من بين فصول السنة الأربعة حَظِيَ الربيع باهتمام أهل الشعر والغناء، كونه الفصل الذي تزهر فيه الورود ويعتدل فيه الطقس، لذا سنجد عشرات الأغنيات التي تتغزل بالربيع مثل: “آدي الربيع عاد من تاني” لفريد الأطرش، “هليت يا ربيع” لمحمد عبد الوهاب، “غني الربيع بلسان الطير” لأم كلثوم، “الدنيا ربيع” لسعاد حسني. لكن مع الشتاء يبدو الأمر مختلفًا، فهذا فصل البرد والمطر، فكيف تعاطى معه أهل المغنى؟.
المثير للدهشة أنه بعد بحث شاق لم نتمكن من العثور على أغنية لكبار المطربين الذين تصدروا مشهد الغناء في القرن العشرين، تتحدث عن الشتاء، من أم كلثوم لمحمد عبد الوهاب، مرورًا بليلى مراد وأسمهان وعبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة وشادية وفايزة أحمد ووردة الجزائرية.
الأغنية المصرية بطابعها الشعري غارقة في المشاعر العاطفية من حب ولوعة وسهر وهجر وخصام، لكن الأمر يبدو مختلفًا مع فيروز والأخوين رحباني، فقد غنت فيروز للفصول الأربعة جميعًا، لكن الصيف معها كان له مكانة خاصة. على سبيل المثال غنت للفصول الأربعة في اللوحة الغنائية "القصة الكبيرة" التي سجلتها عام 1968 لإذاعة الأردن. غنت للخريف: "لا يدوم اغترابي لا غناء لنا يدوم، فإنهضي في غيابي واتبعيني إلى الكروم"، وللربيع: "معًا هنا أنا وأنتِ والجنى نعانق الفصول والغلال".
وللشتاء غنت: "أقول لطفلتي إذا الليل برد، وصمت الربى ربًا لا يُحد/ نصلي فأنتِ صغيرة وإن الصغار صلاتهم لا تُرد/ أقول لبيتنا إذا صرتُ وحدي/ وهبت ليالٍ بثلج وبرد/ ليالي وبيتي نار ويمضي الشتاء رفيقًا كغابة ورد". جميعها من أشعار وألحان الأخوين رحباني.
كان الفنان فريد الأطرش سابقًا لفيروز في الغناء للفصول الأربعة، حين غنى في العام 1949 في فيلم "عفريتة هانم" للمخرج أحمد بدرخان، ومن أشعار مأمون الشناوي أغنية "الربيع" التي حملت اسم "استعراض الفصول الأربعة". غنى فيه فريد للشتاء: "وآدي الشتا يا طول لياليه/ على اللي فاته حبيبه/ يناجي طيفه ويناديه/ ويشكي للكون تعذيبه". نلاحظ هنا أن فصل الشتاء ارتبط بهجر الحبيب، وهذا ما ستسير على منواله الغالبية العظمى من الأغاني التي تتناول فصل الشتاء.
"الفصول الأربعة" كان أيضًا عنوانًا لأغنية كتبها الشاعر عبد الرحيم منصور ولحنها بليغ حمدي، وغناها بمشاركة المطربة سوزان عطية في برنامج "جديد في جديد" عام 1979. الأغنية الفريدة من نوعها هذه خصص فيها عبد الرحيم منصور مقطعًا لكل فصل من فصول السنة، غنى بليغ الكوبليه الخاص بالشتاء الذي تقول كلماته: "رياح وموج وبرد بيهدوا أي حد/ لكن دمعه بيحيلك يمطر الخير يجيلك/ حبيب قاسي لكنه الخير بيجي منه".
