سيد قطب من صنع الأسطورة؟
إذا كان سيد قطب على هذا النحو أى لم تكن له علاقة مسبقة بالضباط الأحرار قبل ٢٣ يوليو، فكيف تكونت أسطورته تلك والأساطير المحيطة به، من أنه كان العقل المدبر والمحرك للضباط الأحرار قبل ١٩٥٢، وأنهم بقيادة عبد الناصر نفسه كانوا يحجون إلى بيته فى حلوان، أفرادا ومجموعات يلتقون به وينهلون من علمه «وخبرته العميقة» ويستمعون إلى توجيهاته، السياسية والفكرية ويعرضون عليه خططهم ليباركها، ويقرها أو يعدل منها، وأنه هو من أطلق على التحرك «ثورة» حتى قبل أن تقوم بأيام وليس بعد قيامها، رغم أن نجيب وعبد الناصر وبقية الضباط، لم يطلقوا على خطتهم ثورة ولا حتى حركة، بل كانت حتى مساء ٢٤ يوليو عملية لإصلاح الجيش من داخله.
من وقف وراء أسطورة أو أساطير سيد قطب؟ من قام بتخليقها وصناعتها، والأهم من ذلك كله، من هيأ الأذهان لتقبل تلك الأساطير والنسج عليها لسنوات طوال من عطل ومنع العقلية النقدية تجاه أساطير قطب، وحولها إلى كرة الثلج التى تكبر وتتضخم كلما تدحرجت، وإذا ازداد حجمها تشظت إلى كرات أخرى جديدة ومتعددة، أى أساطير عديدة بعضها كبير وبعضها صغير.
حين أعاد الرئيس السادات الإخوان فى السبعينيات تجنبوا نشر كتب وأعمال سيد قطب، وكانوا يتحدثون عنه فى أضيق الحدود، تحدثوا عنه بما يدعم مظلومية الجماعة والاضطهاد زمن الرئيس عبد الناصر، وترك الإخوان للجماعة الإسلامية بالجامعات أن تتولى نشر بعض أعمال سيد قطب، مثل كتاب «هذا الدين» ونشر فى سلسلة «صوت الحق» وقت أن كان يشرف عليها حلمى الجزار، القيادى بالإخوان فيما بعد وإلى يومنا هذا، ومع نهاية السبعينيات أخذت كتب سيد قطب تنشر على نطاق واسع، نشرًا عامًا، ويلفت الانتباه أن كتابه «معالم فى الطريق» كان ينشر بدون رقم إيداع فى دار الكتب المصرية، ومع ذلك سمح بمروره، ومشاركته فى معارض الكتاب المختلفة بالعالم العربى لعشرات السنوات، وكانت جماعة الإخوان بعيدة فى الظاهر عن هذه العملية، ولم تكن دار التوزيع الخاصة بالجماعة ودور النشر التابعة لها، تتولى النشر أو التوزيع.
كانت هناك مؤسسة ضخمة تقف خلف سيد قطب، هذه المؤسسة اسمها محمد قطب، شقيق سيد الذى كان يقيم بصفة نهائية بالمملكة العربية السعودية، ويعمل أستاذا بجامعة الإمام هناك، وله تلاميذ كثر يدرسون عليه ويشرف على رسائلهم الجامعية، فضلًا عن أنه هو أيضًا كاتب، وكان يسير على خطى شقيقه، بل يمكننا القول أن أعمال محمد قطب فى مجملها ليست سوى شروح وهوامش على كتب أخيه سيد، مثلًا يصف سيد، العالم ومجتمعنا المعاصر بأنه مجتمع الجاهلية، وجاهلية العصر أفدح عنده من جاهلية القدماء، فيعد محمد كتابًا ضخمًا باسم «جاهلية القرن العشرين» يشرح فيه مظاهر الجاهلية المعاصرة، وهكذا الحال فى معظم كتبه، أما الرسائل التى أشرف عليها فكانت على هذا النحو من التفكير والتناول، وكانت الظروف مواتية تمامًا لمحمد قطب، كى ينشر على نطاق واسع أفكار سيد، كانت مواتية سواء فى المملكة العربية السعودية أو فى مصر وفى بلاد المنطقة بأكملها، وقد استغل هو هذا الظرف جيدًا.
