السبت 20 ديسمبر 2025

مقالات

أغاني الشتاء وصوت فيروز الدافئ


  • 20-12-2025 | 13:11

د. أحمد عادل عبدالمولى

طباعة
  • د. أحمد عادل عبدالمولى

ما أجمل أن تُعايش الشتاء بمطره الخفيف حينًا، والمنهمر حينًا آخر، وعواصفه الرعدية، وسَنا برقه، تُعايشه لحنًا ينساب غناءً صافيًا عذبًا في صوت فيروز الدافئ؛ ذلك الصوت الملائكي الذي يجعلك تشعر أنك تُحلّق في عالمٍ حالمٍ من السحر والجمال.

كان للشتاء نصيب في أغاني فيروز، ولكنه ليس شتاءنا الذي نقف فيه عند معناه الفصليّ الأوليّ، بل هو شتاء رمزيّ يجمع العاشقين بين حرارة اللقاء وروعة الغناء، إنه نسيم الصبا التراثي الذي يبلغ سلام الأحبة ويَلُمّ شمل أنفاس حنينهم، يعود في ألقه العصري.

ونبدأ بموشح «جادك الغيث إذا الغيث همى، يا زمان الوصل بالأندلس» الذي قدّمته السيدة فيروز بلحنٍ وتوزيعٍ رحبانيٍّ بعدما قامت بأدائه فرقة الموسيقى العربية من ألحان العقيلي.

وهي موشّحة تُوظّف بأسلوبٍ غنائيٍّ بديع ما ترسّب في الوجدان الجمعي من مشاعر وذكريات، لتوقظ في النفس «النوستالجيا» (الحنين إلى الماضي) المعبَّر عنه بزمان الوصل بالأندلس، وتبعث شوقًا عاشقًا إليه عبر الدعاء له بانهمار الغيث ليُحييه شعريًّا بعد أن فقدناه حاضرًا واقعيًّا.

تقول الموشحة كما تغنيها فيروز:

في لَيَالٍ كَتَمَتْ سِرَّ الهوى بالدجى لَوْلا شُمُوسُ الغُرَرِ
مالَ نَجْمُ الكأسِ فيها وهوى مستقيم السَّيرِ سَعْدَ الأثَرِ
حِينَ لَذَّ النومُ شيئًا أو كَمَا هَجَمَ الصُّبْحُ هُجُومَ الحَرَسِ
غَارَتِ الشُّهْبُ بِنا أو ربما أثرت فِينا عُيونُ النرجِسِ
بالذي أسْكَرَ من عَذْبِ اللمى كلَّ عهدٍ تَحْتَسِيهِ وحَبْبْ
والذي كَحَّلَ جَفنيكَ بِمَا سَجَدَ السِّحْرُ لَدَيهِ واقتَرَبْ
والذي أجْرى دُموعي عندما أعْرَضْتَ من غيرِ سَبْبْ
ضَعْ على صدرِيَ يُمْنَاكَ فما أجدر الماءَ بإطْفاءِ اللَّهَبْ
يا أُهَيْلَ الحيِّ من وادي الغضا وبقلبي مسكِنٌ أنتم بِهِ
ضاقَ عن وَجْدِي بِكُم رَحْبُ الفَضَا لا أُبالي شرقَهُ من غربِهِ
أحْوَرُ المُقلةِ مَعْسُولُ اللمى جالَ في النفْسِ مَجال النَفَسِ
سَدَّدَ السهمَ فأصْمَى إذْ رَمَى بِفُؤادي نَبْلَةَ المُفْتَرِسِ
جَادَكَ الغيثُ إذا الغيثُ هَمَى يا زمانَ الوَصْلِ في الأنْدَلُسِ
لَم يَكُنْ وَصْلُك إلا حُلُما في الكَرَى أو خُلْسَةَ المُخْتَلِسِ

وإذا تركنا الفصحى إلى العامية اللبنانية، نجد حضور الشتاء في أغنيتها المشهورة: «حبيتك بالصيف، حبيتك بالشتي»، ولكننا نريد هنا أن نتوقف عند أغنيتين خالصتين للشتاء، فنستمع إلى أغنيتها «بليل وشتي» من كلمات جوزيف حرب، وألحان فليمون وهبي، فتقول:

