كتب: خليل زيـدان

النكسة وحملة المليون جنيه

دأبت أم كلثوم على زيارة لبنان وهو البلد العربي الوحيد الذي حظي بأكثر رحلاتها وحفلاتها .. وكنا رصدنا في حلقتين سابقتين عشر رحلات لأم كلثوم شبه سنوية بما فيها من أحداث أسعدتها وأخرى أزعجتها، منها منعها من الغناء وتعرضها للحريق ونشوب معركة بالكراسي في الحفل الوحيد لها عام 1965 وكادوا يمنعونها من دخول لبنان بسبب انتهاء تصريح العمل لولا أنها كوكب الشرق أم كلثوم .. ووصلنا للرحلة العاشرة لها عام 1966 وهي الرحلة التي اشترطت فيها أم كلثوم تأمين حفلاتها تجنبا لأي أحداث قد تفسد الرحلة وتعكر صفوها، فشدَت في حفلين بقلعة بعلبك للمرة الأولى تحت تأمين من الجيش والشرطة مع تسهيل المرور للجمهور حتى مكان الحفل، وكانت الرحلة الأوفر حظا والأكثر ربحا لها ولفرقتها.

 

ونأتي للرحلة الحادية عشرة وهي الرحلة قبل الأخيرة .. تحديدًا كانت في يوليو 1968 .. أي بعد نكسة 1967 ، وهنا نلتفت في لمحة سريعة للحالة المزاجية لأم كلثوم، هل كانت كما هي بكامل بهجتها؟ .. بالطبع لا .. فقد تملكها حزن شديد بما ألم بمصر والوطن العربي من بعد خديعة حرب 67 التي أدت إلى نكبة أسرت الحزن والانكسار في جسد الوطن .. لكن أم كلثوم لا تعرف الإنكسار ولا اليأس أو الهزيمة .. هنا لملمت أحزانها وعاهدت نفسها ومن معها أن تجاهد في ميدانها كما يجاهد الجندي في ميدانه، إيماناً منها بأن هناك فجر جديد سيشرق على الأمة العربية يبدد أستار الحزن ويزيل آثار النكبة ولن يشرق ذلك الفجر إلا بالعمل والجهد ولن يكون بالحزن والنحيب.

 

كانت الرحلة الحادية عشرة إلى لبنان ضمن حملة لجمع مليون جنيه لصالح المجهود الحربي واستقبلها في مطار بيروت السيدة سلوى السعيد رئيس لجنة الفلكلور والسيدة شفيقة دياب وحشد من المعجبين وكان الحفل الأول لها في تلك الرحلة يوم 12 يوليو 1968 حيث افتتحت أم كلثوم مهرجان بعلبك السنوي الثالث عشر في السابعة والنصف مساء بحضور عدد كبير من الجمهور بلغ حوالي 4500 شخصية على رأسهم الوزير سليمان فرنجيه ممثلًا لرئيس الجمهورية “شارل حلو”، وقدم الحفل الأديب نجيب حنكش في كلمات أسعدت الحضور ورحب فيها بأم كلثوم ، ولأنه تعمد في كلمته تغيير طبقات صوته أثناء ذكر اسمها فهمست أم كلثوم (هو ماله بيعمل كده ليه؟)   غنت في تلك الليلة وصلتين فقط هما (فكروني) و(الأطلال) وكان الحفل الثاني يوم 14 يوليو وغنت فيه أيضاً أغنيتان هما (أمل حياتي) و(بعيد عنك) وأقيم الحفلان على نفس المسرح بمعبد جوبيتر بقلعة بعلبك في مسرح أعد خصيصًا لها بين أطلال المعبد.

 

كانت حصيلة الرحلة مائة وخمس وثلاثين ألف ليرة لبنانية وهو أعلى أجر حصلت عليه فنانة غنت في لبنان وأودعت أم كلثوم تلك النقود لصالح المجهود الحربي .. سعدت كثيرًا أم كلثوم بحفاوة الشعب اللبناني بها وقالت: “أنا سعيدة بحضوري إلى لبنان، أحب لبنان والشعب اللبناني وقريبًا سأغني أغنية لشاعر لبناني من ألحان عبد الوهاب”. كما أقيم لها حفل تكريم في شتورا قلدها فيه رئيس الوزراء اللبناني عبد الله اليافي وسام الأرز الوطني تقديرا لدورها في خدمة الفن وإسعاد الشعب اللبناني.   

الرحلة الأخيرة بدون قانون

ونصل إلى ختام رحلات أم كلثوم حيث الرحلة الأخيرة لها في شهر يوليو 1970 وتنفيذاً لوعدها

في الرحلة الماضية بأنها ستغني من كلمات شاعر لبناني فقد أقيم لها في رحلتها هذا العام

حفلين بنفس المكان وهو مسرح جوبيتر بقلعة بعلبك ، كان الحفل الأول يوم 8 يوليو وغنت فيه

وصلتين ، كانت أولاهما قصيدة (هذه ليلتي) للشاعر اللبناني جورج جرداق والوصلة الثانية

أغنية (إسأل روحك) والحفل الثاني أقيم يوم 11 يوليو وغنت فيه أيضاً أغنيتين وهما (ودارت

الأيام) و (اقبل الليل) .

