الخميس 4 يوليو 2024

ما تيسر من سيرة روحية بنت داعوش (٤)

17-6-2018 | 18:25

حمدي رزق

يوم سقطت أسنان ستى روحية الأمامية من أثر السكرى، وصارت تخجل من الحديث أمام الغرباء، شعرت بغصة فى حلقي، كيف لصاحبة البيان والجمل الموزونة والتشبيهات الفكهة، كانت فكهانية كلامها حلو مزوق، كلامها فى الشتاء فاكهة، كيف لمن تفننت فى النكات، وامتلكت ناصية العديد، وهو فن الحزن المديد، وألقت من الأمثال على مسامع الأجيال، كيف لهذه الحبوبة المحبوبة أن تصمت قليلا فلا تؤنس وحدتى فى هذا العالم الصاخب من حولى، وكان قلبى يتمزق وهى تخفى ضحكتها فى راحة يدها البضة قصيرة الأصابع، أشبه بصوابع محشى الكرنب الذى كانت تتفنن فى حشوه صغيرا يذوب رقة فى الحلة فوق الكانون المحمى بالجِلّة، والجِلّة بكسر الجيم وقود حيوى من مخلفات البهائم مخلوط بتبن يزيد لهيبها أوارا، ولعة الجلة كأنك توقد بنزين ٩٥ وكان حريق شب إذ فجأة، على طريقة ويشب فى قلبى حريق، ويشب فى الكانون حريق، والكانون مينى غرفة نار مصغرة أقرب لتكنولوجيا النانو التى تفنن فيها الراحل العظيم أحمد زويل، نانو فرن بلدى، حجر يمين وحجر شمال وحجر يصل بين الحجرين مكونا مربعا ناقصا ضلعا توضع فيه الجلة، يرتفع الكانون قيمة حجرين، ويسقف بأسياخ حديد تشكل مسطحا توضع عليه آنية الطبيخ، طبيخ الكانون لا يعلو عليه سوى طبيخ بلاطة الفرن البلدى فى حجرة ستى روحية الداخلية ولهذا الفرن قصة ستروى لاحقا.




يوم سقطت أسنانها الأمامية بعد خلخلة طالت لشهور، حزنت كثيرا، أحست بدنو أجلها، وأحسست بألم شديد، وكنت أسرى عنها بقصة الشمس الشموسة وسنة العروسة، وتضحك من قلبها، والحكاية تقول إن الطفل الذى تسقط إحدى أسنانه يغمض عينيه فى مواجهة قرص الشمس، ويصيح عاليا يا شمس يا شموسة خدى سنة الجاموسة وهاتى سنة العروسة ويلقى بالسن المخلوع فى قرص الشمس فلا يبين له أثر، وبعدها تنبت السن تشق اللثة، وتخرج تنبئ عن سن قوية عفية مختلفة كلية عن السن اللبنية، فيتحقق وعد الشمس يوم اقتنصت السن المخلوعة وصهرتها فى أتونها وصنعت منها سنا جديدا.




كم تمنيت أن تقذف ستى روحية أسنانها المخلوعة فى قرص الشمس لينبت لها سن قوية، ولكنها للأسف خلعتها عند «البوشى» وهو تمورجى معتزل فتح محلا لخلع الأسنان بالدوبارة، أظنها الطريقة الأقل ألما التى عايشتها طوال متاعبى مع أسنانى المتوعكة دوما، يلف الدوبارة الرفيعة من حول السن، وهو يقص حكاية الضابط محمد النشال راكب الحصان يوم صارع الشقى سعيد الجرس فى السوق، ويتسلسل فى الكلام كمسلسل إذاعى بصوته القديم الذى يفج من أضابير عمره، ثم ينقض فجأة بحركة عنيفة ومفاجئة، يعقبها ألم صادم ودم غزير يلقم مكان السن بفص ملح رشيدى، يوقد نارا، تعقبها إغفاءة وظلام دامس، ثم خدر لذيذ، وراحة، تذهب إلى غفوة، يوقظ بقلم رقيق على الصدغ غير المتألم، يوقظك لأن هناك مريضا ينتظر دوره ووراءه ضروس كثيرة تحتاج خلعا.