بِلَيل وشِتِي صوتو مسموعْ
يا هُوِّي اغْمريني يا هُوِّي دْموعْ
اتْنَيْنْ عاشقين قاعدين دايبين
عم يحكوا سَوَا على ضَوّ شموعْ
عِينيهُن بِبَعضُن إيديهُن بردانينْ
وشفافُن عشّاق مع بعضُن سهرانين
وامْرقي يا سنين .. واتْلجي يا سنين
خلّي بْواب الليل علينا مْسَكَّرينْ
ولا يعطش حَدا مِنّا ولا يجوع
بِلَون الفْراق الْـ بْآخر قصّتُن
عَ خْيوط الشتي مكتوبِة سهرتُن
وما بين بوسِتُن .. عَ الشمع وآهِتُن
كِلّ ما تذَكَّروا هالباب بتنزَل دمعتُن
الـ من جَمْرِتا قلبُن موجوعْ

فنرى أنفسنا أمام لوحة شعرية شتوية، لا أغنية حبٍّ عاطفية فحسب؛ حيث إنها تصوّر العلاقة بين العشق والدفء والمطر والذاكرة، بأسلوب رمزيٍّ عميق، يجمع بين الرقة والحزن.

في هذه اللوحة يتعانق صوت الحبيب بصوت المطر المفهوم ضمنيًّا من «يا هُوّي اغمريني». إنه هواء السماء المعبّأ بمائه المنهمر، فيعانق هو الآخر دموع العاشق «يا هُوّي دموع»، فتمتزج دموع السماء بدموع الذات.

ثم ينتقل المشهد من الخارج (بليل وشتي) إلى الداخل (غرفة صغيرة، يجلس فيها العاشقان على ضوء شموع): «قاعدين دايبين على ضوّ شموع». إنه الذوبان الوجدانيّ الروحيّ في الحب، ويأتي ضوء الشموع ليجسّد الجو الشاعريّ الموحي بالدفء الحميميّ في الليل الشتويّ، لكنه دفء زائل بانطفاء هذه الشموع، وكذلك هي اللحظات الجميلة، سرعان ما تنتهي.

إنه لقاء الأضداد؛ بردٌ في الخارج يقابله دفءٌ في الداخل، وظلمةُ ليلٍ تُقابلها أنوارُ شموعٍ واهنة، فتتشكل من هذه المفارقة وحدةٌ بين الطبيعة والوجدان، حيث يتحد القلبان في مواجهة برد الوجود.

وأما اللحن فكان من مقام السيكاه هُزام، ثم تأتي تحويلة إلى مقام البياتي في الكوبليه الأول والثاني، ليكشف عن الانتقال إلى سياقٍ دلاليٍّ آخر، ثم العودة مرة أخرى إلى المقام الأصلي.

وإذا استمعنا إلى الموسيقى الافتتاحية للحن نجدها قائمة على الثنائية بين الفرقة والصولو المنفرد من إحدى الآلات، مثل القانون والأكورديون، ثم ترد الفرقة باللحن نفسه الذي عزفه الصولو، وكأن الافتتاحية تُهيئنا إلى ثنائية العاشقين المغمورة بجو الشتاء الحزين.

وبينما يعبر الكوبليه الأول بعد المذهب السابق عن لحظات العشق بتفاصيلها المعهودة، مشفوعة بالدعوات أن تظل باقية مشهودة، يأتي الكوبليه الثاني ليفجّر المفاجأة بالفراق في آخر القصة، وأن ما قصّه المذهب والكوبليه الأول هو الذكرى الجميلة بليل وشتي.

ومن ثمّ نكشف عن سرّ تنكير كلمتي «ليل» و«شتي» ليعبّر عن كونهما ذكرى سعيدة ذات ليلة في شتاء.

ولأن الفراق صار واقعًا حاضرًا، فقد جاء معرّفًا، فوافقه الشتاء (الشتي) في التعريف في الكوبليه الأخير، ومن ثمّ يظل ينسج بخيوطه ذكرى سهرة العشاق المرتعشة ببرده، والمحفورة في الذاكرة، لكنه ينسجها بلونٍ مُغرقٍ في سمته التشبيهي؛ لأنه لون الفراق.

وتنتهي الأغنية الشتوية بالقلب الموجوع، وما يصحبه من جمر الدموع بعد تذكّر مظاهر العشق التي ولّت من الباب الرامز للقاء والوداع معًا.

وإذا تحدثنا عن صوت فيروز، فإنه من السحر بمكانٍ في نقل هذه المعاني، في قراراته وجواباته النغميّة.

