الأحد 2 يونيو 2024

ستار الجهل المبين فيما يقال عن مجانية التعليم

22-3-2017 | 13:23

بقلم : د. عبد اللطيف محمود محمد

يحلوا للبعض دائما وضع العربة أمام الحصان، خاصة عندما تثار قضية مجانية التعليم فى مصر،الأمر الذى يثيرالكثيرمن علامات التعجب والاستفهام، فكلما عجزالبعض أوفشل فى وضع حل أو تفسيرحقيقى لأزمة اقتصادية أو اجتماعية يواجهها، يسرع بوضع مجانية التعليم فى قفص الاتهام، ويجعلها تتحمل وحدها وزر تردى الأحوال، ووقوع الأهوال، سواء داخل النظام التعليمى أو خارجه، ناكرين لجميل تمتعهم بها وأنها كانت سببا لكل ما حازوه من نعم المال أو جاه المنصب والسلطان، كما يتناسون عمدا ويتجاهلون كون مجانية التعليم تمثل فى حقيقتها المخرج والحل لكافة الأزمات والمشكلات التى يسببها تدنى ناتج البنية الاقتصادية أوالأداء منخفض الكفاءة والمهارات اللازمة للإنتاج عالى الجودة والقيمة.

 

 

تلك حقيقة تذكرنا بها كافة تجارب الأمم الماضية والحاضرة، بل وتاريخنا المعاصر، حيث تلازمت حالة نهضة مصر زمن محمد على وجمال عبدالناصر، بالتوسع فى التعليم ومجانيته كحل وحيد لتعبئة وتهيئة طاقات الأمة لمرحلة تحول وانطلاق نحو الأفضل، بل كانت المدارس فى عهد محمد داخلية أى تتكفل الدولة بكافة أوجة الإنفاق على طلابها، تشجيعا لهم على مواصلة التعليم والتفرغ الكامل لتلقيه، علما بأن هؤلاء الطلاب كان معظمهم من فئات الشعب الفقيرة وأيضا كان من بينهم أبناء الأمراء والوجهاء وأصحاب الوظائف (الميرى)، لكن أنفاق الدولة شمل الجميع دون النظر لاختلاف مستواهم المادى، باعتبار ذلك من مسئولياتها الأساسية وتطبيقا لمبدأ العدالة، كما أنها كانت وحدها صاحبة معظم الوظائف والأعمال التى سيشغلها الطلاب بعد تخرجهم وفق شروطها وحاجاتها وخططها.

أسرع هذا المشروع بإنضاج عمليات التطوير والتحديث للمجتمع المصرى اقتصاديا واجتماعيا وفكريا، وحول طاقاته لإنجاز دولة حديثة وقوية ومؤثرة إقليميا ودوليا فى أقل من عشرين عاما.

وقد بهر هذا الإنجاز التعليمى الكثير من الدول فأرسلت إلى مصر البعثات التعليمية والخبراء للاطلاع عليها، من أشهرها على سبيل المثال البعثة التعليمية اليابانية التى حضرت إلى مصر وبقيت بها عدة سنوات قبل أن تغادرها بعد أن تعرفت على تجربة محمد على فى تحديث التعليم والصناعة فى مصر معتمدا سياسة تكفل الدولة لكلفة التعليم فى كل مراحله وأنواعه.

وعندما قامت ثورة يولية ١٩٥٢، ورغم التاريخ الممتد لنظام التعليم المصرى كان الوضع التعليمى للمصريين سواء من حيث الكم أو الكيف ينحصر فى فئات القادرين ماديا أو أصحاب الحظوة السياسية لدى من يصل للحكم من الأحزاب السياسية، كما كان يقتصربناء المدارس فى الأغلب على المدن والبنادر الكبرى، ويكاد ينعدم فى القرى والريف إلا من بعض المدارس الأولية الأقرب إلى الكتاتيب القديمة فى عملها وبنائها، كما غلبت على التعليم الاهتمامات النظرية والأدبية دون المجالات الفنية والعلمية المتخصصة التى تعد كوادر العمل الإنتاجى للصناعات المتقدمة، وقف عقبة حقيقية أمام تنفيذ المشروع التنموى الطموح الذى أعدته حكومة الثورة للبلاد منذ عام ١٩٥٣م من خلال خطة ما عرف بمجلس الإنتاج القومى، والتى كانت تهدف منه لنهضة شاملة تغير بنية المجتمع وأنماط وهيكل إنتاجه.

