جرت العادة أن يتقرب أهل الفن للسلطة، وذلك بتمجيد الحكام في بعض الأعمال الفنية، وقد ظهر ذلك في نشيد الأسرة العلوية
الذي وضعه يوسف وهبي يمجد فيه لأسرة الملكية في فيلم غرام وانتقام عام 1944، وقد
دعا يوسف وهبي القصر الملكي لرؤية الفيلم في عرض خاص بسينما ستوديو مصر ونال بعدها
"البكوية"، ولكن الأمر اختلف بعد ثورة يوليو التي أرسى مبادئها جمال
عبد الناصر، فلا منح ولا ألقاب في ذلك العهد ، ومن بدأ يتقرب للسلطة كان طواعية
في حب مصر.
نجوم الفن في قطار الرحمة
لاحظ نجوم الفن والغناء أم أول من
تقرب للضباط الأحرار كان أم كلثوم ، وهي أيضاً أول من باركت الثورة فنياً في حفل
أقيم في شهر أكتوبر 1952 ، وقد ولدت فكرة لمؤازرة الثورة لدى جموع الفنانين وهي
تعتمد على جمع المساعدات المادية والعينية من محافظات مصر عن طريق استقلال نجوم
الفن والغناء لقطار يجوبون به محافظات مصر لأجل ذلك الغرض وسمي بـ "قطار
الرحمة"، وقد بدأوا تنفيذ الفكرة أوائل عام 1953 ، وكانت حصيلة قطار الرحمة
تبرعات مادية وعينية من المصريون لدعم الجيش ومنكوبي السيول والأزمات.
لمسنا في تلك المرحلة بدء توظيف الفن لخدمة المجتمع ، ووصلنا في الحلقة السابقة
إلى رصد دور الفن عام 1954 من خلال ما أقامته أم كلثوم من حفلات وآخرها كان حفل تم
تحديد تاريخه ليشمل مناسبتين ، وهما نجاة الرئيس جمال عبد الناصر من حادث إغتياله
بالمنشية في الأسكندرية ، والمناسبة الآخرى كانت توقيع إتفاقية الجلاء التي وقعها
الرئيس جمال وتنص على رحيل المستعمر الإنجليزي عن مصر حسب جدول زمني .
الرئيس جمال في السينما
فكر الرئيس جمال عبد الناصر في الدور
القوي والمؤثر للفن في جموع الشعب ، لذا بدأ في منتصف عام 1955 في إبرام اتفاق غير رسمي يكون نتاجه سلسلة أفلام تدعو المصريون لحب الجيش والتطوع فيه ، وتبسيط مشاقه في
أعين الشباب من خلال نجم الكوميديا إسماعيل يس، وقد كتب بالفعل أول رواية
سينمائية في تلك السلسلة أحد ضباط ثورة يوليو ، وهو عبد المنعم السباعي ، ويعد
أيضاً من كبار كتاب الشعر الغنائي ، وفي القصة وضع السباعي الخطوط العريضة التي
تخدم الهدف المنشود ، وكتب حوار الفيلم أبو السعود الإبياري وأنتجته شركة أفلام
الهلال.
ليظهر أول فيلم في السلسلة وهو "إسماعيل يس في الجيش" ويعرض
للمرة الأولى جماهيرياً بسينما ديانا في الذكرى الثالثة للثورة يوم 23 يوليو 1955 حسب
رصد الكاتب الصحفي والناقد محمود قاسم في موسوعة الإفلام العربية، وكان لمجلة
الكواكب رصداً آخر، حيث تم عرض الفيلم للمرة الأولى يوم الإثنين10 يناير 1955 وقد
حضر افتتاح الفيلم الرئيس جمال عبد الناصر ورجال الثورة، ملبين دعوة المنتج بطرس
زربانيللي ، وخصص إيراد الحفل لمنكوبي قنا، وكان في إستقبالهم إسماعيل يس وهو
يرتدي زي الجيش وأيضا عبد السلام
النابلسي الذي رحب بالرئيس وصحبه هو سميرة أحمد وكانت زوجة منتج الفيلم آنذاك.
