركى هو وداد عرفى على تأليف وإخراج وتمثيل فيلم بعنوان «نداء الله” عن رواية كان عرفى قد كتبها بالفرنسية والتركية, وبالمناسبة وداد عرفى هذا هو الرجل الذى كان قد أفنع يوسف وهبى قبل ذلك بعام بتقديم شخصية الرسول الكريم فى فيلم سينمائى من إخراجه قبل أن يلغى وهبى الفكرة على أثر الاعتراضات الشديدة التى واجهت المشروع, المهم أن تصوير « نداء الله بدأ بصحراء الهرم فى مارس ١٩٢٧, وانتهى بعد شهر تقريبا, وأقامت عزيزة أمير عرضا خاصا لما تم تصويره بدار سينما «يونيون” الكائنة عند تقاطع شارع عماد الدين مع شارع دوبريه (سليمان الحلبى حلبى حاليا) فى المكان الذى تشغله تقريبا سينما كوزموس الآن , فهالها ما رأت إذ فوجئت بأنه لا يزيد عن ١٦٠٠ متر أى حوالى ٨٧ دقيقة فقط, وعبارة عن مجموعة من المشاهد المفككة غير المفهومة, وغالبيتها ثابتة لا حركة فيها, فضلا عن أنها تسىء إلى الشعب المصرى وعاداته وتظهره على غير الصورة الحقيقية له, وعلى أثر ذلك قررت بطلة الفيلم ومنتجته استبعاد المخرج التركى لتبدأ سلسلة من الملاسنات والاتهامات المتبادلة بين الطرفين شهدتها صحافة تلك الفترة, ففى عدد مجلة الستار الصادر فى الثالث من أكتوبر ١٩٢٧ أكد وداد عرفى على أن السيدة عزيزة أمير وزوجها أحمد الشريعى لا يفهمان شيئا فى السينما, وأنه قام بتسليمها ١٦٠٠ متر هى أساس فيلمها الجديد, وأنه لم يكن مسئولا أو متحمسا للرقصة الشرقية التى قيل أنها تسىء لمصر , وأنه رضخ بناء على رغبة منتجة الفيلم, ثم قام باستبعادها بعد أن أبلغه السيد أحمد الشريعى بانها تسىء إلى سمعة مصر, ومضى عرفى قائلا:
“أما إذا كانت السيدة قد أرهقت نفسها فى المصاريف فيجب أن تذكر أنها اشترت لنفسها ملابس مختلفة, وأنها دفعت كثيرا فيما زادته على منزلها من أثاث ورياش كنا نستعملها فى أخذ المناظر.. كل هذا لا دخل له بالمصروفات الخاصة بالفيلم, بل هو خاص بها وبمنزلها, أما ما صرفته السيدة فهذا بيان به: ١٦٠٠ متر بحساب ١٢ قرشا للمتر فيكون المجموع يساوى ١٩٢ جنيها, مصاريف نثرية ومصاريف انتقال وكوداك وخلافه ٣٠ – ٤٠ جنيها, صور الواجهات الزجاجية ٤٥٠ قرشا, وما تبقى معى لحساب السيدة مبلغ عشرين جنيهًا صرفت منها ٨٨٠ قرشا بموجب فاتورة عندى أضعها تحت طلبها, والباقى هو كل ما تقاضيته منها عن عملى معها مدة الثلاثة أشهر, إذن يكون مجموع ما صرفته السيدة الفاضلة هو مبلغ ٢٥٠ جنيها أقامت لها الدنيا وأقعدتها, ويجب أن أذكر هنا ما دمنا فى معرض الحديث عن النقود أن السيدة لم تدفع مرتب السيدة الأمريكية بيلى فولرتون فاضطررت، أنا أن أقوم بهذا الواجب من جيبى الخاص, وهناك المصور المسكين، الذى لم تكن السيدة تصرف له غذاءه وهو يشتغل بكل جهد واجتهاد تحت حرارة الشمس المحرقة”.