ويتأكد الحنين إلى المحبوب في أغنيتها «رجعت الشتوية»، التي تقول كلماتها:

رجعت الشتوية، رجعت الشتوية
إيه، إيه، آه، آه، آه، آه، آه
رجعت الشتوية، رجعت الشتوية
ضل افتكر فيّ، ظل افتكر فيّ
رجعت الشتوية
يا حبيبي الهوى مشاوير
وقصص الهوى مثل العصافير
يا حبيبي الهوى مشاوير
وقصص الهوى مثل العصافير
لا تحزن يا حبيبي إذا طارت العصافير
وغنية منسية ع دراج السهرية
رجعت الشتوية، رجعت الشتوية
ضل افتكر فيّ، ظل افتكر فيّ
رجعت الشتوية
آه، آه، آه، آه، آه، آه
يا حبيبي الهوى غلاب
عجِّل وتعَى السنة ورا الباب
يا حبيبي الهوى غلاب
عجِّل وتعَى السنة ورا الباب
شتوية وضجر وليل
وأنا عم بنطر على الباب
ولو فيّ يا عينيّ خبيك بعينيّ
رجعت الشتوية، رجعت الشتوية
ضل افتكر فيّ، ظل افتكر فيّ
رجعت الشتوية

ونلاحظ بدايةً أن امتزاج عزف البيانو بالجيتار تمهيدًا لدخول الغناء، الذي يُلحّ على جملة «رجعت الشتوية» أكثر من مرة، يتخلله آهات تعبّر عن شجن الفراق، فيكون الأمر بضرورة التذكّر: «ضل افتكر فيّ».

فالشتاء رمز الوحدة والانتظار في زمن التذكّر للماضي.

وفي العنوان والتركيبة المتكررة «رجعت الشتوية» نغمةٌ تعويذية سحرية رامزة للأمل في تجديد الذكريات. الهوى مشاوير، وقصص الهوى مثل العصافير: تشبيه الحب بالعصافير يكشف عن حريته وطلاقته التي لا تعرف القيود؛ لذلك فهو سريع الطيران، وكأن الفقد جزءٌ من الحب، فتأتي نغمة المواساة: «لا تحزن يا حبيبي إذا طارت العصافير».

ثم تأتي الصورة الرومانسية: غنية منسية ع دراج السهرية؛ لتمزج بين المكان والزمان المتمثلين في (الدّرج) و(السهر)، مع فتح الذاكرة على (أغنية منسية)، مما يعمّق الإحساس بالوحدة والحنين.

ويأتي الباب مرة أخرى برمزيته الأيقونية في الأغنية الرحبانية، يحمل المفارقة الرامزة بين الأمل والفراق، ويتحول الانتظار للقاء المؤجّل إلى رجاءٍ وأملٍ متعبين من وشك انقضاء السنة دون اللقاء! ويغلف ذلك المشهدَ الشتاءُ وما يجتمع معه من الضجر والليل:

يا حبيبي الهوى غلاب / عجِّل وتعَى السنة ورا الباب
شتوية وضجر وليل / وأنا عم بنطر على الباب

ثم تختم الأغنية بجملةٍ شعريةٍ ولحنيةٍ في الوقت نفسه تحمل قمة العاطفة والانصهار في الحب، إذ تود الحبيبة أن تصون حبيبها في عينيها التي تناديه بهما أيضًا:

ولو فيّ يا عينيّ خبيك بعينيّ
رجعت الشتوية

والاختباء في العيون معنى أثير في الأدب العربي، سبقت إليه ولادة بنت المستكفي حين قالت لحبيبها ابن زيدون، وهما البيتان المكتوبان على شاهدهما الموجود بقرطبة:

أغارُ عليكَ من عيني ومنّي ومنك ومن زمانك والمكانِ
وَلو أنّي خبأتك في عيوني إلى يومِ القيامة ما كفاني

وثمة ملمح في غناء اللازمة المتكررة «رجعت الشتوية» يعمّق الإيقاع الشعوري، ويحوّلها إلى رمزٍ دائريٍّ لعودة الذكرى كل عام. هذا الملمح هو أن المرة الأخيرة في غنائها، والتي تنتهي بها الأغنية، كانت بمثابة انتهاء الأغنية المسرحية؛ حيث انتهت بالتدرج الموسيقي من القرار إلى الجواب العالي، ثم يصحبه الأداء الغنائي كذلك متدرجًا إلى أن يصل إلى الجواب ويستقر عليه في زمن الحركات الأربع الأخيرة من الإيقاع الموسيقي.

وفي هذا الختام الرائع ما يمنح الأغنية بعدًا دراميًّا يُناغي ما تعانيه الذات من توترٍ داخليٍّ ناتجٍ عن المفارقة الناشئة مما يُسببه رجوع الشتاء من الألم والأمل معًا.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة