أكد اللواء محمد إبراهيم عضو المجلس المصري للشئون الخارجية أن مصر قادرة على إنجاز ما تريد إنجازه في كل المجالات، بشرط توافر الإرادة القوية مع حسن الإدارة.
ودلل اللواء محمد إبراهيم على هذه الحقيقة بتسليط الضوء على إحدى المعارك السياسية والدبلوماسية والقانونية الدولية التي خاضتها مصر لتحرير واسترداد جزء غالٍ من الوطن وهو طابا، في ملحمة سياسية وقانونية وتاريخية وجغرافية انتصرت فيها مصر ببراعة حتى عادت طابا إلى حضن الوطن، وتم رفع العلم المصري عليها خفاقًا في التاسع عشر من مارس عام 1989.
وأشار اللواء محمد إبراهيم ـ في مقال بمجلة الأهرام العربي، بمناسبة ذكرى تحرير طابا، تحت عنوان (عناصر النجاح والدروس المستفادة من تحرير طابا) ـ إلى أن طابا كانت آخر قطعة أرض تمكنت مصر من تحريرها من الاحتلال الإسرائيلى، بالدم والجهد والعرق، لنعلن بكل إباء وعزة وشموخ تحرير مصر كامل تراب أرضها الطاهرة في سيناء، بعد معركة سياسية ودبلوماسية وقانونية شرسة استندت على نتائج انتصار حرب أكتوبر 1973 العظيمة.
وأكد أن الدروس المستفادة من ملحمة طابا لا حصر لها، وتحتاج إلى صفحات وصفحات لسرد هذه الدروس، ووضعها أمانة أمام كل المصريين في الحاضر والمستقبل، ومن ثم، فلا يمكن لنا أن نتحدث عن هذه الملحمة ونحصرها في الإطار التاريخي فقط، لكن الأهم أن نظهر كيف مثلت هذه الملحمة النموذج الأسمى للنجاح والتميز، إذا ما أرادت الدولة أن تحقق بقدرات أبنائها وتفانيهم العديد من المعجزات.
وأضاف: وقبل أن أخوض في توضيح هذه الدروس، أود أن أشير باختصار شديد إلى كيفية ظهور مشكلة طابا حتى تم حلها، وذلك كما يلي:
- قررت إسرائيل إتمام انسحابها النهائي من سيناء في 25 إبريل 1982 طبقًا لما كان متفقا عليه، لكنها استثنت طابا الواقعة على رأس خليج العقبة من الانسحاب، بدعوى أن علامة الحدود التي توضح موقع طابا (المعروفة باسم العلامة 91) غير ظاهرة وغير موجودة داخل الأراضي المصرية.
- حرصت مصر على ألا تحول هذه المشكلة دون إتمام الانسحاب النهائى الإسرائيلى من سيناء، ووافقت على إبقاء هذه المشكلة محلًا للخلاف ما دامت هناك آلية حل منصوص عليها في المعاهدة.
- شكلت القيادة السياسية المصرية لجنة وزارية على أعلى مستوى، التي عرفت باسم اللجنة القومية العليا لطابا في مايو 1985، وأوكلت إليها مهمة عودة طابا للسيادة المصرية.
- وقعت مصر وإسرائيل مشارطة التحكيم – بعد عدم نجاح وسيلتي المفاوضة والتوفيق – في سبتمبر 1986، واستطاعت مصر بجدارة خبرائها النص على حصر مهمة هيئة التحكيم في نقطة رئيسية، وهى تقرير موضع علامات الحدود الدولية، وليس البحث في إعادة ترسيم خط الحدود.
- قررت هيئة التحكيم في أعقاب المرافعات والوثائق التي قدمها الجانبان - المصرى والإسرائيلي - أحقية مصر في طابا، في سبتمبر 1988، وبالتالي انسحبت إسرائيل من طابا ورُفع العلم المصري عليها في 19 مارس 1989.