كان البديل أمام الثورة هو العمل على التوسع فى تطبيق المجانية بالتعليم الابتدائى وزيدت مدة الدراسة به إلى ست سنوات وألغيت المدارس الأولية ذات الأربع سنوات والمنتهية كمرحلة، تقبل عادة من أبناء الفئات التى لا تقدر على مواصلة مراحل التعليم الأعلى، كما تم إنشاء المرحلة الإعدادية، وطبقا لما كان معلنا منذ حكومة الوفد الأخيرة قبل الثورة من مجانية للتعليم الثانوى وأنجزه عميد الأدب العربى طه حسين كوزير للمعارف، حيث ظل يطبق بشكل محدود نتيجة لقلة عدد المدراس الثانوية فى مصر كلها، وصاحب ذلك القيام بأكبر عملية نشر للتعليم وبناء المدارس للمراحل المختلفة بكافة المناطق، وتم الاهتمام بالتعليم الفنى ومهد ذلك لتطبيق المجانية فى التعليم الجامعى، وهو ما مكن مصر من إنجاز المشروعات الزراعية والصناعية الكبرى التى لازالت مصانعها ومزارعها، تعطى وتسهم فى الناتج القومى، رغم كل ما تعرضت له من إهمال متعمد ومؤامرات بيع ونهب وتصفية.

بافتراضنا حسن النية لدى من توجعهم مجانية التعليم، فإنه يجدر بنا إزالة أسباب ما لحق برؤيتهم من حالة عمى مؤقت تصاحب عادة ما ضرب حولهم لسنوات من ستار الجهل فيما يتعلق بقضية مجانية التعليم.

وتعبير «ستار الجهل» ليس اتهاما لهم، لكنه وصف لحالهم قال به المفكر الأمريكى «جون رولز» الذى غير مفاهيم الاقتصاد السياسى الليبرالى حول ما كان معروفا بقضية العدل الاجتماعى فى مؤلفه الشهيرعام ٢٠٠١ بعنوان «العدالة كأنصاف» وأصبح بعدها محور ارتكاز ودليل عمل لكافة واضعى السياسات الاجتماعية فى أمريكا ودول الاتحاد الأوربى والتى تعمل جاهدة لرأب الصدع الاجتماعى الذى خلفه تبنى سياسات الاقتصاد الليبرالى لقوانين تعتمد على تسليم كل مفاتيح الاقتصاد الوطنى فى يد آليات السوق، ونذكر مفكرا اقتصاديا وسياسيا أمريكيا لعلمنا بافتتان كارهى ومتهمى المجانية بكل ما هو أمريكى، وانطلاقهم للأسف من مقولات تخلت عنها منذ فترة السياسات الاقتصادية للفكر الليبرالى، لكنهم لازالوا كما يصفهم «جون رولز» تحت تأثير ستار الجهل والذى -كما يقول - يمنعهم من رؤية حقيقة أن الإنصاف هو أساس بناء القدرات اللازمة لإنجاز التقدم وحماية المجتمعات سياسيا وأخلاقيا.

ويبقى الرد على أصحاب اتهام المجانية، فيما يتعلق بمدى الجدوى الاقتصادية المباشرة لمجانية التعليم، سواء كعائد اجتماعى أو فردى، وهنا ندعوهم للاطلاع على بحوث عالم أمريكى من أصل يونانى يعد المؤسس لعلم اقتصاديات التعليم هو «باسكاربولس»، وخلاصتها تثبت أن كلفة إشاعة الجهل أعلى وأخطر على المجتمع، من كلفة توفير تعليم مجانى للجميع، وأن الحاجة تزداد لتوفير المجانية للجميع كلما كان المجتمع مقبلا على عمليات تحديث لإنتاجيته، أو تغييرات فى بنيته الاقتصادية والاجتماعية الأمر الذى يتطلب تآزرا اجتماعيا وحشدا لكل الطاقات للعمل والبناء.