فيروز ملكة الغناء للشتاء
لا يوجد مطرب أو مطربة غنيا للشتاء كما غنت فيروز. من أوائل الأعمال التي قدمتها فيروز للشتاء أغنية سجلتها عام 1955 خصيصًا للإذاعة المصرية تتناول فصل الشتاء "برد برد": "برد برد شتا وبرق ورعد / قرّبي النّارات قريبهن بعد / شوفي شوفي التلج كيف غطّى المرج / وشوفي العصافير ما عاد فيها تطير / خلف هالأمطار وبعد هالإعصارا / يا ترى الورد بيرجع يزهر بعد". الأغنية تتحدث عن الشتاء كظاهرة طبيعية تواجه الإنسان دون ربط الشتاء بقصة حب أو هجر حبيب، وهذا ما سنجده أيضًا في أغنية فيروز "شتي يا دنيا تا يزيد موسمنا ويحلى / وتدفق مي وزرع جديد بحلقتنا يعلى"، فهي أغنية للأرض والفلاحين، رغم مخاطبتها لحبيبها في مقاطع أخرى من الأغنية: "وانطرني ولا تبقي تفل وتتركني وحدي ع مطل / جمعتلك حرش زهور ياسمين منتور وفل / زهرة بإيد وقلبي بإيد ويا خوفي لاقيك بعيد".
في عام 1970 استعاد عاصي الرحباني واقعة حدثت بينه وبين فيروز أيام خطوبتهما في بداية الخمسينات، عندما أعطى فيروز موعدًا لتنتظره على الرصيف في الشارع وتأخر عليها وأمطرت السماء وهي تنتظره، وكلما اختلفا على أمر كانت تذكره بهذا الموقف، فقرر أن يخلده في أغنية، وكانت أغنية "حبيتك بالصيف" التي غنتها فيروز في مسرحية "يعيش يعيش". ورغم أن عنوان الأغنية يحمل اسم فصل الصيف إلا أن أحداث قصتها تدور في الشتاء كما تقول كلماتها: "بإيام البرد أيام الشتا والرصيف بحيرة والشارع غريق / تجي هاك البنت من بيتها العتيق / ويقلها انطريني وتنطر عالطريق / ويروح وينساها وتتبل بالشتي / حبيتك بالصيف حبيتك بالشتي / نطرتك بالصيف نطرتك بالشتي / وعيونك الصيف وعيوني الشتي / وملقانا يا حبيبي خلف الصيف وخلف الشتي".
عادت فيروز وقدمت أغنية جديدة للشتاء عام 1973 في مسرحية "المحطة" بعنوان "رجعت الشتوية". الأغنية فرِحة وإيقاعها راقص بعيد عن الحزن، تخاطب فيها فيروز حبيبها فتقول: "يا حبيبي الهوى مشاوير / وقصص الهوى متل العصافير / لا تحزن يا حبيبي إذا طارت العصافير / وغنية منسية ع دراج السهرية". جميع هذه الأغنيات من كلمات وألحان الأخوين رحباني.
في عام 1975 وضمن مسرحية "ميس الريم" غنت فيروز للشتاء من ألحان نجلها الفنان زياد الرحباني وكلمات الأخوين رحباني أغنية حملت عنوان "حبّوا بعضن" عن قصة حب محطمة تدور أحداثها في فصل الشتاء، لم تدم لأكثر من فصلي شتاء متتالين، تقول بعض كلماتها: "بلّشت القصة تحت الشتي بأول شتي حبّوا بعضن / وخلصت القصة بتاني شتي تركوا بعضن".
لفيروز أيضًا ترنيمة ميلادية مشهورة بعنوان "تلج تلج عم بتشتي الدني تلج"، سجلتها ثلاث مرات: مرة في الخمسينات، وأخرى في الستينات، والثالثة في الثمانينات، خاصة بميلاد المسيح.
الشتاء والبكاء على أطلال الحب
على العكس من الجيل القديم اهتمت الأجيال الجديدة من المطربين والمطربات بتقديم أغنيات عن الشتاء، وقد تمكّنا من إحصاء نحو ستة عشر أغنية للشتاء قُدمت خلال العقود الأربعة الأخيرة، لعل من أجملها أغنية الفنان علي الحجار "لما الشتا يدق البيبان" من كلمات الشاعر إبراهيم عبد الفتاح وألحان أحمد الحجار، وهي أغنية رقيقة بعيدة عن البكائيات على الأطلال، تقول بعض كلماتها: "لما الشتا يدق البيبان لما تناديني الذكريات / لما المطر يغسل شوارعنا القديمة والحارات / ألقاني جايلك فوق شفايفي بسمتي / كل الدروب التايهة تنده خطوتي / كل الليالي اللي في قمرها قلبي بات / مش جاي ألومك عاللي فات / ولا جاي أصحي الذكريات / لكني بحتاجلك ساعات لما الشتا يدق البيبان".