 

وحسب ما جاء بكتاب جورج ابراهيم الخوري في وصف الحفل الأول فقد حضر الحفل قرابة

خمسة آلاف مستريح في مقعده وألف يقف على أطلال المعبد ، انفرجت الستارة وحيت أم كلثوم

الحضور وقدم هذا الحفل أيضاً نجيب حنكش الذي سعد كثيراً باختيار ادارة المهرجان له ليقدم

حفل كوكب الشرق وألقى كلمته ترحيباً بأم كلثوم التي سعدت بها وضحكت لنجيب وهو يغادر

المسرح ، وبسرعة عاد إلى مكانه في الصف الأول هامساً للخوري .. كيف شفت كلمتي .. كانت

منيحة ؟ رد عليه الخوري بهمس أيضأ : ولو .. نسيت اني اللي كتبت لك اياها؟

 كانت الفرقة في تلك الليلة من أضخم الفرق في رحلات أم كلثوم إلى لبنان حيث كونت من 20

عازفاً غاب عنها أحب وجه إلى قلب أم كلثوم وعشاق فنها وهو محمد عبده صالح عازف

القانون الأشهر الذي صاحبها في كل أعمالها منذ عام 1929 حتى أوائل عام 1970 ..

واستهلت أم كلثوم الحفل بهذه ليلتي التي حضر ناظمها جورج جرداق في الصف الأول مع

الخوري وحنكش وسعيد فريحة ، وأبدعت فيها ولعبت بقلوب وأعصاب محبيها ، ومن طرائف

هذا الحفل أن خرج رجل من الجمهور عن شعوره فقام بشد شعره عدة مرات بجانب زوجته

التي أخذت تلوح بمنديلها الطويل فرحة في زوجها الذي سقط شعره من نشوة الطرب ، ورجل

آخر حلبي من عشاق الطرب ظل يصرخ : ثوما ، تقبري قلبي ، حتى بح صوته فطلب من جاره

أن يصيح بدلاً منه ، وانسجمت سيدة ثرية عربية وظلت تصرخ من جراء ما تفعله بهم أم كلثوم

فانفعلت السيدة وقذفت بفروها الثمين في الهواء وسقط على رأس الخوري .. واستبدت السعادة

والفرح بالسيدة سلوى السعيد رئيس لجنة الفلكلور بالمهرجان فقفزت من مقعدها في منصة

الشرف بجانب الوزير اللبناني فؤاد غصن والسفير المصري ابراهيم صبري لتبحث عن جورج

جرداق لتحييه وتهنئه على روعة كلماته.

 

 وفي الوصلة الثانية من تلك الليلة غنت أم كلثوم (إسأل روحك) ومن طرائف هذه الوصلة عند

الدقيقة 56 لمحت ثومة أحد أصدقائها هائماً منتشياً يذوب من شدة الطرب وبجانبه زوجته

المتضايقة من هيام زوجها فقلبت أم كلثوم كلمة من الأغنية بعد 25 ثانية من شوف القسوة

بتعمل ايه .. إلى شوف (اليأس) بيعمل ايه !! فانفجر الجمهور بهتاف مدوٍ يطلب منها الأعادة

وغطت جريدة النهار الليلة الأولى لكوكب الشرق بتقرير لها عنوانه 5 آلاف آهة لبنانية وعربية

.

ونأتي للساعات الأخيرة في رحلتنا .. وهي ليلة الأحد 11 يوليو حيث الحفل الثاني والأخير في

رحلات أم كلثوم إلى لبنان .. شدت في هذه الليلة أغنيتين هما (ودارت الأيام) واختتمت بـ (أقبل

الليل) .. وفي الأغنية الأخيرة صولوا قانون عزفه معها من قبل محمد عبده صالح  ، لكن الليلة

لم يعد معها .. ووفاء منها لقائد فرقتها وزميل عمرها ورحلتها لم تستعن بعازف قانون غيره ..

فمن  الذي يملأ مكان عبده صالح ؟ .. بدأت أم كلثوم الغناء وعند الدقيقة 22 تنتهي من الكوبليه

الثاني لتبدأ اللحظات الحرجة .. فهنا كان من المفترض أن تبدأ المقطع الثالث وفيه عزف منفرد

على القانون لعبده صالح فألغـت أم كلثوم الصولو واكملت بدونه وغنت : تقبل الدنيا على أهل

الهوى، فصاح الجمهور وصفق وكأنها لمسة وفاء لصاحب الأوتار الذهبية .. وكأنه يقول لها ..

نعم لن ننساه .. ولن ننساكِ أبد الدهر يا أم كلثوم .

 

 إلى هنا تنتهي رحلات أم كلثوم بجمالها وصعابها وشجونها .. وبقى أن نذكر أنه تم تكريمها

بأرفع الأوسمة اللبنانية خلال رحلاتها وهي وسام الإستحقاق اللبناني المذهب ووسام الأرز

الوطني برتبة كومندوز ووسام الأرز الوطني برتبة ضابط أكبر.