واستفاد محمد من عدة أمور، أهمها أنه فى شبابه كان يعمل بدار الكتب المصرية، وظل وهو فى السعودية على تواصل بكثير من زملائه الكتاب والأدباء فى مصر، يغذيهم بما لديه من أقوال وآراء حول سيد، سوف نجد ذلك باديًا بوضوح فى مقال سليمان فياض بالهلال عن سيد،عدد سبتمبر ١٩٨٦، وغيره من الكتابات، وحكايات محمد كلها ليست فى جوهرها سوى مجموعة أساطير.
وكان محمد محظوظا بأن الله منحه العمر الطويل، ولد سنة ١٩١٨ وتوفى فى مطلع ٢٠١٤، أى عاش ٩٦ عامًا، قضى معظمها فى الترويج لشقيقه، كاتبًا ومؤلفًا وأسطورة.
ويمكن القول أن عام ١٩٧٩ كان فارقًا تمامًا وصار تربة خصبة لأفكار سيد التكفيرية.. فى هذا العام وقعت أربعة أحداث كبرى، كل منها فى بلد بالمنطقة، ودفعت جميعها الكثير من الشباب وحتى من غيرهم إلى جماعة الإخوان وأفكار سيد قطب تحديدًا، وهى على النحو التالى:
أولًا: قيام الثورة الإيرانية بقيادة آية الله العظمى خمينى وغيره من آيات الله، وقد جذبت هذه الثورة الكثيرين، سواء الكارهين للسيطرة الأمريكية على الحكام وبلدان المنطقة، والرافضين للطغيان وللاستبداد ممثلًا فى شاه إيران محمد رضا بهلوى، وهؤلاء كانوا من الليبراليين واليساريين، أما بالنسبة للإسلاميين والمتأسلمين، فكانت تعنى أن يتم الدفع برجال الدين ليقودوا التغيير، ويعرضوا أجندتهم، ولما كان المذهب السنى لا يسمح بما يسمح به المذهب الشيعى لرجال الدين، ولا يمنحهم نفس النفوذ والقوة أتحدث هنا عن علماء الأزهر، تقدم المتأسلمون والإخوان ليأخذوا هذه الخطوة، تأثرًا بإيران ومنافسة «سنية» مع المذهب الشيعى وآيات الله.
فى هذا المناخ كان محمد قطب شقيق سيد جاهزًا ومستعدا بالكتابة وبالأساطير التى اخترعها عنه. وكان الكثيرون لديهم الاستعداد للتصديق والأخذ بها، خاصة بعد أن تردد تأثر بعض آيات الله فى إيران بأفكار قطب، وتحديدًا كتابه «معالم فى الطريق» الذى ترجم مبكرًا إلى اللغة الفارسية.
الثورة الإيرانية جعلت اليساريين والقوميين والإسلاميين فى موقع واحد تقريبًا، وتبارى المترجمون لترجمة كتاب الخمينى «الحكومة الإسلامية» إلى اللغة العربية ونشره بالقاهرة، وهنا تقدم الإخوان خطوة على الجميع، إذ راحوا يؤكدون أبوتهم لثورة خمينى، ويتباهون بقديم العلاقة بينهم، وهنا أيضا لم نسمع من أى تيار آخر، اعتراضه على الحكم الدينى فى إيران، بل راحوا يتقربون إليه.
ثانيًا: فى نفس السنة وعقب الثورة الإيرانية، قام الرئيس السادات بتوقيع معاهدة السلام مع إسرائيل الأمر الذى أثار عليه الجميع، اليساريون والقوميون والناصريون والإسلاميون أيضًا، وهكذا التقى الجميع فى موقف واحد، كل لديه أسبابه ودوافعه، واتخذت الدول العربية موقفًا رافضًا للمعاهدة ومنددا بها، وقام خمينى بإشعال المزيد من النار فى الموقف، حين راح يندد بالسادات وسياساته، وقطع علاقات إيران مع مصر، وهنا تبارى الجميع فى أمر رفض المعاهدة، وكان الإخوان جاهزين وأعيدت طباعة كتاب سيد قطب «معركتنا مع اليهود» والذى كان فى الأصل مجموعة مقالات، المهم أن الإخوان وسيد قطب تحديدًا سجلوا حضورًا فى هذا الموقف وسبقا أيضًا.