وفي هذا المجال، من الضروري أن أشير إلى أهم عناصر النجاح التي تضافرت جميعها لتبلور لنا في النهاية هذه الملحمة الوطنية، وهى في نفس الوقت تصلح لأن تكون الدروس المستفادة لنتعلم منها ونتدارسها، لتكون لنا نبراسًا وطريقًا لتخطى أصعب العقبات التي يمكن أن تواجهها الدولة في أى وقت، وهو ما يمكن تحديده في العناصر الثلاثة عشر التالية:
- العنصر الأول: تأكيد مصر التزامها بكل الاتفاقات الموقعة ومن بينها معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية، حيث تم التحرك المتتالي لحل مشكلة طابا من خلال ما نصت عليه المادة السابعة من المعاهدة، بحل أي خلافات بشأن تطبيق المعاهدة من خلال التفاوض أولًا، وإذا فشل يتم التوجه إلى التوفيق بين الجانبين، وإذا فشل يحال الخلاف إلى التحكيم.
- العنصر الثانى: توافر الإرادة السياسية للدولة في حل هذه المشكلة، حيث بُلورت كقضية قومية يلتف حولها كل الشعب المصرى وليست مجرد قضية فرعية أو ثانوية.
- العنصر الثالث: تحديد الهدف من المفاوضات في هذا الملف بشكل واضح وقاطع، وهو عدم التفريط في أي سنتيمتر من الأرض المصرية مهما كان الثمن، وقد كان هذا هو المبدأ الرئيسي والعنوان المقدس، الذي تحرك على أساسه طاقم التفاوض المصرى في مئات الجلسات التي عقدت مع الطرف الآخر على مدار خمس سنوات.
- العنصر الرابع: تحرر الدولة من جميع الضغوط الداخلية والخارجية التي يمكن أن تمثل عامل إزعاج تعوق تحقيق الهدف، سواء عامل الوقت الذى لم يكن سيفًا مسلطًا على المفاوض المصري، أو عدم ترك الفرصة لإسرائيل لتعطيل المفاوضات أو نسفها مهما كانت الأسباب، بل نجحت مصر في الضغط على إسرائيل من خلال رفض عودة السفير المصرى إلى تل أبيب إلا إذا وافقت الأخيرة على تحويل المشكلة إلى التحكيم، وهو ما تحقق بالفعل.
- العنصر الخامس: اختيار طاقم التفاوض المصرى بصورة متأنية، حيث ضم الوفد المصرى كل الخبرات المهنية المحترفة في كل التخصصات، ومن جميع المؤسسات المصرية المعنية دون استثناء، بالإضافة إلى وجود قيادة قانونية للوفد (الدكتور نبيل العربى) كانت تحظى باحترام دولي كبير.
- العنصر السادس: التنسيق الكامل بين كل المؤسسات والهيئات المعنية بمتابعة هذا الملف المهم وإزالة كل القيود الإدارية وغيرها من القيود، حتى أصبح هذا التنسيق فاعلًا ومؤثرًا، وأستطيع أن أجزم هنا أن هذا التنسيق كان تنسيقًا مذهلًا وغير مسبوق.
- العنصر السابع: الثقة المطلقة التي أولاها الشعب المصرى لقيادته السياسية وقناعته بقدرتها على حل هذه المشكلة، وهو ما عكس بالتالي ثقة كل من القيادة والرأي العام في طاقم التفاوض.
- العنصر الثامن: تفاني طاقم التفاوض المصرى في العمل، وبذل الجهد المضني المتواصل بعيدًا عن البحث عن أي مصالح أو مزايا شخصية أو ظهور إعلامي غير مرغوب فيه كان من الممكن أن يأتي بنتائج سلبية، وكان هناك حرص من الدولة على أن تكون المعالجة الإعلامية للقضية هادئة ومختصرة ومرشدة، وألا يترك الأمر لأصحاب وجهات النظر أو التوجهات المعروفة مسبقًا حتى لا تؤثر على سير المفاوضات.
- العنصر التاسع: التنسيق المتواصل والمراجعة المستمرة بين القيادة السياسية وطاقم التفاوض، للوقوف على أي مستجدات، وتلقي التوجيهات الضرورية مع الاتجاه لتغيير تكتيك العمل وأسلوب التفاوض كلما كان الأمر ضروريًا.
- العنصر العاشر: قدرة المفاوض المصرى على تفهم تحركات وأهداف وتكتيكات طاقم التفاوض الإسرائيلي الذي انتهج أساليب عديدة، من بينها ما يمكن أن أسميه بـ "التفاوض النفسي"، الذي استهدف إرهاق الجانب المصرى بتفصيلات مزعجة، أملًا في دفعه للتسليم مبكرًا، ومن ثم الموافقة على الحجج الإسرائيلية، وهو ما لم يحدث نظرًا لإدراك الوفد المصرى طبيعة عمل وأسلوب المفاوض الإسرائيلي، وقد انتهج الجانب المصرى بنجاح ما يمكن أن أسميه "سياسة النفس الطويل".
