الجمعة 12 ديسمبر 2025

مقالات

الأحلامُ من نِعم الله!

  • 12-12-2025 | 13:58
طباعة

الأحلام في حياتنا كثيرةٌ كثرةُ أيام عمرنا فيها إلا أن هناك أحلامًا مدة حياتي ربما لا أنساها إذ تمثل لي حدثًا ربما يؤلمني إن وقع فعلًا، بل أبعد من ذلك فربما بكيتُ منها دموعًا فيها، وأكثر من ذلك وفي نادرها، ربما أحسستُ حرارتها فعلًا وأنا نائمٌ حتى وجدتُني مبللًا خديَّ منها واقعًا، فلما استفقتُ فزعًا منتبهًا على حرارتها تلك حمدتُ ربي من فوري أنه حُلم، حمدتُه رغم أنني لا زلت فزعًا، إلا أنه فزعٌ تشوبُه الفرحة وشيء من السكينة وهدوء الواقع كونه حُلمًا. فأراني أذكر ذلك الحُلم البعيد، والذي كُسرت فيه سِنّي الدائمة، وكنتُ قريب عهد بها؛ لأنني أُخبِرت بأن أسناني الدائمة إن كُسرت إحداها فإنها لن تعود ثانية كاللبن منها؛ فبكيت بكاءً شديدًا أحسست حرارته على خدي، وربما كان ذلك لحداثة سِني وخوفي مما أُلقي على مسامعي.

 

وأذكر مثل ذلك الحُلم الذي أكون فيه على شفا موقفٍ غير مشرفٍ وربما إثمٍ تعافه نفسي واقعًا وترفضه فأراني أبكي، أو أتأذى منه أذى بعيدًا متسائلًا: كيف لمثلي بمواطن السوء تلك؟! كيف سيراني الله؟! بل كيف سيراني الناس بعد عهدهم بي، وحسنِ ظنهم بي دومًا، ومزاحمتي لهم الصفوف الأولى في المساجد؟! كيف سأرفع رأسي بينهم بعد الآن؟! كيف لعينيّ مواجهة عيونهم في تواضعٍ وكبرياء؟! كيف وكيف؟! ثم أحمد الله حمدًا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه عندما أنتبه من فوري فزعًا مدركًا أنه حُلم، لأدرك رحمة الله بي أن أراني كيف يكون حالي في مواطن السوء حُلمًا لا واقعًا لأدرك رحمته بي وفضله عليّ واقعًا.

 

ولا أنسى أبدًا ذلك الحُلم البغيض إلى نفسي والذي يطاردني لاسيما كلما مَنّ الله عليَّ من فيض كرمه وفضله بنجاحٍ ما فأراني مازلت داخل لجنة الامتحان في الكلية والتوتر يسربلني، والخوف يتملكني فلا أكاد أذكر إجابة واحدة لسؤال، كيف ذلك وقد استذكرت دروسي على أكمل وجه، وبذلتُ في ذلك جهدي ووقتي؟! كيف أكون اصلًا في اختبارٍ وقد أنهيت اختباراتي بتفوق؟! ثم كيف أختبر أصلًا وأنا بالفعل حاصلٌ على درجة الماجستير؟! بل على الدكتوراه منذ سنوات؟! أسئلة تطاردني في دقائق هي مدة ذلك الحلم السمج الثقيل المتكرر ذيل كل نجاح، ثم أحمدُ الله أن كان ذلك حُلمًا، وأنه سبحانه قد مَنّ علي واقعًا من فضله وكرمه ثقةً وثباتًا وتفوقًا خلافَ ذلك الحلم. إلى غير ذلك من أحلامٍ كانت تزعجني ولم أستطع منها خلاصًا وفكاكًا إلا برحمة ربي لِيبلوني سبحانه أأشكرُ أم أكفُر؟! فحمدتُه سبحانه حمدًا كثيرًا كما ينبغي لوجهه وعظيم سلطانه.

 

وفي مقابل تلك الأحلام المزعجة هناك أحلام تسعد بها النفس دون رغبةٍ منها حينها في استيقاظٍ، وقد يتسرب إليها للحظةٍ أنها في حُلمٍ إلا أنها لا ترغب عنه تحولًا، مثل تلك الأحلام التي ترى فيها حبيبًا وعزيزًا وغاليًا عليك كتلك التي ترى فيها رسول الله وسط صحابته، أو تلك التي ترى فيها نفسك مصليًا خلفه، أو حتى مصليًا في أي مسجدٍ كان، أو قارئًا للقرآن، أو حتى على طاعةٍ مطلقًا وإحسان إلى آخره. مثل تلك الأحلام التي ترى فيها نفسك في أحسن حال ورغد من عيشها إلى آخره مما يسعدها. وهنا أذكر ذلك الحُلم الذي حلمتُه ذات قيلولةٍ منذ أكثر أكثر من عقدين من الزمان، ولم أُحدّثْ به أحدًا قطّ سوى زوجتي، وبعد أعوامٍ على زواجنا؛ إذ جاءني شخصٌ أحبُه حبًّا شديدًا وأرتاح له غير أنني لم أستطع تحديد هويته وشخصيته، وإذا به يناولني إناء لأشربه، قائلًا لي: هذا كله لك. دون أن يخبرني كُنه ما بداخله، فشربتُ، وإذا به لبنٌ حتى ارتويتُ تمامًا. غير أن الغريب في الأمر أنني أحسستُ ماديًّا بذلك اللبن وهو يشقّ طريقه في جَوْفي، والأغرب من ذلك كله تلك الراحة والسكينة والطمأنينة التي كنتُ عليها فور ذلك.

 

وبعيدًا عن أحلام النوم إلا أن أجملها عندي تلك التي أحلُمها وأنا في صحوي ويقظتي؛ فأحلّق ملءَ عينيّ إلى عنان السماء فأمتّع نفسي بما تشتهيه من متع الدنيا على اختلاف صورها، كل ذلك ملء جفوني وجوارحي وحواسّي رغم أنني أدرك أن ذلك محضُ سرابٍ، ورغم ذلك أهنأ وأسعد إذ أشبعتُ نفسي بما تشتهيه، وإن كنتُ في الأخير بعد كل حُلم من أحلام اليقظة أقول لنفسي وأذكرها دومًا وفي همسٍ تسمعه أذني فعلًا: السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، لأعود بعد تلك الرحلة الماتعة إلى واقعي والذي يشبه واقع الجميع.

 

لأدرك، وفي الأخير، أن من نِعم الله علينا، والتي لا تُعدّ ولا تُحصى، الأحلام؛ تُسرّي عن أنفسنا، وتُروّح عنها وتُسلّينا، نظفر فيها بما لم نستطعه ونعجز عن تحقيقه واقعًا، نرى فيها أنفسنا التي لا نرغبُها واقعًا مُمتنين لتلك التجربة، نسعد بمغامراتنا معها وتجاوزنا كلّ الحُجب والحواجز والأسوار والموانع، نخلع عندها عباءة الجِدّ والوقار، نلهو معها ونتشارك طيشَنا ونَزَقنا خِلسةً، نستأنس فيها بمَن اشتاقت نفوسُنا لِلُقياهم وحال واقعُنا دون ذلك، إلى غير ذلك من أحوالنا معها، وللناسِ في أحلامهم أحوالٌ وأهوالٌ.

الاكثر قراءة