ثالثًا: بعدها بشهور جرت عملية احتلال المسجد الحرام أثناء موسم الحج، وقاد هذه العملية الإرهابية جيهيمان العتيبى وزعمت هذه المجموعة أنها فعلت ذلك تطبيقًا لشرع الله، وذهب هؤلاء إلى أن حكام المملكة لا يقيمون شرع الله، بعدها جرى اهتمام واسع داخل المملكة بأن يثبتوا لهؤلاء الإرهابيين وأتباعهم أن المملكة ليست أقل غيرة على شرع الله، وهكذا وجد الإخوان بالمملكة وفى المقدمة منهم محمد قطب متسعًا وفرصة أكبر لبث أفكارهم، التى هى فى الأصل أفكار سيد قطب التكفيرية، كما وردت فى معظم كتبه خاصة «فى ظلال القرآن» وكذلك «معالم فى الطريق» وغيرهما، ولدىّ نسخة من كتاب سيد «العدالة الاجتماعية فى الإسلام»، كانت تباع فى القاهرة، مكتوب على غلافها طبعة مجانية، على نفقة وزارة التربية والتعليم بالمملكة.
وما جرى فى المسجد الحرام وجد إعجابا من بعض المثقفين المصريين والعرب، بمنطق رفض السياسات السعودية ومكايدة المملكة، ولم ينتبه هؤلاء فى النهاية أن ما تم فى الحرم، هو فى النهاية عملية إرهابية، وأنهم يريدون جر المملكة إلى مزيد من التشدد وليس إلى الانفتاح، وهذا ما جرى فعليًا.
ومؤخرًا اعترف سمو الأمير محمد بن سلمان ولى عهد المملكة أنهم دخلوا منذ سنة ١٩٧٩ فى مرحلة أضرت كثيرًا بالمجتمع السعودى، جرى فيها تحريم كل الفنون ومنعها و.. و...
المهم أن ما جرى فى ١٩٧٩ بالمملكة كان يقود ويدفع الجميع هناك نحو سيد قطب وأفكاره.
رابعًا: ولم يكد ينتهى عام ١٩٧٩ إلا بدخول القوات السوفييتية أفغانستان، لحماية نظام نجيب الله الماركسى من تمرد بعض الجماعات الإسلامية المدعومة من باكستان ومن المخابرات البريطانية والأمريكية، وطبقًا لمستشار الأمن القومى الأمريكى آنذاك «وليام كوانت» فإن السوفييت دفعوا دفعًا إلى التدخل العسكرى، وكما قال هو للرئيس كارتر إنها «فيتنامهم الخاصة» نسبة إلى حرب فيتنام التى استنزفت وأهانت الجيش الأمريكى.
وبرغبة وبراجماتية أمريكية شديدة جرى تسويق حرب أفغانستان باعتبارها عدوانا شيوعيا - ملحد وكافر ضد الإسلام، كانت هذه الحرب فرصة أمريكية لتوجع السوفييت فى إطار الحرب الباردة، وجرى جر معظم الدول العربية إلى المستنقع الأفغانى، هنا كان المرشح مجددًا للبروز أفكار سيد قطب، فذهب هناك تلميذه المباشر عبدالله عزام، وهو الذى سيجند أسامة بن لادن، فى حرب أفغانستان وبين المقاتلين الذين جاءوا من معظم الدول العربية كتبت حياة جديدة لأفكار سيد قطب ومؤلفاته وكتبه، وكان لابد من خلق أساطير جديدة حول حياة صاحب الظلال والمعالم وكان معمل محمد قطب جاهزًا لإفراخ تلك الأساطير.. ومن دائرة محمد وجماعة الإخوان، بدأنا نقرأ ما يلى عن سيد قطب..
- قضى سيد المرحلة الأولى من حياته ملحدًا.. إباحيًا، ثم هداه الله إلى الإسلام، وبالتحقيق والتدقيق ثبت أنه لم يلحد ولم يرتكب شيئًا من تلك الأفعال التى يطلق عليها «انحلالًا»، كان محافظا طوال حياته.
