بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله، والصلاة والسلام على نبينا محمد الذي كان القدسُ الشريفُ نهايةَ مَسراه وبدايةَ مِعراجِه إلى السماء العلى، وبعد:
فسلامُ الله عليكم أيها السيدات والسادة ورحمتُه وبركاتُه، وأجدد الترحيب بحضراتكم في جمهورية مصر العربية وفي رحاب الأزهر الشريف الذي يَسرُّه تلبيتُكم دعوته للمشاركة في هذا المؤتمر العالمي الذي ينظمه بالتعاون مع مجلس حكماء المسلمين لنصرة القدس الشريف، خاصة بعد التطورات الأخيرة التي فجَّرها القرار الأمريكي المجحف الذي تتجلى فيه مظاهرُ الغطرسةِ، والتحيزِ المقيتِ، وتزييفِ التاريخِ، وتصديقِ النبوءاتِ الكاذبةِ، والعبثِ بمصائرِ الشعوبِ ومقدساتِها.
وسوف تدور كلمتي هذه حول محورين، هما: إحياءُ قضية القدس في أذهان النشء العربي والإسلامي، وزيارةُ القدس الشريف.
الحضور الكريم
إن مستوى وعي النشء العربي والإسلامي - متمثلًا في أبنائنا وبناتنا طلاب مرحلة التعليم ما قبل الجامعي - بقضية القدس الشريف، ليس على المستوى المطلوب، فقد شُغلت أو أُشغلت كلُّ دولة من عالمنا العربي والإسلامي عن قضية العرب والمسلمين المحورية بهمومٍ وقضايا ومشكلاتٍ داخليةٍ وأحداثٍ جِسامٍ جرَّها علينا أعداؤنا وقوى الشر المتربصة بمنطقتنا، فاختلف مستوى الإحاطة والإدراك والمعرفة بهذه القضية لدى الأجيال الناشئة عن إحاطة وإدراك ومعرفة جيلنا والأجيال التي سبقتنا؛ حيث إننا عايشنا ومنا مَن شارك في بعض الحروب التي خضناها مع الكيان الصهيوني الغاصب، وهو ما يصعب محو آثاره من وجداننا، أما هذا النشء فتقتصر معرفته بهذه القضية على بعض معلومات سطحية متناثرة في كتبه الدراسية ينقصها كثيرٌ من العمق والتركيز والاستقصاء، ناهيك ببعض أخبار تتناولها نشرات الأخبار بين الفَينة والأخرى سُرعان ما تطفئ جذوتَها أخبارُ الإرهاب وكوارثُه التي لا تكاد تنتهي، خاصة في منطقتنا المنكوبة هذه.
ولذا، وجب على المؤسسات التعليمية في وطننا العربي والإسلامي تداركُ هذا التقصير سريعًا قبل أن تختلط الأمور في عقول الناشئة، خاصةً في ظل حملةٍ لا هَوادةَ فيها لتزييف تاريخ تلك المدينة المقدسة وطمسِ هُويتِها، فنحن في هذه المرحلة في غِمار معركةٍ طاحنة على المستويات كافة، ولعل الأشرسَ والأخطرَ في تلك المعركة هو مستوى الوعي الذي يقتضي عدم ترك أجيالنا - وخاصةً النشءَ - فريسةً لتغريبٍ ثقافي، وآلةٍ إعلاميةٍ ضخمة تُستخدم اليومَ سلاحًا فعَّالًا بل فتاكًا لقلب الحقائق في إطار معركة الوعي هذه!
