بقلم – أحمد بان
كل عام تقريبا يلتئم مؤتمر او اثنان أو أكثر فى معظم حواضر العالم العربى والإسلامى أو حتى الغربى، ليناقش ظاهرة التطرف والإرهاب وتتوالى البحوث والدراسات وتسود الصفحات ويتابع الإعلام توصيات كل مؤتمر وبياناته، ثم يوضع كل شىء فى الأضابير حتى موعد انعقاد مؤتمر جديد، تستعاد فيه نفس المقولات والتوصيات، وهكذا نبقى نحن كدول محلك سر، بينما تتطور أشكال التطرف والإرهاب وتبقى الفجوة التقليدية بين الدول المركزية وتلك الكيانات الإرهابية ويبقى السؤال مطروحا.
أظن أن الإجابة تبدأ من تعريف صحيح ومتفق عليه لمفهوم الإرهاب، بحيث نتفق على أن كل استخدام للعنف والإكراه فى سبيل حمل الآخرين على فكرة أو فلسفة أو منهج أو تصور، تحت دعاوى دينية أو وطنية او مذهبية أو إثنية، هو شكل من أشكال الإرهاب المجرم إنسانيا ودوليا، والذى ينبغى ألا يتم التفرقة فى توصيفه إذا مارسه شخص أو تنظيم أو دولة .
مادمنا نتحدث عن خطر يهدد السلم الدولى وحقوق البشر وبنية الدولة الوطنية ووجودها، فيجب أن تتعاون الأسرة الدولية على تعريف للظاهرة وترتيب عقوبات تتوافق عليها بحيث لايبقى أحد فى مأمن من العقاب إذا مارس الإرهاب .
الإرهاب وفقا لذلك هو استخدام فكرة دينية تنتمى لدين من الأديان، سواء كنا نتحدث عن الهندوسية أو البوذية أو اليهودية أو المسيحية أو الإسلام، ونحذر هنا من وسم الإسلام على وجه الخصوص بالإرهاب، رأينا كيف استخدم ترامب مصطلح الإرهاب الإسلامى فى محاولة لتكريس هذا الاتهام الباطل لهذا الدين السماوى الجامع، الذى اعترف بكل الأديان السماوية وكفل حرية الاعتقاد للجميع متجنبا إكراه الناس على الدين امتثالا لأمر الله القاطع لعباده، كما أن الإرهاب هو استخدام فكرة إثنية أو قومية كما حاولت ألمانيا النازية أو إسرائيل الصهيونية، وإذا كانت همة العالم قد اتجهت للقضاء على الإرهاب النازى الذى جسدته دولة ألمانيا على عهد هتلر، فإن الأسرة الدولية تقاعست عن الضرب على يد إسرائيل التى عصفت بحقوق الشعب الفلسطينى ومارست عدوانا منهجيا على شعوب عربية أخرى عبر عقود طويلة منذ تأسيسها فى العام ١٩٤٨.
الإرهاب ظاهرة واحدة فإذا تباين إدراك العالم للمفهوم، فلن يتفق أبدا على سبل المواجهة وستظل منظومة الجور التى ترعاها الأمم المتحدة وتسيطر عليها القوى الكبرى أكبر منتج لظاهرة الإرهاب وأكبر محفز لتطورها وزيادتها
ونحن هنا ربما نتحدث عن قضايا العرب والمسلمين العادلة، التى لاتجد آذانا صاغية داخل جدران تلك المؤسسات الدولية فتعزز فى نفوس البعض خيار الصراع الدائم، وتقسيم العالم إلى معسكرات متصارعة وهى ذات الرواية التى روج لها صامويل هنتنجتون فى كتابه صدام الحضارات، الذى حاول أن يجعله كله تذكيرا ملحا على واجب الناس فى التشبث بالخصومة بين البشر، حتى يفرغ أصحاب المصالح لشئونهم وإدارة العالم الممزق، ونظرته فى الصدام الحضارى ليست أكثر من واجهة براقة لفكرة وممارسة عنيفة جدا هى فرق تسد.
