التهجير قضية شائكة على مر التاريخ، فالتهجير هو حالة غير عادية وغير طبيعية حيث إنها تمثل حالة خلع للبشر من أماكنهم ومساكنهم وأعمالهم وأصحابهم، والتى قضوا فيها حياتهم وظلت مرتبطة بهم وبعقلهم الباطن ولذا فعند التهجير يحدث فوراً نوع من الاغتراب النفسى والاجتماعى، ويمكن أن يتحول إلى سياسى عندما يكون التهجير مرتبطاً بقرار سياسى- وهنا نجد أمثلة كثيرة على هذه العملية التهجيرية والتى كان أهمها وأخطرها للآن هو تهجير الشعب الفلسطينى من دياره وبلاده ثم وطنه، تلك القضية الشائكة التى أصبحت بلا حل منظور .
ثم تأتى بقضية تهجير أهالى النوبة عندما بدأت عمليات إنشاء السد العالى عام ١٩٦٤، بالرغم من تسكين هؤلاء فى مساكن، بل قد أصبحت الآن لهم مدن وقرى نوبية ولكن لم تعد لهم جلّ عاداتهم وتقاليدهم وثراهم الثقافى كما كانوا ولا كما يريدون.
وهناك نوع آخر من التهجير القسرى والقهرى، وهو ذلك الذى يتم لا عن قرار سياسى ولا عن خدمة تقدم للوطن وللمواطنين على مر التاريخ، ولكنه تهجير يتم بقعدة تسمى قعدة عرب وهى بديل بدائى ومتخلف للمحاكم ولتطبيق القانون، وهذا النوع لايتم فى الغالب الأعم على غير المسيحيين وعندما تحدث بعض المشكلات بين مسيحى ومسلم دائما يكون حكم تلك الجلسات المصاطب هى تهجير تلك العائلات المسيحية بعيداً عن منازلهم وأشغالهم، وهؤلاء دائماً ما يكونون ذوي مشروعات ومتاجر يمارسون أعمالهم منها وفى مناطقهم، بما يعنى تشريدا وإفقارا وتغريبا وقهرا، حتى إننا نجد أن الدستور يحرم هذا التهجير لخطورته على البشر وبالتالى الوطن. هذا يذكرنا ويجعلنا على الفور نرجع إلى ما تم في الأسابيع الماضية من أحداث القتل والذبح والحرق التى طالت عائلات مسيحية فى العريش، والتى تمت على أرضية عنصرية ودينية من وجهة نظر فاعليها؛ حيث وجدنا هذه العائلات تقوم بمغادرة ديارها وأعمالها وأماكنها قادمة إلى الفراغ النفسى والعائلى والاجتماعى، فمنهم من تم تسكينه فى نزل الشباب فى الإسماعيلية، ومنهم من ذهب إلى أهله وعشيرته قبل أن يغادر إلى العريش وذلك قبل عشرات السنين. هنا وجدنا الكنيسة تبادر باستقبال ومساعدة المهاجرين حسب إمكاناتها، ولما كشف الإعلام الصورة، قامت الدولة بكل أجهزتها بتلك المساعدة، خاصة أن هذه القضية لا هى كنسية ولا هى دينية تخص الكنيسة، ولكنها قضية سياسية ومعقدة فى المقام الأول وهى تخص الدولة والنظام، وهنا حدث لبس لدى الكثيرين فى الداخل والخارج. فتم وضع القضية على أرضية طائفية وأنها قضية مسيحيين تم الاعتداء عليهم وتم تهجيرهم ولم تقم الدولة بحمايتهم.
وبالطبع وفى هذه الأثناء لابد أن يتم انتهاز تلك الأجواء أيما انتهاز من بعض المتطرفين من الأقباط وغير الفاهمين والمتاجرين بالقضية القبطية على الدوام، فهل ما تم فى العريش هو تهجير قسرى وقهرى بالفعل أم ماذا؟
هنا لا نستطيع إسقاط المناخ الطائفى الذى أفرز سلوكا طائفيا وأنتج فرزاً طائفيا داخليا. الشئ الذى جعلنا نشاهد على مدار الساعة تلك الفتاوى الطائفية التى تكفر المسيحيين والتى تسىء إلى ديانتهم وإلى عقائدهم بل إلى عاداتهم وتقاليدهم وتطالبهم بدفع الجزية وهم صاغرون فهم لا حقوق لهم، بل لايجب أن يكون لهم وجود كبشر وكمواطنين، ولذا نرى هذا المناخ ونشاهد هؤلاء المتطرفين أصحاب الفتاوى والتفاسير التى لا تتفق مع صحيح الإسلام الذى يصلح لكل زمان ولكل مكان، وليس هو إسلام العصور الأولى التى لا تناسب الآن المكان ولا الزمان، فيسقطون فقه الواقع ويرفضون ذات الواقع بتحضره وتقدمه بدستوره وبقوانينه، والأهم بمواطنته، التى قدرها الدستور، ولذا نرى هنا وبتلك الممارسات وبهذه التقولات أن الأقباط لا حق لهم فى مواطنة أو فى معايشة.
أما فى الخارج فنفس هذه الممارسات وهذه الفتاوى تتجسد عمليا على أرض الواقع ليس فى مصر فقط ولكن فى كل مكان يملكون فيه اليد الطولى فيحققون ما يريدون، ففى العراق وفى سوريا وهى بلاد يوجد فيها مسيحيون على مر التاريخ بل فى أول الحضارات فقد تم الاعتداء عليهم وهدم كنائسهم ومنازلهم وتهجيرهم عنوة وبقسوة؛ حتى أصبحت هذه الممارسات قضية دولية بمعنى الكلمة، هنا تدخلت دول العالم ومؤسساته فى تلك القضية لحماية المسيحيين من هذه الأفعال وتلك الممارسات، ولكن مع العلم أن العراق وسوريا فى ظل هذه المشكلات فهم يعيشون قمة المشاكل التى جعلت التدخل الدولى قائماً على أرض الواقع وليس بسبب تلك القضية.