- سيد كان المعلم والموجه للضباط الأحرار، وأن عبدالناصر وصحبه جلسوا أمامه يتعلمون منه ويتلقون تعليماته وتوجيهاته.
- كتاب سيد «العدالة الاجتماعية» كان الإنجيل الخاص بالضباط الأحرار، منه تشربوا أفكارهم ورؤاهم الإصلاحية، لكنهم طبقوها بعيدًا عنه، فلم يفلحوا.
- كتاب العدالة الاجتماعية، ملىء بالتكفير فى أجزائه الأخيرة، تكفير المجتمع كله وليس الحكام فقط، وهو البداية الأولى لكل أفكاره فيما بعد.
- عرض الضباط الأحرار على سيد سنة ١٩٥٤ منصب وزير التربية والتعليم، لاسترضائه، لكنه أبى، لأن الضباط لم يلتزموا منهجه.
- تم تعذيب سيد قطب فى السجن وأدخل عليه عدد من الكلاب البوليسية الجائعة لتنهشه ليلًا فوجدته ساجدًا لله تعالى، فهدأت الكلاب وراحت تحميه طوال صلاته.
الادعاء الأخير، قال به الشيخ كشك على المنبر فى خطبة الجمعة، ثم عبئت الخطبة فى أشرطة كاسيت جابت العالم العربى كله.
والثابت أن سيد لم يضرب فى السجن، ولم يكن هناك حاجة للتعذيب، فقد قدم اعترافات كاملة بكل شىء من اللحظة الأولى.
- هو الذى اكتشف نجيب محفوظ وقدمه للقراء، رغم أن نجيب كان ينشر منذ سنة ١٩٣٤، والذى اكتشفه وقدمه سلامة موسى.
- بعد الحكم بالإعدام أرسل إليه عبدالناصر يعرض عليه أن يفرج عنه ويعينه نائبًا لرئيس الجمهورية أو أى منصب يحدده هو مقابل أن يؤيده سيد ويبارك سياساته ولكنه رفض تمامًا.
- قبل الحكم عليه طلب منه، عبر المسئولين عن القضية، أن يكتب التماسا للرئيس عبد الناصر للإفراج عنه، وهم يتعهدون له بإتمام الإفراج.. فرفض وقال «إن كنت سجنت بحكم الحق فأنا أرتضى حكم الحق، وإن كنت سجنت بالباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل».
وحول هذه العبارة قام كتاب الإخوانى اللبنانى محمد على قطب عن سيد.
وكل تلك الأساطير تنطلق من أكاذيب، لم يعرض أى منصب وزارى على قطب، وفى تصريح أو شهادة سابقة للشيخ محمد الغزالى أن أقصى ما كان يمكن أن يعرض على قطب - ولم يعرض - منصب وكيل وزارة التربية، ونعرف أن سر أزمة قطب مع حكومة الضباط الأحرار أنه لما استقال من وظيفته كمفتش فى المكتب الفنى بديوان الوزارة، لم يعرض عليه منصب أكبر فيها.. ولو أنهم عرضوا عليه منصبًا داخل الوزارة لهلل فرحًا.
والثابت أيضًا أن جهودا وضغوطا خارجية بذلت على الرئيس عبدالناصر كى يوقف عقوبة سيد قطب، ولكنه رفض، ليس تعنتًا، ولكن الأمر بالنسبة لسيد صار مختلفًا، فقد أفرج عنه ناصر وخرج مباشرة ليفكر ويخطط لاغتياله، ومن قرأ تقرير سيد قطب فى السجن، الموقع بتاريخ ٢٢ أكتوبر ١٩٦٥، يلمس من إحدى الفقرات، أنه يتمنى لو تم العفو عن زملائه وأن يشمله العفو معهم.
ومن يعرف طرق الرئيس عبد الناصر فى الإدارة واختيار كبار المسئولين بالدولة يعرف أنه كان من المستحيل أن يفكر فى الاستعانة بسيد لأى منصب، وإذا لم يفكر فى منحه أى منصب سنة ١٩٥٢ وسنة ١٩٥٣ وهو يتيه حبًا فى الضباط الأحرار، ويعتبر ما قاموا به فى ٢٣ يوليو عملًا يليق بمطالع «النبوات» فهل كان ممكنا أن يمنحه منصبا وقد رفع السلاح على النظام السياسى وعليه هو شخصيًا؟!