لا تقل عنها روعة أغنية الفنان محمد منير "الشتا" كلمات الشاعرة كوثر مصطفى وألحان حسين جابر، وهي أغنية إنسانية بديعة التعبير لا تتضمن حبًا مقهورًا أو مهزومًا، تقول بعض كلماتها: "بعد ما إدي وبعد ماخد / بعد ما هد وبنى واتحد شد لحاف الشتا من البرد / بعد ما لف وبعد ما دار / بعد ما هدى وبعد ما ثار / بعد ما داب واشتاق واحتار / حط الدبلة وحط الساعة / حط سجايره والولاعة / علّق حلمه على الشماعة / شد لحاف الشتا على جسمه / دحرج حلمه وهمه واسمه / دارى عيون عايزين بيتسمّوا / اللي قضى العمر هزار / واللي قضى العمر بجد / شد لحاف الشتا من البرد".
الفنان زياد رحباني قدم من كلماته وألحانه للمطربة لطيفة أغنية "دورت إيام الشتي" من ألبوم "معلومات مش أكيدة"، والأغنية كانت المطربة رونزا قد غنت مقطعًا منها في فيلم "نهلة" عام 1979 بكلمات تختلف بعض الشيء، الأغنية جاءت بمثابة مرثية للعمر والسنوات التي هربت، تقول كلماتها: "دروت إيام الشتي غير الشتي ما لقيت / بقيّوا يا اللي بقيوا وأنا اللي لوحدي بقيت / يا ريت هالعمر اللي هرب يرجع شو ما صار / ما بعود ياخدني العتب لا إزعل ولا غار / وحدي بقعد شعل حطب ووجهي بوجه النار / خدني معك يا حب شي مشوار / وعالسكت وشوشني أسرار أسرار / ضيعت من عمري إيام كتار".
تتفق موضوعات كل الأغاني الباقية تقريبًا عن الشتاء في البكائيات على الحب الضائع والحبيب الذي كان في حضن حبيبه الشتاء الماضي ثم هجره في الشتاء الجديد وحطم قلبه كما سنرى. مثلًا في قصيدة الشاعر نزار قباني "حبيبتي والمطر" لحنًا وغناءً لكاظم الساهر التي تقول أبياتها: "أخاف أن تمطر الدنيا ولست معي / فمنذ رحلت وعندي عقدة المطر / كان الشتاء يغطيني بمعطفه / فلا أفكر في برد ولا ضجر / والآن أجلس والأمطار تجلدني".
المطربة مي فاروق في أغنيتها "ورجعنا تاني للشتا" كلمات إبراهيم محمد ألحان محمدي لم تبتعد كثيرًا عن المعاني نفسها، حيث تقول: "ورجعنا تاني للشتا وذكرياتنا / رجع الحنين رجع السهر ورجعنا نسرح في الصور / ورجع يمر قصاد عنينا شريط حياتنا / ورجعنا تاني للأغاني ومج شاي فيه الدفا / والمشي أوقات المطر والضحك أوقات الصفا / ورجعنا نتخايل بناس ما بقوش معانا من الأساس".
لم تبتعد إليسا في أغنيتها "أواخر الشتا" كلمات نادر عبد الله ألحان تامر عن المضمون نفسه، غير أنها تلقي باللوم هنا على الدنيا وليس على الحبيب الذي هجر، حين تقول: "كنا في أواخر الشتا قبل اللي فات / زي اليومين دول عشنا مع بعض حكايات/ أنا كنت لما أحب أتونس معاه / أنا كنت باخد بعضي وأروحله من سكات / على سهوة ليه الدنيا بعد ما عشمتنا / وعيشتنا شوية رجعت موتتنا / والدنيا من يوميها يا قلبي عودتنا / لما بتدي حاجات قوام تاخد حاجات".
