في زمنٍ تتشابه فيه الأصوات وتبهت فيه الأفكار، يطلّ علينا من عمق الوعي المصري عقلٌ ظلّ طوال قرنٍ من الزمان يضيء الطريق بالحجة لا بالضجيج، وبالمنطق لا بالشعارات. إنه الدكتور مراد وهبة - الفيلسوف الذي تمرّد على المألوف، وواجه الأصولية بسلاح العقل، مؤمنًا أن الفلسفة ليست ترفًا للنخبة، بل درعًا تحمي الإنسان من العمى الفكري والخوف من السؤال.
ومع اقتراب عامه المئوي في 2026، تحتفي "الهلال" بهذا المفكر الكبير الذي ما زال بيننا ، حاضر الفكر والبصيرة، رمزًا من رموز العقل المصري المعاصر، وصوتًا صادقًا للفلسفة في وجه العتمة.
نشأ هذا المشروع التنويري من أصولٍ بسيطة في أسيوط عام 1926، حيث وُلد الفيلسوف في بيئة عامرة بالسؤال والفضول. تخرّج في قسم الفلسفة بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة) سنة 1947، وتشكّل وعيه على يد ثلاثة من كبار المفكرين الذين شكّلوا وجدانه الفلسفي:
من "يعقوب فام" تعلّم دقة المنطق وجمال البرهان
•من "سلامة موسى" تشرّب الإيمان بالعلم والعقل وحرية الفكر
من "عبد الرحمن بدوي" انتقل إليه الحسّ الوجودي والقلق الإنساني الشريف
من هذا المزيج الإنساني والعقلي، تشكّل مشروعه الفريد: تحرير الإنسان من الخوف - الخوف من السؤال، ومن الحرية، ومن نفسه. ولعل هذا العمق هو ما دفع الدكتور مصطفى الفقي إلى أن يصفه بأنه "فيلسوف من طراز خاص" و"راهب صامت في محراب العلم والمعرفة"، مؤكدًا أنه ليس "بائعًا للأفكار" بل مفكرًا عميقًا وأصيلاً، وواحدًا من "الشوامخ والبقية الباقية من جيل المفكرين الأحرار على أرض مصر".
وحذّر الدكتور وهبه مبكراً من صعود الأصولية في المجتمعات الغربية والعربية على حد سواء، وكان تحذيره قائماً على تحليل تاريخي عميق، حيث رأى أن الأصولية الدينية في القرن العشرين أفرزت مشروعين كبيرين هما: المشروع الصهيوني الذي يستخدم العقيدة اليهودية منذ بروزه على يد "هيرتزل"، والمشروع الثاني ممثلاً في ميلاد جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 على يد الشيخ "حسن البنا".
كان يرى أن الخطر الجوهري الذي يرتكبه الأصوليون يتمثل في "محاولتهم حكم النسبي بمعايير المطلق". فالنسبي - في رؤيته - متغير ومتحرك، وارد فيه الصواب والخطأ، بينما المطلق ثابت ومقدس لا يحتمل فكرة الصواب ولا الخطأ.
وهذا ما جعله من أبرز المهتمين بشخصية وفلسفة ابن رشد الفيلسوف الإسلامي الذي تجاوز نطاق العربي والإسلامي ليصبح فيلسوفاً ومفكراً إنسانياً. فلم يكن ابن رشد - الفيلسوف المسلم الذي عاش في الأندلس - مجرد موضوع دراسة للدكتور وهبه، بل منهج حياة. لقد رأى فيه المثال الأعلى للعقل الفلسفي العربي الذي جمع بين الإيمان والتفكير الحر.
.. وما لبث أن اكتشف المفارقة التاريخية التي ستحدد مسار مشروعه، حين أدرك أن أوروبا نهضت على شروح ابن رشد بينما أُحرقت كتبه في الشرق. يقول الدكتور وهبه: "حين طُرد ابن رشد من الأندلس، طُرد معه التنوير من تاريخنا". من هذه الرؤية، حمل مشروعًا فلسفيًا جديدًا سماه "الرشدية المصرية المعاصرة"، يقوم على ثلاث ركائز:
التمييز بين المطلق المقدّس والنسبي الإنساني
نقد الأصولية بكل أشكالها
الدفاع عن العلمانية التنويرية كضمانة لحرية الإيمان والعقل معًا
لم يبق هذا الفكر حبيسَ الأدراج، بل خرج به صاحبه إلى العالم. في ستينيات القرن الماضي، زار الاتحاد السوفيتي بدعوة من جامعة موسكو، وهناك اكتشف أن الماركسية السوفيتية تحوّلت إلى عقيدة مغلقة، فانتقدها بشجاعة قائلاً: "الفكر حين يتجمّد يتحوّل إلى دين، والدين حين يحتكر الحقيقة يتحوّل إلى خطر".
