بقلوب مكلومة.. وعقول مصدومة تابعنا حوادث أسوأ مواسم الحج التى كان آخرها نتيجة التدافع فى أثناء شعيرة رمى الجمرات بمنطقة «منى»، وهزتنا مشاهد الصرعى والجرحى من الحجاج الذين تجاوز عددهم ١٥٠٠ صريع وجريح، لينضموا إلى من سبقوهم إلى نفس المصير المفاجئ فى حدوث سقوط «الرافعة» إياها!! والمؤكد أن المملكة السعودية لديها خبرات متراكمة فى استضافة وحماية ملايين الحجاج على مدار السنين والمؤكد أنها ضاعفت من جهودها هذا العام خاصة مع الجهود الإضافية لإجهاض أية أعمال إرهابية.
لكن الحذر لايحمى من القدر، وشاءت إرادة الله أن يكون موسم الحج هذا العام حافلاً بالدروس والعظات والعبر سواء لمن يؤدون فريضة الحج ممن لايلتزمون بقواعد وخطوط التحرك خاصة نحو «منى»، وأيضا بالنسبة لرجال الأمن والمرور الذين كثفوا جهودهم واهتمامهم بالطرق الأساسية إلى «منى»، بينما تكدس آلاف من الحجاج فى شوارع جانبية بهدف الوصول إلى «منى» أو العودة منها سريعاً معا مما نجم عنه التدافع القاتل!
رحم الله الموتى الذين «رفعتهم» الحوادث إلى السماء ليلقوا وجه ربهم وهم كما ولدتهم أمهاتهم بلا ذنوب أو أخطاء .. حيث صاروا بالحج والموت شهداء .. أنقياء، وإننى لا أ درى «هل أدعو للمصابين بالشفاء» أم أن منهم من كان ومازال يتمنى نعمة الشهادة فى أطهر وقت، ومكان ؟!
لاتظلموه بصفة «جورنالجى» !!
سعدت أيما سعادة باحتفال واحتفاء الملايين من خلال الصحافة والإعلام بالعيد الثانى والتسعين «للأستاذ» الذى احتكر لنفسه تقريبا صفة «الأستاذ»، فأنت بمجرد أن تسمعها يتجه ذهنك فوراً إليه هو وحده.. ولا أحد غيره : «محمد حسنين هيكل» ، وبالرغم من أننى شخصياً كنت أعرف الكثير مما جاء على ألسنة أو أقلام عشرات الصحفيين والأدباء والسياسيين والإعلاميين فى شهاداتهم المتجددة لقيمة وعطاء الأستاذ، إلا أننى وجدتنى أستغرق فى قراءة وسماع كل كلمة حملتها الصحف والمجلات والإذاعات والقنوات عن الأستاذ وعطائه الاستثنائي، وكأننى أعرفها لأول مرة، ولعل ذلك بسبب سحر وتفرد الشخصية. لقد كنت أعلم بشكل أو بآخر أن «الأستاذ» شارك بقوة وعمق فى صناعة سبعين عاما من التاريخ، وعاصر أنظمة حكم مختلفة ومتعاقبة بدءا من الملكية، ومروراً بثورة يوليو وحكم الزعيم الخالد عبدالناصر، ثم فترة حكم الرئيس الراحل أنور السادات، ثم فترة الحكم الممتدة لحسنى مبارك، ثم فترة الحكم الهزيلة لمحمد مرسي، ثم فترة حكم عدلى منصور، وأخيرا فترة حكم الرئيس السيسى !! يعنى - ماشاء الله - سبعة حكام مروا عليه ومر هو عليهم بطريقته وأدائه المتنوع المتعدد ولم يملك أى واحد منهم أن يتجاهل مايكتبه ويقوله، وحرص بعضهم على الاستعانة المباشرة بآرائه وأفكاره مثل «عبدالناصر»، و«السادات» (إلى ماقبل الخلاف بينهما)، و«مبارك» (حتى ماقبل حصار قلمه وأفكاره و«مرسى» الذى لم يكن مهيئا لاستيعاب مايقوله الأستاذ ، و«عدلى منصور» الذى أعاد للأستاذ وضعه الطبيعي، ثم الرئيس «السيسى» الذى فاجأ الأستاذ بأنه قرأ له كل مؤلفاته، ومن ثم يقدر ويحترم كل أفكاره وتحليلاته!! ثمة سبب آخر جعلنى أعيش بعمق كل لحظة شهدت احتفالا واحتفاء مكتوباً ومسموعاً بالأستاذ ، حيث كنت قد صدمنى وصدم كل محبى وعشاق شخصية وفكر الأستاذ، ما انزلق إليه البعض فى توجيه سهام الانتقاد إليه، بأمل أن يرد هو عليهم فينالوا الشهرة المدوية بالخلاف مع القامة الدولية الكبرى ، أو بسوء فهم، وتصور متسرع بأن الأستاذ وقد تجاوز التسعين من عمره المديد تراجعت إمكانياته الذهنية والتحليلية، وكأن هؤلاء المتسرعين - لو افترضنا حسن النية - لم يلاحظوا كيف يذكر الأستاذ فى حواراته التيلفزيونية والصحفية أرقاماً وتواريخ وأشعاراً ومواقف ولقاءات كفيلة بأن تضيع من ذاكرة شاب فى الثلاثين من عمره !!؛
صحيح أن تلك الأقلام انحصرت داخل المساحات الضيقة التى تحركت فيها ضد الأستاذ ولم تجد أذناً صاغية ، بل وجدت رفضاً واستنكاراً وانبهاراًَ أكثر به !!
وكم أتمنى لو أن من خانتهم أقلامهم وأفكارهم ومشاعرهم أن يستعيدوا الآن صوابهم، ويعتذروا عما ارتكبته أقلامهم، ويجددوا ماكانوا هم أنفسهم يقولونه قبل ذلك تقديراً واعترافاً بفضل وقيمة وقامة الأستاذ !
من جهة أخرى أرجو أن يتوقف البعض عن استخدام تعبير «الجورنالجى هيكل» فقد تخطى الأستاذ كل دوائر تلك الصفة، صحيح أنه يعتز ببدايته الصحفية إلا أنه بالواقع الحى صار أكبر بكثير من هذه الصفة، فهو المفكر الموسوعى ، وهو السياسى المحنك، وهو الكاتب المتفرد بالأسلوب والرؤية، ولذلك كله كانت ومازالت له مكانته العالمية التى تجعل كبريات الصحف الأجنبية تسعى لنشر كتاباته وتدفع مقابلا محترما لكل كلمة يتضمنها مقاله !! ولقد كنت أنا شخصياً شاهد عيان على قيمة ومكانة الأستاذ فى انجلترا حيث كنت مستشار مصر الإعلامى وتابعت بفخر واعتزاز مايلقاه من احترام هائل يبدأ باستقبال وزراء ومفكرين كبار له فى مطار «هيثروا» بلندن .
إنه - باختصار - الأستاذ الذى أضاف ويضيف إلى قيمة ومكانة مصر بانتمائه إليها مثل القلة المحدودة جدا من مفكريها وزعمائها .
كتب : حمدى الكنيسى