البوشى كان مصدرا من مصادر الخوف والهلع بالنسبة لصغار المدينة الصغيرة، « هوديك للبوشى».. تهديد صريح للطفل الرخم أو الزنان أو المتلهف أو البكّاء، سيرة البوشى تقطع الخلف، البوشى تأديب وتهذيب وإصلاح، لم أسال جدتى روحية عن لقائها مع البوشى الرهيب، حاجة كده مثل فرانكشتين، وعكس ذلك تماما يروى أنه كان رجلا صالحا ودودا طيبا يصلى الوقت بوقته فى الجامع حاضر، ولكنه كان رهيبا على السمع، ويروى عنه حكايات ولا فى الخيالات، خشيت أن أسألها، خفت من البوشى يعرف أنى سألتها فيستدعينى، وأنا لا أريد أن أفقد سنا، ولا أثق فى أن الشمس ستردها مجددا، وعملت تجربة معملية سرا، أخفيت عن جدتى سنا تخلخل ثم عام من العوم، ثم سقط فى صباح مدرسى لطيف، ولم ينزف دما احتفظت به فى جيبى، وقررت أن أدفن سنى بمعرفتى جنب حباية درة فى صفيحة فيها رطش طازج «تراب غيط»، وأرويه كل اليوم بماء من الزير، وكذبت على جدتى وقلت لها رميت السن فى قرص الشمس، وفرحت كثيراً، وغنت معى نشيد الجاموسة والعروسة بصوتها الرائق، ويوم ورا يوم الذرة تطول والسن ينبت، فتيقنت بكذب نشيد الشمس، ولا زلت أحتفظ بهذا السر الذى لم تعرفه جدتى الله يرحمها.




أسنان ستى روحية شكلت عقبة كئود أمام مستقبل هذا الطفل الواعد، والواعد من صفات كثيرة خلعها على شخصى الضعيف الحاج أحمد البهنيهى مدرس اللغة العربية والدين، وللرجل فى عنقى دين سأوفيه فيما هو قادم من سيرة روحية بنت داعوش، وكان يعرفها حق المعرفة ويناديها بأم صلاح نسبة إلى ابنها الأصغر، وتلك قصة أخرى، لماذا تلقب ستى دون نساء البلدة باسم ابنها الأصغر فى حياة ابنها الأكبر، خرقا للناموس، وخروجا عن سلو بلدنا، أى النظام المجتمعى الذى ينظم حركة البشر فى بلدتنا الواعدة.




أقول قولى هذا عندما طالبتنى وأنا الأول على مديرية منوف التعليمية فى الإعدادية بأن أدخل كلية طب أسنان لأركب لها طقما، وشددت الوعد، وحلفتنى بالنعمة والكعبة والمصحف الشريف وكل أيمانات الدنيا والآخرة بأن أدخل كلية الأسنان، وأقسمت ألا تذهب لأى دكتور لتركيب طقم إلا للدكتور حمادة الذى هو أنا،» وإن شاء الله، هيكون أول بق تجرب فيه « تقصد أنها ستتبرع بفمها لتدريبى على طب الأسنان.




شكرت تضحيتها تماماً، ووعدتها كاذبا وقلبى حزين، حاضر يا ستى هطلع دكتور أسنان، وأنا مصمم على أن أكون صحفيا، وكنت أطالع الأهرام يوميا عند عم صالح البقال، ومرة سمعته يتكلم عن بلاغة الأستاذ مصطفى أمين، فتجرأت وسألته هو مين الأستاذ مصطفى ياعم صالح، فأخرج لى صحيفة الأخبار لأطالع فكرة، ونبتت الفكرة، وكل يوم أرويها فى أحلامى من ورا ستى روحية التى صدمتنى بطلبها أن أطلع دكتور أسنان.




لا أستطيع رفضا، ولا أملك اعتراضا، كنت بحبها قوى قوى قوى حتى أكثر من حبيبة قلبى الأولى، ستى روحية كان بابها مفتوحا على السما، دعت دعوة ولية فى ساعة مغربية أن يطلع حمدى ابن رجاء دكتور، وبعد وفاتها بسنين، فإذا دعوتها تصيب ويأتى ترشيح مكتب التنسيق طب أسنان القاهرة.. وتلك نادرة من نوادر روحية بنت داعوش.