إنها الوثيقة التى كشفت تفاصيل اجتماع خاص عقد فى لندن فى الرابع من أغسطس ١٩٤٣ حيث عقدت اللجنة الوزارية الخاصة التى شكلتها حكومة الحرب البريطانية أولى جلساتها لبحث قضية فلسطين ومناقشة خطة تقسيم فلسطين بين العرب واليهود. ترأس اللجنة وزير الداخلية «هربرت موريسون» وعضوية عدد من كبار المسئولين بينهم قادة قوات البحرية والطيران والمشاة ووكيل وزارتى المستعمرات والخارجية واثنان من كبار أعضاء مجلس العموم البريطانى. ومنذ الدقائق الأولى للاجتماع كان واضحا للجميع الحقيقة القائلة بأن العرب واليهود لا يمكن لحقبة من الزمن أن يعيشوا معا فى سلم ووئام. وتبلورت المناقشة فى نقطتين: استمرار الإدارة البريطانية لفلسطين بكاملها طبقا لنظام استعمارى يتفق عليه، وتقسيم فلسطين.
استطاع نائب وزير المستعمرات لشئون الشرق الأوسط الكولونيل»ستانلى» أن يقنع اللجنة بأن لا مناص من التقسيم كحل يستهدف تأمين قوات الحلفاء ومصالحهم فى المنطقة. وطلب من اللجنة أن تركز جهودها لإيجاد الوسائل العملية فى سبيل وضع فكرة التقسيم موضع التنفيذ. وهنا أشار رئيس اللجنة إلى التقرير الذى رفعته اللجنة الملكية المشكلة لدراسة قضية فلسطين، وقال إنه من الضرورى مراعاة المبادئ التى وردت فى تقرير تلك اللجنة التى تشير إلى أهمية تغيير الوضع الجغرافى فى المنطقة كى يسودها تفوقعنصرى يهودى أو عربى عندما يتم التقسيم. ولكى يكون التقسيم مرضيا ينبغى تأمين إمكانات الهجرة لليهود، وتهيئة كافة الإمكانيات للعرب كى يعيشوا فى مأمن من أى تهديد يهودى. وانبرى أحد أعضاء اللجنة وهو النائب المحافظ» ايمرى» ليقول بأن الموقف الراهن قد تفتق عن عامل جديد منذ تاريخ صدور تقرير اللجنة الملكية، وهو رغبة العرب الكبرى فى إقامة الوحدة العربية وهو ما يجد صدى قويا بين الكتل الشعبية فى جميع البلدان العربية. كما أن اللجنة رأت بأن المشكلة لم تعد مقصورة فقط على تقسيم أرض فلسطين، وإنما تتعدى ذلك إلى وضع دقيق يمس حضارتى العرب واليهود معا. وقالت الوثائق إن رئيسوزراء العراق» نورى السعيد» بعث برسالة إلى وزير المستعمرات البريطانى أوضح فيها أنه لو تمكن العرب من إعادة توحيد كل من سوريا والأردن لتلاشى خطر التوسع اليهودى. ولهذا حث» ايمرى» اللجنة على وضع وجهة نظر العراق موضع الاعتبار عند البدء بتنفيذ فكرة التقسيم أو على الأقل تأييد الحكومة البريطانية لفكرة إعادة توحيد سوريا والأردن.
تحديد أراضى الدولة اليهودية
قالت الوثائق إن اللجنة طرحت أمامها عنئذ خريطة الشرق الأوسط حيث ظهرت فيها فلسطين بشىء كبير من التوضيح والتركيز. وقال»موريسون» إن المنطقة الساحلية الرئيسية الممتدة من الشمال إلى الحدود المصرية بما فى ذلك النقب والبحر الميت وخليج العقبة ــ فيما عدا منطقة الجليل ــ هى أكثر المناطق الملائمة لإنشاء الدولة اليهودية، وهو الرأى الذى يحمل تعديلا لما ارتأته اللجنة الملكية التى أوصت بإعطاء اليهود منطقة الجليل أيضا. وعندئذ اقترح «ايمرى» دعوة البروفسور»ريجينالد تولاند» أحد أعضاء اللجنة الملكية وأستاذ تاريخ المستعمرات بجامعة أوكسفورد لسماع رأيه فى مشروع التقسيم. ولقد توصلت اللجنة بعد ذلك إلى رأى إجماعى بضرورة خلق منطقة يهودية كبيرة لإعطائها فرصة معقولة تكفل لها النجاح كدولة. ولكن يتحتم على الدولة اليهودية الجديدة تقديم معونة مالية سنوية ــ تساهم فيهاالخزينة البريطانية ــ للعرب ولفترة محدودة. وقالت اللجنة ينبغى عقد اتفاقات اقتصادية بين العرب واليهود حيث إن الدول العربية ستكون هى السوق الرئيسية لاستهلاك المنتجات اليهودية، وعلى الحكومة البريطانية عقد معاهدات مع الدولتين لتأمين منطقة القدس والأماكن المقدسة والسيطرة على الموانئ وقواعد الطيران.