وحتى لا يكونَ هذا الكلامُ مجردَ تنظير أو توصية، فقد شَرَعَ الأزهر الشريف في اتخاذ خطوات عملية في هذا الصدد، في مبادرة لعلها تجد مَن يحذو حذوها؛ حيث اعتمد الأزهر مقررًا دراسيًّا يدرس بدايةً من المرحلتين الإعدادية والثانوية في التعليم ما قبل الجامعي وصولًا إلى مرحلة التعليم الجامعي، ولا شك أن هذا المقرر سيؤتي ثمارَه المرجوة بمشيئة الله تعالى، خاصةً إذا عُرف أن مجموع الطلاب المستهدفين سنويًّا يزيد على مليوني طالب، وأن هذا المقرر سيُعنى بالتأصيل التاريخي لفلسطين العربية، وبيانِ المكانةِ الدينية للقدس الشريف مهدِ المسيح عيسى عليه السلام ومسرى محمدٍ صلى الله عليه وسلم ومعراجِه، والتأصيلِ التاريخي للصراع العربي الإسرائيلي بدايةً من زرع هذا الكيان الصهيوني اللقيط في منطقتنا تنفيذًا لوعد مشؤوم قبل مئة عام منح فيه مَن لا يملك مَن لا يستحق، مرورًا بالحروب التي دارت بين العرب والصهاينة ومَن خلفَهم مِن قوى ترتدي زي الأصدقاء ورعاة السلام وهم كاذبون مخادعون، وكذا الاعتداءاتِ والانتهاكاتِ التي مورست بحق البشر والمقدسات، وصولًا إلى ذاك القرار المجحف الذي أصدره الرئيس الأمريكي ترامب في تحدٍّ سافرٍ واستفزازٍ قَميءٍ لمشاعر قرابة ملياري مسلم حول العالم، فضلًا عن الإخوة المسيحيين.
وسنعلِّم أبناءنا وبناتِنا أن القدسَ بأرضِها، وبيوتِها، ومَعالمِها، ومآذنِها، وكنائسِها، وأقصاها، وقُبةِ صخرتِها، كانت وما زالت وستبقى عربيةً عاصمةً أبديةً لدولة فلسطين، ولن يغير قرارُ ترامب ومسايرةُ بعضِ الدول مجهولةِ الموقع على خريطة العالم له من هُوية القدس وتاريخِها شيئًا، ولعل الصفعةَ التي تلقاها القرار في الهيئات الأممية والمؤسسات الدولية خيرُ شاهد على ذلك، ولعلنا نحن العربَ والمسلمين نستثمرها في دعم القضية، ونبني عليها كخُطوة في طريق تصحيح الوضع ميدانيًّا وإحقاق الحق تاريخيًّا، ولعل أهمَّ مهامنا في هذا الصدد هو انتصارنا في معركة الوعي، وأن نُعِدَّ العُدةَ ونكونَ على أُهبةِ الاستعداد على الأصعدة كافة، لليوم الموعود الذي تعود فيه فلسطينُ عربيةً إسلامية، ويُحرَّر القدسُ الشريف بكل مقدساتِه الإسلامية والمسيحية، وعسى أن يكون قريبًا.
ولا شك أن تأجيجَ الغضب في صدور العرب والمسلمين بمثل تلك التصرفات الهوجاء لترامب وأمثاله من المتغطرسين سيُعجِّل بهذا اليوم حتمًا، فما من عربي ولا مسلم ولا حتى مسيحي.
السيدات والسادة الحضور
إن ارتباطَ وجدانِ المسلمين والمسيحيين حول العالم بالقدس الشريف وما تضمه من مقدسات هو ارتباطٌ وثيقٌ لا يمكن التشكيكُ فيه، فهو شأنٌ عَقَديٌّ رُوحيٌّ تاريخيٌّ حضاريٌّ إنسانيٌّ بامتياز، لكن قضية زيارة القدس الشريف ستبقى محل نقاش وموضع اختلاف على الصعيد الإسلامي والمسيحي على حد سواء، وهنا لا بد من الإشارة إلى ثلاثة أمور حتى تُفهم تلك القضية فهمًا صحيحًا: الأول: أنه لا خلاف على عدم جواز التطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل، فهو في نظر المسلمين - والمسيحيين أيضًا - عدوٌ تاريخيٌّ، مغتصبٌ لأرضنا العربية، ومنتهكٌ لمقدساتنا الإسلامية والمسيحية، وقد بلغت جرائمُه بحق رجالنا ونسائنا وأطفالنا المدى. الثاني: أن زيارةَ القدسِ والصلاةَ في المسجد الأقصى مندوبةٌ شرعًا، فالأقصى بالنسبة لنا نحن المسلمين أولى القِبلتين، وثالثُ الحرمين، وأحدُ المساجد الثلاثة التي لا تُشد الرحالُ إلا إليها، وهذا هو الحكم العام الذي لا خلاف حوله. الثالث: أن اختلاف علماء عصرنا في ما يتعلق بزيارة القدس تحت الاحتلال راجعٌ إلى اختلافهم في تقدير المصلحة والمفسدة من هذه الزيارة، فمنهم مَن رأى الزيارة تطبيعًا مع الكيان الصهيوني؛ لكون المدينة بما فيها من مقدسات تحت سيطرة الصهاينة، وأن الزيارة ستدعم اقتصادهم من خلال ما ينفقه الزائرون وقت زيارتهم وإقامتهم، وأنها ربما تعطي مبررًا للصهاينة ومَن يقف خلفهم وفي مقدمتهم أمريكا، للقول بأن المسلمين ها هم يزورون الأقصى ويصلون فيه، وأن المسيحيين يزورون كنائسهم ويصلون فيها، ومن ثم فلا ضرر ولا مشكلة في أن يبقى وضعُ القدس كما هو وتظل القضية معلَّقة. وهذا الفريق لديه كلُّ الحق في منع الزيارة في ظل الاحتلال وفقًا لهذه المعطيات. ويرى فريق آخر أن الزيارة إنما هي دعمٌ لإخواننا الفلسطينيين وتقويةُ شوكتهم وتكثيرهم، وإرسالُ رسالة للعالم بأن القدس لا تخص الفلسطينيين وحدَهم بل هي في وجدان كل مسلم ومسيحي، وهؤلاء من حقهم زيارةُ مقدساتهم. وعلى الرغم من إجازة هذا الفريق لزيارة القدس تحت الاحتلال، فإنه لا يرضى إلا أن تكون القدسُ تحت ولاية أهلها وإن طال الزمن.