كان ما سبق يمثل ردا على وكلاء الفكر الليبرالى التقليدى فى مجتمعنا من كارهى مجانية التعليم، على لسان مفكرين يعيشون ليبرالية متطورة أردنا أن نوضح من خلالهم كذب ادعائهم عليها لعلهم يعلمون مدى سقوطهم العلمى والأخلاقى وأنهم يسبحون ضد تيار المعرفة الاقتصادية والسياسية فى العالم المعاصر، وتطورات ما يعرف بأخلاقيات العلم الاجتماعى والذى بات ينطلق من منهجية كفالة وحماية الحقوق الأساسية للناس ووضعها فى مواثيق دولية موقع عليها رسميا من أغلب دول العالم، فى مقدمتها حق كل إنسان فى تعليم متميز وكاف وكفؤ يعمل على كشف وتنمية قدراته وإطلاق حركتة وحريته الاجتماعية ويحسن نوعية حياته ويصون إنسانيتة وأن يكون دون تمييز أو عقبات.

أما مناقشة المسألة فى إطارها الوطنى فيكشف مدى الغبن الكامن فيما تحملة دعوة المدعيين ضد حق المجانية فى التعليم والصحة والحماية الاجتماعية، وهنا نذكرهم بحقيقة تاريخية وهى أن جمال عبدالناصر لم يخترع أيا من تلك الحقوق، لكنه كان فقط سباقا فى تحويلها من فكرة هائمة إلى حق من حقوق المواطنة يتمتع بها الجميع، وأن على الدولة أن تكفلها وتحميها وتوفرها لمواطنيها دون تفرقة، لذلك حولها إلى نصوص دستورية ملزمة لمؤسساتها كدولة راعية وعادلة.

وبدأت المشكلة بعد رحيل جمال عبدالناصر حين تخلت الدولة عن مسئولياتها الاجتماعية وتحولت إلى دولة جابية، وبدأت تتأفف وتتخفف من التزاماتها الاجتماعية متحججة بأزمتها المالية وبضعف الاقتصاد مرة، وحاجتها للمساعدة والمعونة داخلية أو خارجية مرات، وسلكت فيما يتعلق بالتعليم سياسة توصف بالتجويع التعليمى، خاصة للفقراء الذين وصلت نسبة من يعيش منهم تحت خط الفقر ما يقرب من ٤٠٪ من السكان، فكونها لا تستطيع الفكاك من النص الدستورى الملزم لها بحق المجانية فى المدارس الحكومية للمواطنين، تركت الباب مفتوحا لمن يريد الدخول إليها، لكنها ونتيجة لشح متعمد فى تمويل التعليم وإهمال متفق عليه للقائمين عليه ماليا ومهنيا، تحولت المدارس الحكومية « لصندوق أسود» لا نعرف ما يجرى فيه إلا بعد وقوع كارثة هنا أو هناك، حينها تنطلق الأصوات متهمة المجانية بالجرم، وهم فى ذلك كمن يتهم المريض بمرضه، فإما أن يدفع ثمن شفائة أو يدفع حياته إن لم يستطع.

وزيادة فى تخلى الدولة عن مسئولياتها تركت التعليم فريسة وضحية سهلة لتجارب ومغامرات استثمارية مشبوهة سياسيا وفكريا، فتعددت أسماء المدارس والجامعات ما بين إسلامية وإنجليزية وفرنسية ودولية... وشوهت المقررات وأهملت اللغة العربية ومكونات الهوية الثقافية والوطنية، وأصبحت تلك المدارس أقرب إلى فنادق وبوتيكات تعليمية غالية الثمن رخيصة القيمة والدور كونها زادت من حدة التفاوتات الطبقية والتمايزات الاجتماعية بين أفراد المجتمع نشاهدها ماثلة فى شوارعنا كل صباح عندما تتنوع أشكال الباصات والأزياء المدرسية التى يرتديها الأطفال والطلاب، وهى لا تعبر إلا عن تفاوت فى القدرات المالية لأسر دون غيرها مخلفة تشوهات نفسيه وسلوكية وقيمية تراكمت فى المجتمع عبر السنين مؤدية إلى ما نراه حين يهاجم مجانية التعليم بعض من يغطى عيونهم ستار الجهل وغشاوة الظلم، فهم يحاولون تحقيق ما وعدوا به من تمايز اجتماعى عندما التحقوا أو ألحقوا أبناءهم بتلك البوتيكات التعليمية غالية الكلفة، والتى لم تمنحهم للأسف أى تمييزعلمى أو مهارى عن أقرانهم، فلازال أوائل الشهادات العامة من مدارس الفقراء ولازال من يبنون الوطن ويحمونه هم أبناء الفقراء، وهذا ما يؤكد للجميع أن الأوطان تبنى بالإنصاف ولا تبنى بالإجحاف.