الجيش بعيون السينما
لا شك أن تلك السلسلة من الأفلام لاقت نجاحاً ساحقاً وإقبالا جماهيرياً حيث امتدت
هذه الأفلام لتغطي باقي أفرع القوات المسلحة ومنها سلاح البحرية أو الأسطول الحربي
وأيضاً سلاح الطيران وفي العام التالي ظهر فيلم إسماعيل يس في البوليس وعرض للمرة
الأولى بسينما ديانا في 16 يوليو 1956 ، وتلاه فيلم إسماعيل في الأسطول عام
1957 وعرض للمرة الأولى في 11 نوفمبر ، ثم فيلم أسماعيل يس بوليس حربي وعرض بسينما
ميامي في 10 نوفمبر 1958 وكان إسماعيل يس في الطيران آخر تلك السلسلة وقد عرض لأول
مرة بسينما ريتس في 15 يونيه 1959.
أم كلثوم ترحب بملك الأردن
تعمد الرئيس جمال عبد الناصر أن يكون الفن وسيلة للترابط الدولي وتوطيد أواصر
الصداقة مع الشعوب العربية والإفريقية ، وحرص أن يكون يخرج لقاءه بالرؤساء والملوك
من إطار البروتوكولات الرئاسية إلى رفاهية الفن ورحابته، فعندما حل ملك الأردن الشاب
حسين بن طلال ضيفاً على مصر، وأيضاً سيف الإسلام البدر رئيس وزراء اليمن، أقام
الرئيس جمال حفلاً غنائياً بنادي الضباط بالزمالك يوم الخميس 22 فبراير 1955 شدت
فيه أم كلثوم بثلاث أغنيات أولها "قصة حبي".
وقبل أن تبدأ أم كلثوم
وصلتها الثانية يا "ظالمني" وقف السفير الأردني ليعلن رغبة ملك الأردن
في منح وسام النهضة تكريماً لأم كلثوم، وبعد كلمة السفير، ألقت أم كلثوم كلمة شكرت
فيها الملك حسين ، مختتمة كلمتها بأمنيتها أن ترى وحدة الشعوب العربية ، وقلدها
الملك حسين الوسام أمام الرئيس جمال عبد الناصر والحضور من آلاف الجنود والضباط
والجاليات العربية ، واختتمت أم كلثوم الحفل بأغنية " ياجمال يا مثال
الوطنية" ، ومن الطريف أن اتفقت أم كلثوم مع الضباط أن يقوموا بدور الكورس في
الغناء معها عند غناء وصلتها الأخيرة.
مندوب ناصر في جنازة سليمان نجيب
كان الرئيس جمال عبد الناصر قد لبى دعوة الفنان سليمان نجيب لحضور حفل أنصار
التمثيل في أول يناير عام 1955 تقديراً منه لدور الفن، وحضر معه رفاقه من الضباط
الأحرار منهم المشيرعبد الحكيم عامر والوزير صلاح سالم ، ومن مفارقات القدر أن يرحل سليمان نجيب بعد أربعة أيام من هذا الحفل، وقد أوفد الرئيس جمال مندوبين عنه وهما الوزيران أنور السادات
وصلاح سالم لحضور جنازة فقيد الفن .
سوكارنو في العيد الثالث للثورة
بعد خمسة أشهر من حفل الترحيب بملك الأردن حلت الذكرى الثالثة للثورة ، وفي هذا
اليوم حل أول رئيس لأندونيسياً ضيفاً على مصر، وهو أحمد سوكارنو ، ليحضر الرئيس جمال
عبد الناصر في المساء حفل ساهر للترحيب بضيف مصر الكبير، تحييه أم كلثوم بنادي
الضباط في 23 يوليو 1955، حيث بدأت أم كلثوم بأغنية تم صياغتها خصيصاً لتلك
المناسبة وهي "فرحة الوادي" التي يقول مطلعها " يا سلام على عيدنا يا سلام" ، وقد نظمها بيرم التونسي
ولحنها رياض السنباطي ، وغنت أم كلثوم في وصلتها الثانية أغنية " شمس الأصيل"
ثم اختتمت بأغنية "يا ظالمني"، وقد صافحت أم كلثوم الرئيس سوكارنو
والرئيس جمال عبد الناصر خلال وصلاتها الغنائية.