وتنبأ منذ ذلك الوقت بانهيار الفكر الأيديولوجي المغلق، وكان يرى أن كل فكرٍ يرفض النقد يكتب نهايته بيده - وهو ما حدث للاتحاد السوفيتي بعد عقدين من حواراته معهم. ثم امتدّت رحلته إلى أوروبا حيث شارك في مؤتمرات فلسفية عالمية، وأسّس عام 1994 "الجمعية الدولية لابن رشد والتنوير" ، التي أصبحت منبرًا للفكر العقلاني في العالم العربي والغربي.
قدّم تراثًا فلسفيًا متنوعًا، يربط بين النقد الفلسفي والتحليل الثقافي والاجتماعي. ومن أبرز مؤلفاته:
•"ملاك الحقيقة المطلقة" كشف فيه خطر اعتقاد الإنسان بامتلاك الحقيقة
•"النسبي والمقدّس" يميّز فيه بين ما هو مقدّس لا يُمسّ، وما هو إنساني متغيّر
•"جرثومة التخلف" حلّل فيه أسباب جمود الفكر العربي
•"الفكر العربي بين الجمود والتجديد" دعوة للتجديد
•"مستقبل العقل" - يرى فيه أن الذكاء الاصطناعي امتداد للعقل البشري لا نقيض له
لكن الفلسفةَ لم تكنْ حِكْماً يُلقَى في قاعاتِ الجامعات فحسب، بل كانتْ مِشْكاةً يُضيءُ بها شَوارعَ الفكرِ والحياةِ للعامَّة. ومن خلالِ مقالاتِه التي انتظمَتْ في "الهلال" وغيرِها، مارسَ الفيلسوفُ دورَ "الرَّسُولِ التَّنْوِيرِيّ" الذي يَنْزِلُ بالفكرةِ المعقَّدةِ إلى ساحةِ المُواطنِ البسيطِ.
ويمكنُ لنا أنْ نتبيَّنَ ثلاثةَ اتِّجاهاتٍ رئيسيةٍ في مقالاتِه الصُّحُفِيَّة:
•اتِّجاهٌ تَّنْوِيرِيٌّ تَحْلِيلِيٌّ شرَحَ فيه الأفكار الفلسفية بلغة الحياة اليومية
•اتِّجاهٌ نَقْدِيٌّ سِياسِيٌّ واجهَ فيه بِشجاعةٍ مظاهرَ التَّسَلُّطِ الفكريِّ
•اتِّجاهٌ ثَقافِيٌّ تَرْبَوِيٌّ خَصَّ به قضايا التربيةِ والتعليمِ
وبهذه الروحِ، وَحْدَها، استطاعَ أنْ يَجْعَلَ من الفلسفةِ مادةً حيةً للناسِ.
من عطائه الفكري الثري، تشكلت مدرسة فكرية، فلم يكن مجرد أستاذ جامعي، بل مربيًا فكريًا وصاحب مدرسة في التفكير النقدي، حيث تخرّج على يديه جيلٌ من الباحثين والفلاسفة. وما زال حتى اليوم - بعمرٍ يقترب من المائة - يجلس إلى طلابه ، يضحك للفكرة حين تولد، وينصت للسؤال بتأمل.
وفي تتويج لهذا المسار الحافل، جاء التكريم الرسمي من وزير الثقافة الأسبق حلمي النمنم خلال احتفالية المجلس الأعلى للثقافة عام 2017، حيث وقف ليُلقي كلمةً تاريخية قال فيها: "مراد وهبه لم يكن فيلسوفاً عادياً، بل كان مشروعاً تنويرياً متكاملاً، حمل على عاتقه إحياء العقل العربي في لحظات انكساره", و حصل على جائزة النيل عام 2018، أرفع الجوائز المصرية، اختير عضوًا في اللجنة الدولية للفلسفة والعلوم الإنسانية باليونسكو عام 1999, وأسّس جمعية ابن رشد للتنوير، وشارك في تأسيس الاتحاد الفلسفي العربي، كما مثّل مصر في مؤتمرات فلسفية دولية.
واليوم، مع اقتراب عامه المئوي في 2026، لا تحتفي "الهلال" بذكرى ميلاد فيلسوفٍ فحسب، بل بعقلٍ ما زال ينبض بالحياة بيننا، هذا العقل المضيء الذي قاوم ظلاميات العصر، لم يكن مجرد فيلسوف يناقش قضايا مجردة، بل كان نبضًا حيًا ينبض بأمل الأمة، وضميرًا مستيقظًا يذكرنا بأن الحرية ليست اختيارًا، بل مصيرًا.
لقد علمنا أن السؤال ليس جريمة، والشك ليس كفرًا، والعقل ليس عدوًا. وإنه لَعَهد نُجدده مع الضمير الحي، ومع الفكر الحر، ومع الإنسان الذي يرفض أن يكون نسخة، ليظل الأصل .
"أنه بحق ابن رشد القرن العشرين"