- العنصر الحادي عشر: اندماج الأحزاب السياسية عن قناعة في المنظومة الوطنية للدولة لتحقيق أهدافها القومية، ولعل وجود الدكتور وحيد رأفت القيادي الوفدي الكبير، كأحد أهم الخبراء القانونيين في وفد التفاوض المصرى لخير دليل على هذا الأمر.
- العنصر الثاني عشر: التحرك الخارجي المكثف من جانب القيادة السياسية والمؤسسات المعنية بالملف، مع بعض الدول للحصول على كل الأدلة والوثائق والبراهين الموجودة لدى هذه الدول، التي تؤكد تاريخيًا أحقية مصر في طابا.
- العنصر الثالث عشر: نجاح الجانب المصري ووفده التفاوضي في احتواء الطرف الوسيط وهو الولايات المتحدة الأمريكية، الذي كان موجودا خلال المفاوضات، وإبعاده عن التحيز للجانب الإسرائيلي من خلال ما أبداه الوفد المصرى خلال كل المباحثات، من قناعة وجدية وموضوعية وتمسك بالأدلة القانونية وتصميم على التمسك بالهدف.
وعقب استعراضه الدروس المستفادة، قال اللواء محمد إبراهيم "لا شك أن الدولة المصرية، وهى تدرك حجم هذا الإنجاز، كانت حريصة على تكريم طاقم التفاوض المصري، الذي نجح في استعادة طابا بعد سنوات طويلة من التفاوض الشرس، في مواجهة طرف آخر كان يفرض سيطرته الميدانية على الأرض، وأقام بها بعض المنشآت، ولديه قدرة احترافية على الجدل والمماطلة، وكذلك القدرة على إفشال المفاوضات بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة".
وأضاف "ورغم تأخر هذا التكريم نحو ربع قرن، فإن الأمر الجيد أنه قد حدث بالفعل، حيث كرمت القيادة السياسية المصرية في الثالث والعشرين من شهر إبريل عام 2014، في عهد الرئيس عدلي منصور، أعضاء اللجنة القومية العليا لطابا، ومنحتهم وسام الجمهورية من الطبقتين الأولى والثانية، لتؤكد مصر بذلك أنها لا تنسى على مر التاريخ أبناءها المخلصين الذين قدموا كل الجهد المطلوب من أجل رفع اسم ومكانة مصر عاليا".
وتابع "وفى ضوء ما سبق، لا يسعني إلا أن أؤكد أن مصر قادرة على إنجاز ما تريد إنجازه في كل المجالات، بشرط وجود كل أو معظم العناصر التي سبقت الإشارة إليها، التي أستطيع تلخيصها في معادلة واحدة، وهى توافر الإرادة القوية مع حسن الإدارة".
واختتم اللواء محمد إبراهيم مقاله بالقول "وفي النهاية إذا كنت لن أتعرض لأسماء القامات التي تم تكريمها وما زالوا على قيد الحياة (كاتب هذه السطور ما زال من هؤلاء الأحياء بفضل الله)؛ إلا أنه من الإنصاف أن أشير إلى أن هناك قامات كبرى أسهمت في إنجاز هذه الملحمة، انتقلوا إلى جوار ربهم، قبل أن يروا تكريمهم بأنفسهم، ومنهم الوزيران عصمت عبد المجيد وأحمد ماهر، والسفيران عبد الحليم بدوى وحسن عيسى، والدكاترة حامد سلطان، ووحيد رأفت، ويونان لبيب رزق، ويوسف أبو الحجاج، واللواءات عبد الفتاح محسن، وفاروق لبيب، ومحمد الشناوي، وغيرهم من القامات.. ولن تسعفني الذاكرة بأن أحصى حضراتهم، كما أن هناك جنودًا مجهولين آخرين لا يعرفهم أحد، أسهموا في هذا الإنجاز، ومؤكد لم يتم تكريمهم بغير قصد، وأقول لهم جميعًا إن أجركم سيكون عند الله عز وجل عظيمًا، فقد بذلتم كل الجهد من أجل رفعة شأن بلدكم مصر العظيمة، لذا انتظروا خير الجزاء، فالله لا يضيع أجر من أحسن عملًا".