وقد تناولت بعضُ الهيئات والمجامع الفقهية مسألةَ زيارة القدس تحت الاحتلال في عدد من المؤتمرات، وخَلُصت إلى قرارات روَّج لها بعضُ الناس على أنها فتوى تجيز الزيارة تحت الاحتلال، ومن ذلك ما صدر عن مجمع الفقه الإسلامي الدولي - المنبثق عن منظمة التعاون الإسلامي - في دورته الثانية والعشرين التي انعقدت بدولة الكويت خلال الفترة من 22 إلى 25 مارس 2015م؛ حيث جاء في قراره: «بعد الاطلاع على البحوث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (زيارة القدس: الأهداف والأحكام الشرعية)، وبعد استماعه إلى المناقشات الموسَّعة التي دارت حوله، انتهى إلى أن الحكم الشرعي للزيارة مندوبٌ ومرغَّب فيه، ولكنَّ النقاش دار حول تحقق المصالح والمفاسد في ذلك. ويرى المجمع أن تقدير هذه المصالح يعود إلى المختصين من أولي الأمر والسياسة في بلاد المسلمين». ويتحدث القرارُ - كما هو واضحٌ - عن أمرين: الأول: الحكم الأصلي العام لزيارة القدس، وهو الندب الذي لا خلافَ حوله كما ذكرت آنفًا؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم: «لا تُشدُّ الرِّحالُ إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى». الثاني: حكم زيارة القدس تحت الاحتلال، وهذا هو محل الخلاف، وقد ترك القرار تقدير المصالح والمفاسد المترتبة على ذلك للمختصين من الساسة وصناع القرار في بلاد العرب والمسلمين. وعلى ذلك، فإن القرار يؤكد موقفَ الأزهر الرافض لزيارة القدس تحت الاحتلال؛ فلا مصلحةَ في الزيارة في ظل الوضع الراهن؛ حيث إن زيارةَ القدس في ظل احتلالٍ غاشم يريد القضاءَ على كل المعالم الإسلامية والمسيحية والتاريخية والحضارية بالمدينة، تترتب عليها مفاسدُ جسيمةٌ، ومضارُّ عظيمةٌ، ونتائجُ وخيمة. ولعل من المفيد في هذا السياق أن نذكِّر بمواقف رجال الأزهر الشوامخ وعلمائه الكبار الذين رفضوا زيارة القدس تحت الاحتلال؛ فقد رفض الشيخ عبد الحليم محمود مرافقة الرئيس السادات في زيارته للقدس. وعلق الشيخ جاد الحق الزيارة على تَطَهُّرِ الأرض من دنسِ المغتصبين اليهود وعودتِها إلى أهلها يرتفع فيها ذكرُ الله والنداءُ إلى الصلوات، وأعلن أن مَن يذهب إلى القدس من المسلمين آثمٌ ما دامت محتلة. وعدَّ الدكتور نصر فريد واصل الزيارة تكريسًا للاحتلال واعترافًا بمشروعيته. وجدَّد الإمام الطيِّب موقفَ الأزهر الرافض للزيارة، مؤكدًا أن زيارة القدس تحت الاحتلال لا تحقق مصلحة للمسلمين.