ذكرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية، أن كل إدارة أمريكية جديدة تصل إلى البيت الأبيض تكون محملة برؤيتها الأيديولوجية الخاصة، وسرعان ما تنتج وثيقة تعبر عن تصورها للسياسة الأمنية الأمريكية.. وتأتي النسخة الأخيرة من استراتيجية الأمن القومي (NSS)، التي أصدرتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قبل أيام، امتدادا لهذا التقليد.
وأشارت المجلة إلى أن أهمية هذه الوثيقة ستكمن في مدى التزام الرئيس ترامب الفعلي بما ورد فيها والذي لا يزال غير واضح حتى الآن.
كما أن الوثيقة تشكل محطة مفصلية في تطور النقاش الداخلي بشأن دور الولايات المتحدة في العالم، وتعكس بوضوح رؤية حركة "اجعلوا أمريكا عظيمة مجددا" (MAGA).
وبالنسبة لآسيا، تقدم الوثيقة نافذة مهمة على كيفية تصور الإدارة الأمريكية الجديدة لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، وتعاملها مع التحالفات، وتقييمها للصين، وتصورها لدور واشنطن في حقبة التنافس الجيوسياسي.
وتظهر في الاستراتيجية سمات القومية الشعبوية التي يتبناها التيار اليميني الأمريكي؛ وهي مزيج من الانكفاء والحذر ورفض الطابع الأممي للسياسة الخارجية الأمريكية التقليدية، مع التأكيد على أن الاستراتيجية "غير قائمة على أيديولوجيا سياسية تقليدية"، بل تستهدف ما يخدم أمريكا أولا.
وفي حين قد يرحب كثيرون في العواصم الأجنبية بهذا التحول بوصفه تخفيفا للخطاب الوعظي الأمريكي، إلا أن تداعياته في آسيا أكثر تعقيدا.
وترى "فورين بوليسي" أن الاستراتيجية تحمل إشارات إيجابية وأخرى مقلقة لآسيا، فعلى الجانب الإيجابي، تضع الاستراتيجية الجديدة آسيا أو منطقة المحيطين الهندي والهادئ في قمة أولويات السياسة الخارجية الأمريكية بعد نصف الكرة الغربي.
ويتماشى هذا النهج مع إرث إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، ونسخة ترامب الأولى من "الهندي والهادئ الحر والمفتوح"، ثم استراتيجية الرئيس السابق جو بايدن تجاه المنطقة. ويبرز في الوثيقة تأكيد ثابت على منع هيمنة قوة واحدة على آسيا، وهو ما يطمئن العواصم القلقة من اتساع النفوذ الصيني.
ولفتت المجلة إلى أن الاستراتيجية تتجنب توجيه انتقادات لاذعة لآسيا على غرار تلك التي وجهتها لأوروبا، حين وصفتها بأنها غارقة في الترف والاعتماد على واشنطن.
وتملك آسيا -في رأي المجلة- ميزة أخرى بالنسبة لواشنطن بخلاف أوروبا، تتمثل في غياب مؤسسات إقليمية قوية (مثل الاتحاد الأوروبي)، ما يجعلها أكثر انسجاما مع رؤية "أمريكا أولا" القائمة على السيادة الوطنية والتعاون البراجماتي، حيث يلقى النهج البراجماتي الأمريكي صدى واسعا في آسيا، خصوصا لدى الحكومات المتوجسة من خطاب "النظام الدولي القائم على القواعد"، والذي طالما رأت فيه نوعا من الازدواجية.
لذلك، فإن تعامل ترامب مع الدبلوماسية باعتبارها سياسة تجارية يلقى قبولا لدى العديد من دول القارة الآسيوية. وقد أظهرت جولة ترامب الآسيوية الأخيرة استعداد العواصم الآسيوية لعقد صفقات معه بصورة تنافسية.
وتتمثل إيجابيات الاستراتيجية بالنسبة لآسيا أيضا في إقرار ترامب بالصين كقوة شبه ندية (منافس اقتصادي شرس وليس كتهديد وجودي كما كان في السابق)، وسعيه إلى علاقة اقتصادية "متبادلة المنفعة" معها، خاصة وأن العديد من الدول لا ترغب في الانجرار إلى حرب باردة جديدة، وتفضل علاقة أمريكية–صينية مستقرة تتيح لها الحفاظ على مصالحها وموازنة علاقاتها.
أما بالنسبة للمخاطر، ذكرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية أن الوثيقة الجديدة تثير جملة من المخاوف.
إذ تدرك دول آسيا أن الولايات المتحدة، رغم خطاب عدم التدخل، تملك دائمًا ميلا بنيويا إلى ممارسة النفوذ والتدخل بحكم قوتها، كما ظهر في تهديدات ترامب الأخيرة لبعض الدول.
كما أن البراجماتية الاقتصادية لترامب تتحول أحيانا -وفقا للمجلة- إلى ابتزاز مباشر، سواء عبر مطالبته اليابان وكوريا الجنوبية باستثمارات ضخمة، أو عبر الشروط القاسية في الاتفاقات التجارية مع ماليزيا وكمبوديا، وهو سلوك ينذر بتوترات أوسع مع القوى الآسيوية.
كما يثير تراجع واشنطن عن الدفاع عن "النظام القائم على القواعد" قلق الدول الصغيرة التي تعتمد على هذه القواعد لحماية سيادتها. فالموقف الأمريكي من أوكرانيا يشكل جرس إنذار بشأن مدى استعداد واشنطن لردع التوسع الصيني. كما أن تراجع الالتزام بالقيم الليبرالية يترك الحركات المدنية والديمقراطية في المنطقة أكثر عرضة للقمع.
ونبهت "فورين بوليسي" إلى أن الدعوة إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية مع الصين (في وثيقة استراتيجية الأمن القومي) تطرح سؤالا حول المقايضة المحتملة بين المصالح التجارية والالتزامات الأمنية، خاصة مع اتساع الهوة العسكرية بين بكين وواشنطن، الأمر الذي قد يدفع حلفاء أمريكا في آسيا إلى خيارات قصوى، مثل التفكير في القدرات النووية.
وأكدت المجلة الأمريكية أن تايوان تظل خط التصدع الجيوسياسي الأخطر ورغم الجدل حول اللغة الواردة في الاستراتيجية، إلا أنها لا تقدم وضوحا حول كيفية تصرف واشنطن حال اندلاع أزمة فعلية، خصوصا مع تزايد الغموض الاستراتيجي الأمريكي.
وختاما، وعلى عكس أوروبا، فإن آسيا تملك مساحة أكبر للتكيف مع التحولات الأمريكية، وإن كانت المخاطر التي تواجهها أعمق نظرا لحجم القوة الصينية، ما يؤشر إلى أن مستقبل الأمن الإقليمي سيعتمد على كيفية إدارة واشنطن لعلاقاتها المعقدة مع بكين وتوازنها بين المنافسة والتعاون، في الوقت الذي تحتاج فيه القارة إلى بناء استراتيجية الاعتماد على الذات، والمتمثلة في تعزيز قدراتها الوطنية، توسيع الشراكات، وبناء تحالفات مرنة؛ لاقتناص ما يمكن من المكاسب ضمن النظام العالمي الذي يتشكل حاليا في ضوء استراتيجية الأمن القومي الأمريكية الجديدة.