كل هذا شيء، والحاجة إلى خلق أسطورة شىء آخر.. كان تنظيم الإخوان الذى أخرجه السادات من الكهوف والظلمات بحاجة إلى غسيل اسم وسمعة، وتقديم نفسه بطريقة ونماذج أسطورية أمام الأجيال الجديدة، لا تسمح لهم بأى موقف أو رؤية تجاه أفكار التنظيم وسلوكه وهكذا جرى منح حسن البنا لقب «الإمام الشهيد» وهو لم يكن إمامًا ولم يكن شهيدًا.
ومن يعرف معنى الإمامة وشروطها فى الفقه والفكر الإسلامى يرى أنها لا تنطبق نهائيًا على حسن البنا، وهو لم يمُت شهيدًا، بل قتل فى عملية ثأر، مثل تلك التى تحدث إلى يومنا هذا فى الكثير من بقاع مصر، هو أمر بقتل الخازندار والنقراشى باشا، فقتل فيهما.
ومنح اسم سيد قطب، لقب الشهيد أيضًا، ولا تنطبق عليه الشهادة، وسوف نعود إلى هذه النقطة مرة ثانية.
لحظة ١٩٧٩ وحالة الضعف التى كان اليسار يتجه إليها، وكذلك ضعف القوى الليبرالية والعلمانية والتى لم يكن بمقدورها حتى أن تفصح عن نفسها، وأجواء معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية وثورة إيران، جعل أسطورة قطب تنتشر ويتسع نطاقها فى كل أنحاء المنطقة وليس فى مصر فقط.
ويمكن القول أن لدينا مستويات مختلفة لمن أخذوا بتلك الأساطير، ومن تحركوا وفقها وإن شئنا الدقة جمهور وأشياع تلك الأساطير.
هناك جماعة الإخوان التى استفادت من أسطورة سيد لتدعم حكايات الاضطهاد والمظلومية زمن عبد الناصر، صحيح أن قدامى الإخوان لم ترحب بانضمام سيد إلى الجماعة سنة ١٩٥٣، وكانت الشكوك تحيط به، ربما بسبب انتمائه القديم إلى المحفل الماسونى المصرى وتمتعه بموقع بارز فيه، وتقلباته الحادة، وفى عام ١٩٦٥ حين عرف بين الإخوان القدامى أمر التنظيم الذى يقوده سيد داخل الجماعة، تصور بعضهم أنه دسيسة أمنية عليهم، لتخريب الجماعة من داخلها، وكاد أحدهم أن يذهب إلى المباحث العامة، التى أصبحت مباحث أمن الدولة فيما بعد ليبلغ عنه، أما وقد أعدم، ومنحوه لقب الشهيد، قرروا الاستفادة من حكاية الإعدام وتوظيفها لصالحهم.
هناك من الإخوان من استفاد من الأسطورة لتحويل أفكار سيد إلى واقع فعلى، وهكذا نما الإرهاب وازدادت تنظيماته، كان شكرى مصطفى أمير جماعة المسلمين «التكفير والهجرة» الذى اختطف وقتل فضيلة الشيخ محمد حسين الذهبى، تلميذا مباشرا لسيد وكذلك كان عبد الله عزام أستاذ أسامة بن لادن، وأيضًا أيمن الظواهرى، وأظن أن كل تنظيمات العنف والإرهاب فى العالم الإسلامى المعاصر تلتقى بخيوط مع فكر سيد قطب والأساطير الشخصية حوله، تأثيره وصل أيضًا إلى بعض التنظيمات غير السنية.