ولكن ماهى القصة فى مصر؟ نعم فى العريش تم ويتم استهداف الأقباط كمسيحيين، وهذا يتم استغلاله كورقة ضغط على النظام المصرى وإحراجه أمام العالم، ولا مانع أن يكون هدفهم هو إحداث فتنة طائفية تتسبب فى إحداث هذا التدخل الدولى كيداً فى النظام الذى يريدون إسقاطه بشتى الوسائل وبكل الطرق .
نعم تم تهجير الأقباط من العريش. فهل تم بقرار سياسى؟ بالطبع لا. وهل تم لشعور الأقباط أن الأمن لا يقوم بحمايتهم؟ يمكن أن يكون هذا فيه بعض الصح ولكن وبعيداً عن أى تبريرات لأحد. هل النظام والأمن يحمى نفسه ولا تتم ضده تلك الممارسات التى ينتج عنها عشرات الشهداء من الجيش والشرطة من المسلمين والمسيحيين؟ ما يتم هو حرب بالفعل، ولكنها ليست حرباً ضد عدو واضح وظاهر، ولكنها هى حرب عصابات عانى ويعانى منها كثير من دول العالم بل إذا لم يتم القضاء على هذا الإرهاب فستعانى دول العالم منه بلا استثناء. كما أن طبيعة سيناء هى طبيعة قبائلية لها عاداتها وتقاليدها التى لا تتطابق مع المسيحيين بشكل عام بمعنى أن الاعتداء على بعض رموز القبائل كما يحدث دائما ما تكون المواجهة بين القبائل وبين تلك التنظيمات، وهذا بالطبع لا يسقط دور المواجهة الأمنية، وهنا نذكر أنه فى ثمانينيات القرن الماضى وفى داخل الوادى وفى محافظات مصر كلها خاصة الصعيد ذات الوجود القبطى الملموس كانت تتم الاعتداءات على الأقباط وكان يتم تهجير طوعى منهم بعيداً عن هذه الاعتداءات. وهنا لابد أن نفرق بين تهجير قسرى بقرار سياسى وبين هجرة طوعية واختيار شخص للبعد عن واقع مرفوض لايقدر على مواجهته، وعلى كل الأحوال وعلى الرغم من أن ما تم هجرة طوعية طبيعية حيث إن هناك أقباطاً لم يغادروا العريش وبعض المدن الأخرى، ولكن هذا لايُسقط دور الدولة فى أن تحافظ على هيبتها، فما تم بالرغم من كل الظروف لابد أن تتم حماية مدن سيناء فورا وبكل الطرق حتى يعود الأقباط إليها خاصة من يريد العودة وذلك لحفظ ماء وجه النظام والدولة؛ وحتى لانترك فرصة للمزايدين والمتاجرين من الأقباط المهاجرين خاصة إلى أمريكا أمثال مجدى خليل، والذين باعوا أنفسهم لأجندات ومؤسسات وأجهزة أمريكية، تهدف إلى إحداث دائم لمناخ طائفى يجعلهم متاجرين طوال الوقت بهذه القضية. خاصة أن الخارجية الأمريكية تحمل فى أجندتها فى تقريرها نصف السنوى ما يسمى بتقرير الحالة الدينية، وذلك التقرير الذى يتم إعداده عن طريق تقارير هؤلاء العملاء ومنهم من هم داخل مصر. وهذا بهدف الاستغلال لتمهيد التدخل . حتى وجدنا مجدى خليل يطالب هذه الأسر الوافدة إلى الإسماعيلية وغيرها أن يذهبوا إلى مفوضية الهجرة، ويطلبوا الهجرة لأسباب اضطهاد دينى، حتى يتم تطبيق عقوبات على مصر من الأمم المتحدة خاصة بعد طلب أمريكا عام ١٩٩٨ تمرير قانون يبيح التدخل الدولى فى حالة اضطهاد الأقليات الدينية. وهنا إذا كان هؤلاء المرتزقة يدعون حماية الأقباط وحل مشكلاتهم، فلماذا لا يأتون إلى مصر ويمارسون دوراً سياسياً على أرض الواقع الذى يجب أن يعايشوه الآن، ذلك الواقع المتغير طوال الوقت فما كان فى السبعينيات غير ما هو كائن الآن. ولكن هؤلاء يشاركون من يريد التدخل فى شئون الوطن بل يشاركون من يريدون هدم الوطن. فهم يريدون إفراغ مصر من أقباطها، كما فعلوا هم وهاجروا وباعوا أنفسهم للشيطان . فهل هناك فارق بين هؤلاء وبين ما تقوم به تلك التنظيمات، فعلى الرغم من أن ممارسات الإرهاب عملية وممارسة هؤلاء نظرية فالنتائج واحدة. فهؤلاء يريدون إفشال زيارة السيسى لأمريكا فهذا لمصلحة من؟ أليس هذا هو ما يفعله وما يريده الإخوان ومن معهم؟ قضية هجرة الأقباط لها ما يبررها على أرض الواقع وتدخل الدولة وضعها فى وضعها السليم. وقضية المواطنة دستورية، ولكنها تحتاج إلى نضال طويل وشاق؛ لكى تتحقق لكل المصريين وليس للأقباط فحسب. فهى تتطلب تغيراً سياسياً واجتماعيًا وثقافياً؛ حيث إنها قضية ترتبط بالتراكمات التاريخية الموروثة. فالمواطنة للجميع والمشاكل تصيب الجميع والوطن للجميع على الرغم من كل المتطرفين.