لم يكن الكانون مجرد قطعة حديد توقد بالفحم، بل كان دفء بيت كامل، وروح جدة تنبض بالحياة والحب.
صوته كان نقطة التقاء هادئة تجمع العائلة مهما فرقت بينهم الأيام، وما إن تشتعل النيران حتى يتغير البيت بالكامل، يصبح أدفأ وأهدأ وأقرب.
كانت رائحة الدخان الخفيف إعلانا صامتا عن بداية اللمة، كانت تجلس جدتي أمامه، ملفوفة بشال ثقيل أسود، ويضيء وجهها الأبيض وهج الجمر.
تضع حلة المحشي فوقه، ومع أول فقاعات تتصاعد من القدر، كنا ندرك أن يوم الجمعة قد بدأ، لم يكن الكانون أداة طهي فقط، بل كان شريكا في الحكايات، سمع حواديت ستي، وشهد خلافات صغيرة تنتهي بكلمة رضا، وضحكات تحلق في عنان السماء.
وفي أيام الغيط كنا نرافقها وهي تحمل سلة الخضار، كانت تتوقف قليلا عند الترعة وتشعل كانونا صغيرا أحضرته معها، نجلس حوله ننتظر البليلة حتى تنضج، وكان صوت غليانها موسيقى ريفية أصيلة.
للبليلة على الكانون نكهة لا يشبهها شيء، نكهة انتظار وحب ولمة، وللمحشي رائحة تعلن أن البيت عامر بالناس والضحك والقلوب الطيبة.
كانون ستي لم يكن يطهو فقط كان بيجمع، ويضم القلوب، ويصنع دفء وعمر من الذكريات، واليوم حين نستعيده، يأتينا وجع حنين ليس للفحم ولا للكانون، بل للوجوه التي كانت حوله، لضحكة ستي، وصوت أمي، وصياح طفل يلعب كرة تحت المطر، ورائحة طعام لم تتكرر.
تغير الزمن وتبدلت البيوت، واختفى الكانون، ولكن دفء ستي مازال يسكننا، كجمر هادئ فوق قدرة فول لا تنطفئ.
ما زلت أتذكر اللحظة التي كنت أضع فيها البستلة فوق الكانون، كان الاستحمام طقسا ملكيا، وبرغم ظهور الأجهزة الحديثة، ظلت حياة جدتي أكثر دفئا وحنانا.
كانت لمة إخوتي الخمسة في غرفة واحدة حول الكانون وأنا معاهم ننتظر قدر المحشي حتى ينضج أحن ذكرياتي، خصوصا السندويتشات التي كنا نخطفها بعجلة من شدة الجوع.
حتى الشاي كان بنكهة معلقة بالذاكرة، كأنه ممزوج برائحة الفحم والضحك، لست وحدي صاحب هذه الذكريات، فجيل السبعينات وما قبلهم هم أصحاب الحكاية الكبرى خصوصا في القرى.
ما زلت حتى الآن أسمع نداء الرجل الذي كان يمر تحت البيوت صارخا "وابور الجاز اعمـر"، رحلت جدتي، وبكى الكانون بعدها، لكن ذكرياته ما تزال تدفئنا كلما تذكرناه.