اقتراح بتوطين اليهود فى ليبيا
ولقد فاجأ»ايمرى» أعضاء اللجنة باقتراح توطين اليهود ــ الذين قد يجدون صعوبة فى العيش جنبا إلى جنب مع العرب ــ فى شمال إفريقيا، على أن ينشئوا مستعمرة يهودية فى القاعدة البريطانية فى بنغازى بليبيا وقال:( فيما إذا نجحت تلك المستعمرة فلربما نجذب إليها عددا آخر من يهود فلسطين أو يهود العالم).واقترح اللورد»كرانبورن» تعويض عرب فلسطين عن أراضيهم التى ستدخل فى نطاق الدولة اليهودية. بيد أن الكولونيل»ستانلى» رأى أن هناك دافعا قوميا وراء الحركة الصهيونية وبالتالى فإن اليهود لن يرغبوا فى الاستقرار خارج فلسطين، ولابد أن يرفضوا فكرة توطينهم فى ليبيا أو أى منطقة أخرى. أما رئيس اللجنة»هربرت موريسون» فقال:(إن فلسطين دولة صغيرة وسينتج عن تقسيمها إنشاءدولتين أكثر صغرا واقترح أن تأخذ اللجنة فى الاعتبار إدخال تعديلات جوهرية فى المنطقة قبل التقسيم بما فى ذلك قطاع الأردن بحيث لا تحصر المنطقة المطلوب تقسيمها فى فلسطين وحدها).
تخوف من ردود فعل عربية
قال»ايمرى»:( إنه من المستحيل إعطاء اليهود منطقة كبيرة كفلسطين والأردن حيث سيؤدى هذا إلىردود فعل شديدة بين العرب وفى العالم الإسلامى). وأردف قائلا:(إنه يوافق على إنشاء وحدة بين فلسطين وسوريا). أما عضو اللجنة» ارشيبولد سنكلير» فلقد حذر من أن أية تسوية للمشكلة الفلسطينية تقوم على أساس التقسيم ستثير ردود فعل قوية تتسم بالعنف فى أنحاء العالم العربى بما يهدد مصالح بريطانيا والحلفاء. ومن ثم دعا إلى عدم المغالاة فى التقسيم من أجل إرضاء الحركة الصهيونية العالمية، والعمل على إيجاد تسوية مرضية باستشارة الفريقين المعنيين. كما دعا إلى تحقيق التوازن الاقتصادى بين الدولتين، وخلق الفرص الممكنة لتأمين التعايش السلمى بينهما. وأردف قائلا:( بأن العرب إما سيشكلون جبهة تحمى ظهر الحلفاء فى حربهم ضد ألمانيا النازية أو أنهم سيتحولون إلى طابور خامس يهدد قضيةالحلفاء، وأن هذه النقطة بالذات ينبغى النظر إليها كنقطة ارتكاز عند التفكير فى إيجاد تسوية لمشكلة فلسطين.
وتقول الوثائق السرية أخيرا، إن اللجنة انتهت إلى اتخاذ القرارات التالية:
يقوم السكرتير البرلمانى لوزارة الخارجية بتوزيع المذكرة التى بعث بها رئيس وزراء العراق فى الرابع من يناير ١٩٤٣ على أعضاء اللجنة.
يقوم وزير المستعمرات بتوزيع مذكرته التى أعدها عن احتمال توطين اليهود أو العرب فى منطقة صحراء النقب.
وافق السكرتير البرلمانى لوزارة الخارجية على إعداد مذكرة إيضاحية عن إمكانيات توطين اليهود فى ليبيا أو إيرتريا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
على رئيس أركان الجيش أن يتقدم بمذكرة عن حاجات الحكومة داخل أرض فلسطين، لتأمين عدم اندلاع حرب أهلية فى البلاد إذا ما تم التقسيم.
يتعهد السكرتير البرلمانى فى وزارة الخارجية بإعداد مذكرة تتضمن ردود الفعل السياسية داخل العالم العربى إذا ما تم إنشاء وطن قومى لليهود فى فلسطين، وعليه أيضا تقييم الأمانى العربية والمشاعر السائدة هناك حول إقامة الوحدة العربية.
اتفاق اللجنة على دعوة وزارة الخارجية البريطانية بالاشتراك مع رئيس اللجنة «هربرت موريسون» إلى وضع خطة شاملة لتقسيم فلسطين.....