الأمر نفسه نجده في أغنية ديانا حداد إذ تقول كلماتها: "رجع الشتي والليل هب رياحه / رجع الشتي وينن يا اللي راحوا"، وأيضًا في أغنية ميريام فارس كلمات أحمد فودة ألحان محمد رحيم تقول فيها: "يا إيام الشتي هيدي أول سِنة بحاول بسهر ليليلة/ غايب صار له سِنة من هديك الشتوية".
أصالة كذلك تدور في الفلك نفسه في أغنيتها "اشتقتلك تحت المطر حنيتلك غصبًا عني" كلمات شموخ العقلا ألحان ياسر بوعلي، وحميد الشاعري في أغنيته "جيت يا شتا شايل معاك أسرار تحكي ع اللي صار" كلمات حسن الصيد ألحان حميد الشاعري.
والمطرب السعودي ماجد المهندس في أغنيته "الشتا يسأل”، والمطرب العماني سلطان المرشد في أغنيته: "هذا الشتا وهذا أنا باين علينا هالحنين". حتى في أحدث أغنيتين صدرتا عن الشتا خلال العام الجاري نجد الأمر نفسه مسيطرًا على كلمات وفكرة الأغنية، كما مع المطرب اللبناني فضل شاكر في أغنية "وطلت الشتوية" كلمات أحمد ماضي ألحان فضل شاكر التي يقول فيها: "وطلت الشتوية وجابت معها غيومها / طلعت الشتوية عم يلمعوا نجومها / ذكرتك يا حبيبي بعز الشتوية / يا ريتك يا حبيبي تجي وتطل عليا"، وأغنية محمود العسيلي "زعلان مني يا شتا ليه" من ألحانه وغنائه حيث يقول: "زعلان مني يا شتا ليه؟ / لما أنسى بتفكرني بيه / كل ما أقول خلصنا كل السكك تودي ليه / هو الفراق صاحبنا مش عاوز ليه يسبنا؟".
الفنانة دنيا سمير غانم في أغنيتها "قصة شتا" كلمات أمير طعيمة ألحان هشام جمال من ألبوم "واحدة تانية" طورت فكرتها فلم تلقِ باللوم على الزمن أو الأيام في مسألة اختفاء حبيبها، بل هو نفسه الذي قال لها بكل أريحية: لم أعد أحبك ولازم ننسى بعض، كما توضح كلمات الأغنية: "نزلت من البيت في المطر وماهماش برد الشتا / بقاله كام يوم مختفي مش فاهمة ليه بيعمل كده / نزلت وراحت على مكان كانوا فيه تملي بيسهروا / أول ما شافها في سلامه بان إن مشاعره اتغيروا / وقال كلام ما كانتشي عارفة تجمعه / متفاجأة بيه مذهولة قاعدة بتسمعه / ورفع عنيه وبقسوة وبرود قالها / معلش آسف إحنا لازم ننسى بعض".
حسن ختام أغنيات الشتاء نجده عند المطربة نادية مصطفى التي حطمت كل القواعد السابقة في أغاني الشتاء، في أغنيتها "رجع الشتا تاني" التي نكتشف فيها أنها تقريبًا الوحيدة التي احتفظت بحبيبها، وأنه ظل وفياً لها وعاد لها في الشتاء الجديد ولم يستطع أحد أن ينتزعه منها، واستمر حبها في التدفق شتاءً بعد آخر، وهذا يتضح من كلمات الأغنية التي تقول: "رجع الشتا تاني وأنا وإنت دايمًا سوا / لا الشوق بينساني ولا راح زمان الهوى / ياما خوفنا من بكرا لنبقى يوم ذكرى / وآهي فاتت الأيام بالفرحة والآلام / وأدينا أهوه جايين بنحقق الأحلام / رجع الشتا ولقاك روحي أسيرة معاك / قلبك واخدني بشوق وعيوني حضناك / دا إحنا اللي بينا حياة وحب عيشنا معاه / لا تضيعُه الأيام ولا إحنا في يوم ننساه".