وردت عزيزة أمير على وداد عرفى فى مجلة روز اليوسف فى ١٣/١٠/١٩٢٧ قائلة:
“كان وداد عرفى يقيم فى فندق, وكان يرهقه دفع نفقاته, فرأيت مبالغة فى إكرامه أن أنقله إلى منزلى, وفعلا أسكنته الدور الأسفل, وكنت أدفع ما كل يتطلبه من نفقات طعامه ثم أعطيه فوق ذلك نقودا لمصروفه الخاص, وكنت أدفع ثمن البوبينة (الفيلم الخام) أربعة عشر جنيها وأربعين قرشا حسب ما كان يطلب منى, ولكن من سوء حظه أن اضطررت مرة لشراء بعض الأشرطة، ولم يكن هو موجودا, فدهشت حينما طلب منى نفس المحل، الذى كان يشترى هو منه اثنى عشر جنيها فقط ثمن البوبينة».
واستمر التلاسن بين الطرفين حتى أن السيدة عزيزة أمير اتهمت وداد عرفى فى تصريحات لها بمجلة روز اليوسف فى ٢٧/١٠/١٩٢٧ بالشذوذ مع صديقه الممثل العراقى اليهودى يوسف ساسون أحد المشاركين بالفيلم قبل أن يتضح أن وداد عرفى هو الآخر يهودى.. وبالتوازى مع هذه المواجهات المحتدمة عكفت بطلة الفيلم ومنتجته على محاولة إصلاحه, فعهدت بهذه المهمة أولا إلى السيد حسن الهلباوى الذى فشل فى ذلك ولم يزد ما قام بتصويره عن مائة متر فى الوقت الذى أوعز فيه بعض الوشاة إلى ناظر الزراعة التى كان الهلباوى أحد موظفيها بأنه يمارس عملا غير عمله الأصلى ما اضطر الرجل إلى ترك الفيلم, وهنا استعانت عزيزة أمير بالممثل ستيفان روستى الذى كان قد شارك فى أوروبا فى بعض الأفلام السينمائية, وتمتع بخبرة طيبة فى هذا المجال, وبالفعل قام روستى بإخراج مشاهد جديدة وضع تفاصيلها بالاشتراك مع عزيزة أمير وزوجها أحمد الشريعى وكذلك أحمد جلال الذى كان يمارس الكتابة فى صحف دار الهلال قبل أن يتحول تماما إلى العمل السينمائى ويصبح صاحب واحد من أشهر ستوديوهات السينما المصرية, حتى تم الانتهاء من تصوير الفيلم وتقرر عرضه فى السادس عشر من نوفمبر ١٩٢٧ بعد حرب خفية مارسها أصحاب دور العرض اليهود ضد الفيلم, الأمر الذى دعا منتجته إلى الاتفاق مع صاحب سينما متروبول على تقاضى ٣٠ بالمائة من إيراد الفيلم على إلا يقل عن ٤٠٠ جنيه أسبوعيا, وبعد أسبعين تقريبا من عرض الفيلم وقع وداد عرفى الحجز على أيراد الفيلم مطالبا عزيزة أمير بتعويض قدره ٦٠٠٠ جنيه مدعيا أن رواية ليلى من تأليفه حسب ما جاء فى مجلة المصور بتاريخ ٩/١٢/١٩٢٧ قبل أن تعود المصور فى عددها الصادر بتاريخ ٢٣/١٢/١٩٢٧ لتشير إلى أن الصلح تم بين الطرفين, وقام عرفى بسحب أوراق القضية.
وهكذا ظهر إلى الوجود قبل تسعين عاما أول فيلم مصرى روائى طويل متغلبا على المشاكل والعقبات التى واجهته, إلا يستحق حدث كهذا الاحتفاء الذى يليق به؟
اللهم إنى قد نبهت.. وإننا لمنتظرون.
أشرف غريب
فريق عمل فيلم ليلى
إخراج: وداد عرفى واستيفان روستى
تأليف: وداد عرفى وآخرون
تصوير: توليو كابارينى وحسن الهلباوى
مونتاج: عزيزة أمير
أخذت المناظر فى: صحراء الهرم , مينا هاوس , فيللا إيزيس بمصر الجديدة , قشلاء الجيش الإنجليزى بميدان الإسماعيلية - التحرير حاليا (مكان مقر جامعة الدول العربية وفندق هيلتون القديم) النادى الأهلى بالجزيرة, وبعض شوارع القاهرة
تمثيل: عزيزة أمير, وداد عرفى, استيفان روستى, أحمد جلال, مارى منصور, بمبه كشر, محمود جبر, حسين فوزى, أليس لازار, أحمد الشريعى, جو ساسون, بيلى فولرتون, والطفلان سعد وبثينة.
العرض الأول: ١٦/١١/١٩٢٧ – سينما متروبول بالقاهرة