تقرير : شريف البرامونى
سيظل النشيد الوطنى الجزائرى «قسما» علامة فارقة فى التاريخ النضالى للأمة الجزائرية، والتى خاضت حربًا ضروسا للتحرر من الكيان الاستعمارى الفرنسى الغاشم، حتى تجلى فى ٥ يوليو عام ١٩٦٢، منذ هذا التاريخ، والذى عرف فيما بعد بعيد الاستقلال الوطني، أخذت جبهة التحرير الجزائرى تبحث عن مفردات تشكيل الوعى الحماسى والثورى للجيل الذى تصدى لرصاص المستعمر دون خوف أو فزع، فقط من أجل أن يحيا هذا الوطن.
بدأت فكرة النشيد الوطنى الجزائرى أوائل صيف ١٩٥٥ بحسب قول وزير الإعلام الجزائرى الأسبق، الأمين بشيشى فى حوار أجرته صحيفة الشعب الجزائرية فى الذكرى الخمسين لعيد التحرير وذكر «أن فكرة كتابة نشيد وطنى بادر بها حسين بالميلي، حيث فاتح رفيق دربه فى النضال عبان رمضان بأهمية تأليف نشيد وطنى جديد خاص بجبهة التحرير الوطنى عوض الأناشيد التى تطبع الساحة الثورية، فحزب الشعب كان له نشيد «فداء الجزائر»، فيما جمعية العلماء المسلمين لها نشيد «شعب الجزائر مسلم»، أما أحباب البيان والحرية لهم نشيد «من جبالنا طلع صوت الأحرار»، لذا طُلب من القيادى الأخضر رباح والمجاهد بن يوسف بن خدة رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة طرح الموضوع على الشعراء لانتقاء ما يناسب هذا المشروع الوطني، ولكن بشرط أن يراعى المعايير التالية: أن يحتوى النشيد طلب الشباب الالتحاق بالثورة تحت لواء جبهة التحرير الوطني، وكذا توعد فرنسا الباغية، وتحاشى ذكر أى شخص مهما كان ماضيه أو حاضره النضالي.
وبدأ البحث عن الشاعر الأول وهو مفدى زكريا، ناظم الدرة المكنونة «فداء الجزائر».
هكذا استقرت جبهة التحرير على اسم الشاعر مفدى زكريا، وينطلق بعد ذلك الأخضر فى رحلة أخرى للبحث عن ملحن ليعبر بالنص الشعرى إلى تعبير غنائى يستطيع من خلاله لهب مشاعر الشباب، جاء فى البداية لحن الفنان الراحل «محمد التوري» بمساعدة الفنان «قدور الصرار» وصل حينها إلى النسخة الأولى للنشيد عام ١٩٥٦ يقال إن مفدى زكريا قام بتوزيع اللحن بنفسه على الفريق الغنائي، رغم ذلك لم يخرج هذا اللحن بسبب بعض الظروف التى حجبت النسخة الأولى من النشيد الوطني.
النسخة الثانية من النشيد جاءت على يد الملحن التونسى «محمد التريكى» بمعاونة كل من د لعساكر والسيد باكللى بابا باحمد الملقب بـ « بلال» يذكران أن مفدى جاء مع الناصر محمد عند السيد عمار الدخلاوى وقام الثلاثة بالاتصال بجمعية الطلبة الميزابيين فى تونس من أجل تكوين فريق إنشاد له مميزات خاصة تندرك تحت أصوات حادة وأخرى خشنة وقد قام الموسيقار محمد التريكى بتدريب الطلبة الميزابيين وتسجيل النشيد فى أمسية واحدة يرافقهم على آلة عود فقط، بقى النشيد يردد بصوت المجموعة السالفة الذكر حتى حل شهر إبر يل ١٩٥٧ عندما فتحت الإذاعة التونسية قناتها «لصوت الجزائر» فأراد السيد محمد التريكى أن يعطى بعدا أكبر للنشيد خصوصا ولم يعد الطابع السري.
ثم كانت المرحلة الثالثة من إعداد النشيد على يد الملحن المصرى الكبير محمد فوزى والتى أخذت مساحة من الجدل الكبير حول إمكانية الملحن المصرى صاحب الألحان الشبابية والخفيفية فى إنتاج لحن ثورى ذات طابع وطنى هذا الجدل الذى دار بين محمد أبو الفتوح رئيس قسم «برامج المغرب العربى» والإذاعى المصرى بإذاعة صوت العرب أحمد سعيد وكان من تقاليد الإذاعة أن تسلم النصوص تباعا حسب ترتيب قائمة الملحنين. وقد ارتأى الأستاذ أبو الفتوح بأن النص الجزائرى ثورى وحماسى واعتبر أن من آل إليه الدور ترتيبا وهو محمد فوزى فنان رقيق مشهور بألحانه العاطفية وأغانيه اللطيفة للأطفال فأحجم عن تسليمه النص خوفا من تشويه معانيه.
فاقترح أبو الفتوح على محمد فوزى إعطاءه نصا آخر يناسب أسلوبه فى التلحين فرفض وذهب يشتكى إلى مدير إذاعة صوت العرب الأستاذ أحمد سعيد الذى أقنع أبو الفتوح بضرورة احترام الترتيب وانتظار النتيجة.
تبقى قضية المدة الطويلة التى ذكرها الأستاذ توفيق المدنى وهى خمسة أشهر بعد تسليمه النشيد لإذاعة صوت العرب مثارا للانتباه إذ نعتبر أن الجدل بين أبو الفتوح ومحمد فوزى لم يكن ليستمر طوال هذه المدة لكننا نميل إلى الاعتقاد بأن كلمات النص أو بالأصح فقرة من فقراته بالخصوص كانت سببا فى الأخذ والرد بين المسئولين المصريين فيما بينهم من جهة وبين عناصر الوفد الخارجى الممثل للثورة الجزائرية من جهة أخرى.
ولعل الفقرة التى مطلعها « يا فرنسا قد مضى وقت العتاب « هى التى كانت مثار الأخذ والرد ليس فقط على مستوى إذاعة صوت العرب بل على مستويات أعلى من مسئولى هذه الإذاعة.
المهم أن نص نشيد «قسما» بلحنه الجديد من وضع محمد فوزى وصل إلى تونس فى صيف ١٩٥٧ بأداء المجموعة الصوتية لإذاعة صوت العرب قوامه أربعة مقاطع بدل خمسة والمقطع المحذوف هو الذى تعرض بالاسم إلى فرنسا كما حذفت كلمة فرنسا فى البيت الثانى من المقطع.