الجماعة طوال العقود السابقة كانت تتجنب الاحتفاء العلنى بسيد قطب، كما يفعلون مع حسن البنا، مثلًا وبعضهم انتقد أحيانًا أفكار قطب فى التكفير مثل يوسف القرضاوى، سنة ٢٠٠٩ فى نقابة الصحفيين، غير أن الملاحظ أن القطبيين كان صوتهم يرتفع داخل الجماعة وتمكنوا فعليًا من إحكام السيطرة على الجماعة، حتى إن المرشد العام د. محمد بديع، تلميذ مباشر من تلاميذ سيد قطب، وكان معه فى التنظيم سنة ١٩٦٥، نائبه خيرت الشاطر من القطبيين ولما انتقد القرضاوى أفكار قطب سنة ٢٠٠٩ رد عليه د.محمد مرسى لقد تعلمنا صحيح الإسلام من كتاب «معالم فى الطريق» وكان د. مرسى وقتها زعيم مجموعة الإخوان فى مجلس الشعب المصرى.
خارج جماعة الإخوان وتيارات الإسلام السياسى، انتشرت أسطورة سيد، ووجدت من يروج لها عن إيمان واقتناع بين بعض المثقفين الكبار، صحيح أن هناك كتابا ومثقفين كبارا قدموا دراسات وأعمالا مهمة تفند أفكار سيد قطب وتكشف عوارها، لكن هناك من آمنوا بأسطورة أو أساطير سيد قطب، حتى إن مجلة الهلال فى العام ١٩٨٦ جعلت من سيد قطب بطلا عبر ثلاثة أعداد متتالية وكان هو بالصورة وبالعنوان بطل الغلاف فى عددين منها، ولم يحدث ذلك طوال تاريخ المجلة العريقة مع أى من الكتاب أو المفكرين العرب الكبار، بمن فيهم جورجى زيدان مؤسس الهلال نفسه، وانطوت المقالات الثلاثة على الإشادة الباذخة بسيد قطب، فى شخصيته وكتبه وأفكاره. كان الأول فى سبتمبر١٩٨٦ وكتبه سليمان فياض ثم تلاه مباشرة د. الطاهر مكى وأخيرًا د. سعيد إسماعيل على فى عدد نوفمبر.
إحدى هذه المقالات -عدد أكتوبر١٩٨٦- كانت للدكتور طاهر مكى، أول رئيس تحرير لمجلة «أدب ونقد» التى يصدرها حزب التجمع، وهو أستاذ قدير للأدب العربى وعضو بمجمع اللغة العربية، من أبناء دار العلوم ونال جائزة النيل فى الأدب قبل وفاته.
د. مكى أعاد نشر مقال الهلال فى صحيفة دار العلوم كمقال افتتاحى للعدد ٤٤ الصادر فى فبراير ٢٠١٣ وكان رئيسًا لتحريرها.
عنوان المقال لافت «سيد قطب وثلاث رسائل لم تنشر».
المقال ينطوى على افتتان بسيد قطب وإعجاب شديد به، وتبنى كل ما قاله سيد عن نفسه وما قاله عنه الإخوان.
يقول د. الطاهر مكى فى بداية المقال.. «أما سيد قطب فلم يكن بعد الداعية الإسلامى الكبير، وإنما ذلك الأديب المتوهج، يقرض الشعر ويؤلف فى النقد ويمضى مع حركات التجديد الوافدة من الغرب، فى حذر تمليه طبيعة الدراسة وتؤكده أخلاق القرية».
من حق د. الطاهر أن يرى سيد فى بداياته، هكذا أديبا متوهجا ويمضى مع حركات التجديد، الوقائع تثبت غير ذلك، لكن هذا رأيه.
بعد قليل يصف د. الطاهر تلك الرحلة التى وصفه فيها بالتوهج إنها «مرحلة الضياع» يقول «هذه الفترة من حياة سيد قطب ١٩٢٥ -١٩٣٩، يمكن أن نطلق عليها مرحلة الضياع، فقد كان هذا الشاب الذى سوف يدخره القدر ليلعب أعظم دور إسلامى، وليجيء فى القمة مع كبار دعاة الإسلام ومفكريه فى عصرنا الحديث، غارقا أيام الطلب وبعد تخرجه فى المذاهب والتيارات الثقافية الأوربية التى أخذت تتدفق على مصر مع الاحتلال والبعثات والترجمة.