نقطة البدء فى المواجهة هى الاتفاق على مفهوم الإرهاب وتجريمه دون وسمه أو ربطه بدين أو معتقد، يتبع هذا التوصيف والتجريم تحديد العقوبات المناسبة ومكافحة الأسباب التى تؤدى إلى بروزه وظهوره، مثل التعصب المذهبى أو الطائفى أو القومى، قطع الطريق على فكرة الخطأ فى ضبط مفاهيم شرعية كالولاء والبراء والجهاد والدعوة وتحرير تلك المفاهيم على نحو صحيح، التجاوب داخل المجتمعات الإسلامية مع أشواق الناس لتطبيق الشريعة الإسلامية، بتحرير معنى الشريعة باعتبارها مصالح الخلق كما يقول فقهاؤنا حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله، وهذا لن يتأتى إلا عبر إصلاح منظومة التعليم الدينى لتعود جامعة الأزهر مؤسسة دينية خالصة، لاتنشغل بتخريج الطبيب أو المهندس أو المحاسب بل الداعية وعالم الشريعة وغيرها من علوم الدين، دون ان يقطع الأزهر علاقته بالعالم وعلومه التطبيقية والفلسفية كالفسلفة والمنطق، بالشكل الذى يبنى العقلية الناقدة الحرة التى تنفر من الحدية، وتؤمن بالتنوع والانفتاح وقبول الآخر وغيرها من قيم التسامح الغائبة فى واقعنا.
إن من أهم أسباب التطرف فى رأيى هو جهل كثير ممن ينتسبون لعلوم الدين بمقاصد الشريعة وكيفية تحقيقها فى واقع الدولة الوطنية.
كثير من هؤلاء مازالوا أسرى نموذج الولاية السلطانية التى تغذت على أفكار المواردى، التى ربما كانت مناسبة لفقه قرون غابرة لكنها لم تتطور لتصيغ نظرية سياسية متماسكة تصمد لواقع متغير، هناك خلط بين الدين والتدين وعدم وعى بطبيعة العلاقة الصحية بين الدين والدنيا وموقع كل منهم بالنسبة للآخر، هذه الأزمة لا يتحمل وزرها المتطرفون وحدهم هم ومؤسسات التعليم الدينى، بل الدولة الوطنية أيضا لها نصيب كبير من المسئولية فهى لم تقدم عبر قرن من الزمان مايعظم ويرسخ الإيمان بها كصيغة عصرية تقترب من واقع الدولة الوطنية فى الغرب، الذى أمن لمواطنيه دون ضجيج كل ماسعت الشريعة لتأمينه للمسلمين، حتى ان دراسة أجريت لقياس نسبة توافق سلوك دولة مع مقتضيات الشريعة الإسلامية احتفظت فيها دول غير إسلامية بالمراكز الأولى، وهو مايعزز أن الإسلام لم يبدأ من الصفر وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» فى تأكيد على تراكم الحكمة البشرية والإنسانية التى تطورت مسيرتها فى أماكن وتوقفت فى أماكن أخرى مهما رفعت شعارات براقة.
مازالت ثقافة وتشريعات حقوق الإنسان ضمن مسيرة الدولة الوطنية من أكثر بواعث الإرهاب، ولا زلنا نذكر قصة خارجى من الخوارج أمر الوالى أن يحسنوا له العطاء ويكرموا وفادته، فتخلى عن أفكار التطرف ولم يزل يؤكد على أن أفضل شىء ملازمة الجماعة والحياة فى بحبوحتها، لا يغير الطباع القاسية أفضل من البر وحسن التعامل.
تعزز الدولة الوطنية فى بلادنا ثقافة التطرف بضعف مؤسسى فاضح لايقتصر على المؤسسات الدينية بل يمتد لكل مؤسسات التنشئة.
تأملوا واقع التعليم ليس فقط فى مساحة التمويل، بل فى فلسفة التعليم ومخرجاته، كم مؤتمر عقد وكم وزير تغير ورغم ذلك لم يتغير حال التعليم الذى هو نقطة البدء فى أى نهضة، كما أنه نقطة البدء فى مواجهة التطرف والإرهاب، لن يحصن أولادنا من التطرف سوى تعليم عصرى متطور
لابد من استنهاض همة مؤسسات التنشئة الأخرى كالثقافة والإعلام اللذين يلعبان الدور الأخطر مع مؤسسة الأسرة التى تم إضعافها بفعل الواقع الاقتصادى والسياسى الصعب
لاشك أن محاولة استقصاء أسباب ظاهرة التطرف والإرهاب تقصر دونها سطور مقال، لكننا نجمل الأسباب التى من أهمها وجود إرادة سياسية ومؤسسية جادة لمواجهتها، كما يبقى التطرف العلمانى من أهم بواعث التطرف حيث إنه من المعلوم أن الاعتدال يغذى الاعتدال، بينما التطرف يغذى التطرف لذا لابد أن تسعى الدولة لحماية الفضيلة ومن يرغبون فى المحافظة عليها فى اختياراتهم الاجتماعية، كما تحمى الدولة الحق فى التجرد من الفضائل فى اختيارات البعض سواء فى الإعلام أوالثقافة وفى غيرها من مساحات التأثير.
مصر فى معظمها شعب محافظ غيور على دينه وقيمه، ويجب أن يفهم النظام السياسى تلك التركيبة ويحميها إذا كنا معنيين بالبدء فى تلك المواجهة.