كُتاب الإخوان هم الذين اعتبروا فترة سيد فى الكتابة النقدية والإبداع الأدبى، فترة تيه وضياع، أو فترة انحلال، فكيف لأستاذ فى الأدب العربى أن يتبنى هذه المقولة وذلك الموقف دون أن يكون لديه دليل عليه؟
ومن قال إن سيد كان غارقًا فى المذاهب والتيارات الأجنبية، حين كتب الشعر اتجه إلى القصيدة التقليدية، ولم يكن مجددًا ولا من دعاة التجديد فى كتابة الشعر، ولما اتجه إلى كتابة الرواية، لم يكن يقلد الأوربيين، وإنما حاول أن يكون مثل أساتذته، خاصة د. طه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل، أى الناقد الذى لا يكتفى بالنقد فقط، بل يكتب أعمالًا إبداعية، كانت تلك سمة كتاب ذلك العصر من المصريين والعرب، عبد الرحمن بدوى كان أستاذا للفلسفة، وكتب الشعر وكتب الرواية أيضًا وغيره وغيره: أما أنه كان غارقًا فى التغريب، فذلك فهم الإخوان ومن اتبع وجهة نظرهم فى تحول سيد إليهم .
على أن أخطر ما ورد لدى د. مكى هو القول الذى ادخره القدر ليؤدى «أعظم دور إسلامى ويأتى فى القمة مع كبار دعاة الإسلام ومفكريه فى عصرنا الحديث».
سيد الذى أحيا فكر الخوارج وجعل تكفير المسلم وغير المسلم الأصل فى التعامل مع الناس وقدم صورة مشوهة للإسلام ومن بين صفحات كتبه تخرج تنظيم القاعدة وداعش والنصرة وغيرها وغيرها..؟
سيد الذى أسقط نهائيًا معنى الوطن والوطنية، واعتبر الوطن حفنة من تراب عفن، يعتبر صاحب أعظم دور إسلامى، إذن ماذا عن الأستاذ الإمام محمد عبده والشيخ مصطفى عبدالرازق والكواكب ومحمد إقبال وغيرهم وغيرهم؟!
ويتحدث د. مكى عن بعثة سيد قطب إلى أمريكا، فيقول «واضح أن ذهاب سيد قطب إلى الولايات المتحدة.. كان وليد تخطيط أمريكى خفى، بعيد عن سيد قطب نفسه بداهة ولم يعرفه أكيدًا».
وفى العام الماضى قمت بنشر وثائق بعثة سيد قطب إلى الولايات المتحدة فى كتاب صدر عن دار الكتب والوثائق القومية، وثبتت الوثائق أن البعثة وردت منحة إلى وزارة المعارف العمومية بثلاثة أفراد وترك للوزارة أن تختارهم وتسميهم، وأن سيد لم يكن من المقرر أن يسافر، لكنه سعى سعيًا دءوبًا لدى إسماعيل القبانى للسفر، ولما أخفق فى الكشف الطبى طلب استثناءه من نتيجة الكشف واستجاب القبانى، ثم عجز عن السفر فى الموعد المحدد، وطلب استثناءه وأجيب إلى طلبه من القبانى أيضًا ولم يكن للولايات المتحدة تخطيط خاص لسفره، وثبتت الوثائق أيضًا أن سيد هو الذى قدم نفسه للصحافة الأمريكية باعتباره صاحب رؤية تقوم على أن الإسلام يمكنه محاربة الشيوعية فى مصر، وهذا ما كانت تخطط إليه وتسعى نحوه المخابرات الأمريكية ووزارة الخارجية والبيت الأبيض أيضًا.
د. مكى تبنى تمامًا مقولات الإخوان ومحمد قطب عن سيد قطب، ولم يكن وحده فى ذلك، فعلها سليمان فياض أيضًا فى روايته عن علاقة سيد بضباط يوليو، قبل الثورة وبعدها.
المفكر الكبير د. حسن حنفى كال المديح لسيد قطب فى دوريته «اليسار الإسلامى»، ثم فى كتابه الدين والثورة فى مصر، الذى صدر سنة ١٩٨٧، كثير من الكتب والمفكرين «المستنيرين» أخذوا واحتفوا بسيد قطب وتبنوا كل ما قاله الإخوان عنه، ومنحوه لقب الشهيد، بينما تجاهلوا مثلًا اسم شهدى عطية الشافعى.
والحق أن شهدى ينطبق عليه وصف الشهيد، هو لم يحاكم ولم ينسب إليه تأسيس تنظيم للعنف، كان يساريًا فقط، وصدر أمر باعتقاله ولم يعرض على النيابة، ومات من التعذيب، من الناحية الأدبية، ترك شهدى الشافعى مجموعة من القصص القصيرة نشرت فى جريدة المساء وعدد من الصحف، ولديه دراسة مهمة عن توفيق الحكيم، وحصل على الماجستير من جامعة أوكسفورد فى الأدب، وقام الباحث الأدبى الدءوب والمتميز شعبان يوسف بجمع وتقديم رواية لشهدى بعنوان «حارة أم الحسينى» كانت نشرت على حلقات فى جريدة المساء، ومع ذلك تم تجاهل شهدى تمامًا من معظم المثقفين والكتاب، بينما احتفوا بسيد قطب وأفكاره.
والحقيقة أن وقائع ١٩٧٩ فرضت إعجابًا خاصًا بأفكار الإخوان وسيد قطب تحديدًا وفى مصر يمكن أن نضيف واقعة أخرى جرت سنة ١٩٨١ وهى اغتيال الرئيس محمد أنور السادات.
التنظيم الذى اغتال السادات كان من المتشبعين بأفكار سيد قطب وشخصيته ويجب القول بأن الرئيس السادات ساءت علاقته بالمثقفين والكتاب وكثير ممن اختلفوا مع سياساته، وكثير من هؤلاء لم يحزنوا على اغتياله، ولم يروا فى عملية الاغتيال عملًا إرهابيًا، بل اعتبروها عملًا بطوليًا نادرًا إلى حد أن قاتل الرئيس السادات عندما صدر الحكم عليه بالإعدام، وقع عدد من المثقفين وكبار الشخصيات العامة، بيانًا طالبوا فيه الرئيس الجديد (حسنى مبارك) بأن يعفو عن القاتل أو تخفيف الحكم عليه.
كتاب «خريف الغضب» لمحمد حسنين هيكل يتبنى هذا الإعجاب الشديد وعدم التعامل مع عملية الاغتيال باعتبارها عملًا إرهابيًا وعدم النظر إلى منفذى العملية باعتبارهم إرهابيين، بل نتيجة طبيعية، الراحل أحمد فؤاد نجم له قصيدة فى الإشادة بقتلة السادات د. حسن حنفى أصدر كتابًا فى بيروت كله إشادة بالإسلامبولى، واعتباره شهيدًا، هذا الإعجاب، صب فى النهاية لصالح سيد قطب، وأصبح نموذجًا وأيقونة لدى الكثيرين.
ولما شذ عن هذا الاختيار السياسى والمفكر اليسارى د.رفعت السعيد واعتبر قتلة السادات إرهابيين وسيد قطب أمير التكفيريين، أنهم من شباب الرفاق بأنه مباحث وأنه عميل أمن الدولة.
كثيرون يتعاملون بمنطق عدو عدوى صديقى، وهكذا تعامل الكثيرون من كارهى سياسات السادات مع قتلته.
هذا الإعجاب جعل بعض المثقفين الكبار جدًا والمستنيرين جدًا يعجبون بسيد قطب ويرددون الأساطير عنه، ربما ربما بقدر ما فعل الإخوان.
رغم أن هذا المنطقي يقودنا فى حالات كثيرة إلى نتائج كارثية.
والنتيجة النهائية أن سنوات الثمانينيات والتسعينيات، وحتى ١١ سبتمبر ٢٠٠١ كانت سنوات الازدهار لأفكار سيد قطب والأساطير حوله.
ورغم أن العالم أخذ يراجع هذه الأفكار بعد ١١ سبتمبر، لكنها عندنا ظلت متغلفة، حتى خرجت إلى العلن بعد ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، وحكمت مصر سنة ٢٠١٢، وحكمنا سيد قطب من قبره لمدة عام، وهب الشعب المصرى فى ٣٠ يونيو بثورة شعبية كاسحة، هى فى جوهرها ضد أفكار وفلسفة سيد قطب.